لمحات من سيرة الشيخ عبدالرحمن زين العابدين
العلامة الشيخُ عبدالرحمن زين العابدين الأنطاكي الحلبي مِنْ كبارِ علماء عصره وعباقرتهِ، ولد في أنطاكية سنة (1326)، وتوفي في حلب سنة (1411هـ)، وكان - إلى جانب براعتهِ العلمية - صاحبَ مهاراتٍ كثيرةٍ مدهشةٍ، منها الصيد، والرمي، وصنع الأشياء الدقيقة، ورحلَ ولم يُعرف قدرُه حقَّ المعرفة.
وقد أدركتُ الشيخَ ورأيتُه عدة مرات، وزرتُه في بيته أنا وأخي الشيخ عبدالسميع سنة (1400هـ)، ورجونا منه درسًا في النحو، فقال: ليس هذا وقت النحو، هذا وقت التوبة والاستغفار...
وقد سمعتُ عنه الكثير، ولا سيما مِنْ شقيقي الأكبر أبي المجد، فقد كان أحدَ طلابهِ في "المدرسة الخسروية"، وكان بينهما علاقة قوية، فقد كان يحبُّ الشيخ محبة شديدة، ويقدره تقديرًا خاصًا، ولا يملأ عينَه مِنْ أساتذة المدرسة سوى قلة، كان الشيخ عبدُالرحمن على رأسها، وكان صديقًا لابن الشيخ: سيف الدين.
وهذه لمحاتٌ من سيرة الشيخ عبدالرحمن، وجلُّها مما سمعتُه من الأخوين: الشيخ محمود الزين -رحمه الله- والشيخ عثمان عمر المحمد[1].
♦♦♦♦
• حدَّثني الشيخُ الدكتور محمود الزين فقال: درَّسَ الشيخ عبدالرحمن زين العابدين في "المدرسة الكلتاوية" مدةً أقل مِنْ فصلٍ دراسيٍّ، وكان في تدريسهِ يُكثرُ من الاستطراد، وإيرادِ القصص.
♦♦♦♦
• وقال: سألتُه مرة عن رفع الاسم بعد أداة الشرط، فقال: كأنهم لاحظوا الكثرة.
ولقيتُه في اليوم الثاني في الطريق فقال: هذا قولُ الجمهور، ويدُ الله مع الجماعة، ومَنْ شذَّ شذَّ في النار.
وسألتُه مرةً عن دليل بُطلان التسلسل، فسكتَ ولم يجبْ، واستمرَّ في الدرس، وفي اليوم الثاني رآني في طريق المدرسة فقال: أنتَ الذي سألَ عن دليل بطلان التسلسل؟ ذكرَ العلماءُ لذلك سبعة عشر دليلًا، فكيف تريدُني أنْ أشرحَ هذا في درس النحو!
وقد ترَكَ الشيخُ التدريسَ وقال للشيخ منير الحداد مُدير المدرسة آنذاك: ثَمّ أمورٌ لا أرتاحُ لها.
وفي تقديري أنه كان ينزعجُ ممَّنْ يقاطعُهُ في الدرس بطولِ الأسئلة.
♦♦♦♦
• وقال: كان الشيخُ شافعيَّ المذهب إلى درجة العشق، وسمعتُ مِنْ بعض تلاميذه أنه ذكر أمامَه قول السرخسي: "إنما يحفظُ الشافعيُّ زكاةَ ما أحفظ"، فغضبَ غضبًا شديدًا جدًّا.
♦♦♦♦
• وقال: رأيتُهُ مرةً في مكتبة دار السلام، وقد اشترى طالبٌ كتاب "الأم"وهو فرِحٌ، وسألَ الشيخ قائلًا: اشتريتُ كتابَ "الأم" فما رأيُك؟ وكيف أستفيدُ منه؟
فقال له الشيخُ: كان عبّاس العقّاد يذكرُ هذا الكتابَ ويطيلُ الثناء عليه، ويقول: هو كتابُ أدبٍ أيضًا، فخرجَ أحدُ جلسائه وراح يبحثُ في المكتبات عنه قائلًا: كتاب "الأم" في الأدب للشافعي... فيُقال له: لا يوجد إلا كتاب "الأم" في الفقه. وعاد إلى العقّاد وأخبره، فقال له: هذا ما قصدتُ. فذهبَ واشتراه، وقال للعقاد: كيف أستفيدُ منه؟ فقال له العقاد: احملْ الكتابَ إلى "الأزهر"، وابحثْ عن شيخٍ مقتدرٍ، واقرأ عليه أربعين سنة، وعند ذلك تستفيدُ منه.
