أسطورة الوحدة الوطنيّة والعيش المشترَك
أسطورة الوحدة الوطنيّة والعيش المشترَك
مجاهد ديرانية
عُقد في قطر قبل عدة أيام مؤتمرٌ لبحث "الوحدة الوطنية والعيش المشترَك"، قرأت خبره فعجبت منه عجباً شديداً، من الموضوع ومن التوقيت ومن الهدف الذي عُقد من أجله.
لا يبدو أن المقصود هو العيش المشترك بين العرب السنّة وغيرهم من الجماعات العرقية والدينية، من أكراد ونصارى وإسماعيليين ودروز وسائر الأقليات الصغيرة، فإن هؤلاء جميعاً معتادون على العيش المشترَك منذ الأزل ولا مشكلةَ في علاقة أي منهم بالآخرين. لقد عاشوا بسلام وانسجام قروناً طِوالاً فوق أرض واحدة، وسوف يستمرون كذلك بعد الثورة، لأنهم يعلمون أن النظام اعتمد على مجرمين وخَوَنة من كل الطوائف والأعراق، وأن الثورة شارك فيها أيضاً أحرارٌ من كل الطوائف والأعراق. ولئن كانت هُويّة الثورة إسلاميةً فإن هذا هو البديهي الطبيعي في ثورة شعبٍ ثلاثةُ أرباعه من المسلمين، وهذه حقيقةٌ يعرفها كل الأحرار من أبناء الأقليات ولا يجدون في الاعتراف بها غضاضة، كما أن المسلمين لا يجدون غضاضة في الاعتراف بشراكة الآخرين لهم في الثورة والوطن.
كل هؤلاء تتسع لهم سوريا وينبغي أن يعيشوا فيها بسلام، وأحسب أنهم قادرون على العيش المشترَك بلا مؤتمرات ولا توصيات. فمَن بقي إذن؟ لم يبقَ إلا النصيريون (العلويون). نعم، لا يبدو أن المؤتمر عُقد إلا من أجل تكريس التعايش بين النصيريين من جهة وبقية مكوّنات المجتمع السوري من جهة أخرى، وعلى رأسها جمهورُ المسلمين السنّة الذين يشكّلون أغلبيةَ سكان سوريا. فماذا يريد المؤتمِرون؟
هل يريدون أن يقنعونا بأن النصيريين شركاء لنا في الوطن، لهم ما لنا وعليهم ما علينا؟ أيريدون أن ننسى كل المآسي والجراح وأن نعانق القاتل ونقبّل السفّاح؟ ألا انتظرتم زماناً حتى تجفّ دماءُ الأبرياء وترقأ دموعُ الثاكلين؟ حتى ننسى المآسي والآلام والعذابات والأحزان؟ أيتحدث عاقلٌ عن التعايش بين الجاني والضحيّة ولمّا يَدفن الثكالى موتاهم ولا أعادوا بناء ما تهدّم لهم من بنيان؟
* * *
مَن قال إننا نحتاج إلى مؤتمرات تعلّمنا ما ينبغي أن نصنعه بالنصيريين في سوريا الحرة بعد النصر؟ إن لنا من ديننا وعقولنا وتجاربنا المريرة الطويلة معهم ما يَهدينا إلى الصواب إن شاء الله.
إنْ طالَبَنا قومٌ بالانتقام الأعمى والقتل العشوائي والاضطهاد الطائفي أبَيْنا عليهم لأن ديننا ينهانا عن تلك الأعمال وأخلاقَنا وسلائقَنا لا تسمح لنا بها. وإنْ دعانا داعٍ إلى التسامح والغفران والعفو والنسيان وأراد أن نفتح الباب لهم ليكونوا شركاء متساوين في الوطن ردَدْنا عليه دعوته وقلنا له: لا، ليس بعد كل الذي كان. لن نرضى بغير القصاص العادل بلا زيادة ولا نقصان.
إن القصاص العادل يقتضي أن يُساق المجرمون جميعاً إلى المحاكم، لا فرقَ بين مجرم كبير منهم ومجرم صغير، وأن يطبَّق فيهم حكم العدالة جزاءً على ما اقترفوه من جرائم وموبقات، أما غيرهم من الأبرياء من أبناء الطائفة فلهم منّا الأمان. على أنّ مِن تمام العدل أن يُحرَم النصيريون من المشاركة السياسية خمسين عاماً يُحكَمون فيها ولا يَحكمون، لأن التاريخ يشهد أنهم في ظل دولتنا في عدل وعافية وأمان وأننا في ظل دولتهم في ظلم وخوف وعدوان.
أعلمُ أن في النصيريين شرفاء وأبرياء لم يشاركوا المجرم في جريمته، ولكن كم يبلغون؟ سوف أتفاءل فأقول إنهم واحد في كل ألف. حسناً، هؤلاء يستحقون التقدير والاحترام، ولكنهم لا يغيّرون المعادلة لأن الغالبية العظمى من الطائفة وقفت مع السفاح وكانت جزءاً من حملته الظالمة على الشعب السوري، فمَن خالف ذلك الإجماع من الطائفة فهو ضحية مثلنا يستحق الرثاء، ويبقى الحكم على حاله: إن الطائفة النصيرية بغالبيتها عدو لسوريا وخصم للسوريين.
لقد استباحت الطائفة النصيرية سوريا نصفَ قرن كاملاً من الزمن، خمسين سنة عَلَتْ علينا فيها عُلوّاً كبيراً وسامَتْنا فيها الخسفَ والهوان. احتكرت السلطة وأهانت الناس واستباحت ثروات الوطن، وعليها أن تدفع الثمن: نصف قرن من التهميش والاستبعاد، عَيناً بعين وسِنّاً بسنّ، والبادئ أظلم.
سوق تتعرضون -يا أحرار سوريا- إلى كل شكل من أشكال الضغط والابتزاز لكي تسمحوا باستمرار سيطرة النصيريين على مفاصل البلاد. سوف يحرص أعداء سوريا في المستقبل (كما حرصوا في الماضي) على أن يكون السلطان الحقيقي للنصيريين وأن يبقى الحكم في أيديهم، ولو من وراء ستار.لو استجبتم للضغط والابتزاز وقبلتم بما يريده أعداؤنا فعلى الثورة وعلى مستقبل سوريا السلام، فلن تكون الأيام القادمة خيراً ممّا مضى من أيام، وسوف نعود -لا قدّر الله- إلى القهر والذل والعذابات والآلام ما لا يعلم عددَه إلاّ الله من أعوام.
* * *
يا أصحاب مؤتمر العيش المشترك: دعوكم من المؤتمرات ولا تخافوا من التجاوز في القصاص، فما عرف التاريخُ المسلمين إلا رحماء متسامحين، وإن صحائفه لَتَفيض بالأخبار التي تصوّر تسامحهم وسلامة قلوبهم مع ما لَقُوه من أعدائهم على الدوام من الغَدْرات والفظاعات.
لن يؤذي أحرارُ سوريا بريئاً من أي طائفة إن شاء الله، ولن يُهدَر دمُ أحد من النصيريين بغير حق، ليس حباً بهم، فلا والله لا نحبهم، وإنما حباً بديننا والتزاماً بشرع ربنا الذي نهانا عن الظلم حتى مع المعتدين. أمّا ما فوق ذلك -من مودّة وتسامح وتعايش وشراكة كاملة في الوطن- فلا يطلبه منا عقل ولا عدل ولا دين، ولن يرضى به بعد كل الذي كان إلا المغفَّلون. أعيذنا بالله أن نكون من المغفلين.