♦♦♦♦
• وقال الشيخُ محمود الزين أيضًا: أخبرني بعضُ تلاميذ أستاذنا الشيخ عبدالرحمن أنه اشترى طالبٌ مرة "كتاب سيبويه" وأخبرَ الشيخَ بذلك فقال له الشيخُ: ماذا تفعلُ به؟
فقال: أنتظرُ توجيهَكم.
فقال: ضعْهُ في غلافٍ من "النايلون" وارفعه على الرفِّ، وخذْهُ كلَّ يومٍ فقبِّلْهُ، وأعدْهُ إلى مكانه.
♦♦♦♦
• وقال: بلغني أنَّ أحدَ أبنائه أرادَ أنْ يتعلمَ منه صنعة تصليح الساعات، فذكرَ هذا لأمِّه، ومِنْ عادتِهم في البيت ألا يتكلم الأبناءُ مع أبيهم مباشرة، فنقلتْ الأمُّ إليه هذه الرغبة، فقال لها: قولي له: فليتعلَّم النحوَ أولاً. فوافق الابنُ، وجاءَ بشرح الآجرومية كما حدَّدَ الشيخُ، وقرأ المتنَ على الشيخ حتى انتهى.
ثم قال لأمِّه: قد فرغتُ من قراءة الكتاب كما أراد، فمتى نبدأ بتعلُّم تصليح الساعات؟ فقال الشيخ للأم: قولي له: في الإعادة إفادة. فقرأ عليه الكتابَ ثانية.
ثم تكرّرَ مرة ثالثة.
وفي المرة الرابعة قال الابنُ لأمِّهِ: قولي لأبي: لم تعدْ لي رغبةٌ في تعلُّم صناعة تصليح الساعات.
♦♦♦♦
• وقال: كان الشيخُ في تصليح الساعات، وكل الآلات، آيةً من الآيات، وكان لا يصلح الساعة التي يُقْصَدُ في تصليحها فقط، بل كان يعرفُ مَنْ تكونُ له هذه الساعة.
حُدِّثتُ عن الشيخ مُنير بن محمد بشير الحدّاد أنه حَمَلَ مرة إليه ساعةَ الشيخ محمد النبهان -وكانت ساعة جيب- ليصلحها، فأخذها الشيخُ ونظرَ فيها، وتفحَّصها، ثم قال له: صاحبُ هذه الساعة رجلٌ أنيقٌ دقيقٌ. وذكرَ مِنْ أوصافه، والشيخُ منيرٌ يَسمعُ، ثم قال له: هذه الساعة لشيخنا الشيخ محمد النبهان، فقال له الشيخُ: الآن شفيتني.
♦♦♦♦
• وقال الشيخ محمود: كان الشيخُ أنيقَ المظهر، حريصًا على الخروج في أفضل حلة، ولكنه في أواخرِ حياتهِ بدأ يخرجُ بثوب البيت، وعلى رأسه طاقية فقط، وكان يزورُ بعضَ تلاميذه، كأنه يملُّ من جلوس البيت، ورأيتُه مرارًا عند الشيخ عمر زيتوني في مكتبتهِ، ورأيتُه مرة في مكتبة دار السلام.
♦♦♦♦
• وقال: سمعتُ عن الشيخ علاء الدين علايا أنه يقولُ عنه: إنه صدِّيق.
♦♦♦♦
• وقال: كان الشيخُ لا يَرى أحدًا من الطلبة مؤهلاً لتلقي العلم في حلب. ويقول: لا يوجد أحدٌ في حلب يفهمُ علم المنطق، ولا يوجد أحدٌ يفهمُ تعريف "القضية".
♦♦♦♦
• وقال: كان الشيخ نجيب سالم يحبُّ الشيخ حبًّا جمًّا، ويقول: علمُ الشيخ فتحٌ، وليس كسبًا.
♦♦♦♦
• وحدَّثني الشيخُ محمود عن الشيخ عبدالرحمن أيضًا أنه بينما كان عائدًا مرةً إلى بيته إذ رأى أخًا له في الشُّرفة، وفي فمهِ سيكارةٌ، فأطلقَ عليها طلقة أطارَتْها مِنْ فمه، وهُرِعَ أخوهُ إلى داخلِ الغرفةِ خائفًا، ودخلَ الشيخُ عبدُالرحمن البيتَ فرآهُ وجلًا فقال: مالكَ؟ قال: أطلقَ عليَّ أحدُهُم رصاصةً وكاد يقتلُني، ولا أدري لِمَ؟ فقال له الشيخُ: لا تخفْ أنا الذي أطلقتُ وأردتُ السيكارة!
♦♦♦♦
• وحدَّثني الشيخُ محمود أنَّ الشيخَ عبدَالرحمن كان يأكلُ الفلفلَ الحارَّ، ويَعجبُ ممَّنْ يأكلُه باردًا، ويقول: إذا لم يكنْ الفلفلُ حارًا فليس بفلفلٍ.
وكان يشربُ الشاي مُرًّا، ولكنه يضعُ قطعةَ سكرٍ في فمهِ، ولا يشربُه إلا هكذا.
قلتُ: وهذه عادةُ الأكراد، وشعوبٍ أخرى، وكان شيخُنا الشيخ عبدُالكريم المُدرِّس يشربُهُ هكذا.
♦♦♦♦
• وحدَّثني الشيخُ عثمان عمر المُحمَّد عن حسن حمْشو تلميذِ الشيخ عبدالرحمن أنَّ ضابطًا مِصريًّا جاءَ إلى الشيخ يشكو إليه عطلَ جهازٍ في الطائرة، فقال له الشيخُ: يا بني أنا في حياتي لم أركب الطائرة. فقال: ليس لنا غيرك. فقال: هاتِ الجهاز، وصفْ لي القطعة العاطلة، وحدِّدْ مكانَها. وبعد ثلاثة أيام كان قد صنعَ الشيخُ القطعة العاطلة، واشتغلَ الجهاز، فقام الضابطَ المصريُّ يرقص[2].
♦♦♦♦
وحدَّثني الشيخ عثمان أنَّ شخصًا مسيحيًّا كان يُقبِّل يدَ الشيخ ويقول: حرامٌ على التراب أنْ يأكلَ هذه اليد.
ومرة قال له: تعالَ يا شيخَنا نذهب الى أوربا فإننا نكسبُ مالًا كثيرًا.
قال الشيخ: كيف؟
قال: نعملُ "سركًا" فأنا أضعُ "الكل"[3] على رأسي وأنتَ ترميه.
♦♦♦♦
• وحدَّثني كذلك أنَّ "بكري جاموس" حازَ المركزَ الأولَ في الرماية في روسيا، فقال له الشيخُ: ارمِ أمامي لأرى رميَك.
فقال له: عيبٌ عليَّ يا شيخُ أنْ أرمي أمامَك.
♦♦♦♦
• وحدَّثنا الشيخُ إبراهيمُ البكري -رحمه الله- أنَّ الشيخ عبدالرحمن كان يقول عن كتاب "المُغني" -مغني اللبيب لابن هشام-: "المُفني"!
♦♦♦♦
رحم اللهُ الشيخَ عبدَالرحمن، وعوَّضه لديه ما فقدَهُ في دنياه... فقد كان يقول: "أنا مُبتلى في حياتي... مُبتلى منذ الصِّغر... الفرحُ لم يَدخلْ قلبي"[4].
[1] كتب الشيخ عبدالفتاح أبو غدة -رحمه الله- عن الشيخ مقالاً بديعاً. انظره في آخر كتاب "الإحكام" للقرافي.
وصدر عن الشيخ كتابٌ بعنوان: "المهاجر الغريب المقهور" للشيخ أحمد تيسير كعيّد.
[2] وانظر قصة لضابطٍ مِصريٍّ مع الشيخ في كتاب "المهاجر الغريب المقهور" ص 212-214.
[3] قطعة دائرية الشكل، صغيرة، تُصنع من زجاجٍ ملونٍ، يلعبُ بها الأطفال، ويُقال لها في دمشق: الدحل، وفي مصر: البل، وفي العراق: الدْعبُل.
[4] "المُهاجر الغريب المقهور" ص 125.
وسوم: العدد 684