( كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدّبروا آياته وليتذكّر أولو الألباب )
لقد أخبر الله عز وجل العالمين بإنزاله القرآن الكريم في شهر رمضان المعظم ،وهو شهر اكتسى التعظيم بسبب هذا الحدث العظيم الذي غيّر حال البشرية من ضلال كانت تعيش فيه وتعاني منه إلى حال هداية لم تكن تنعم بها من قبل .
ومعلوم أن اقتران عبادة الصيام بحدث إنزال القرآن فيه دليل على عظمة شأنه عند الله عز وجل ، ولا شك أن هذه العبادة هي وسيلة من أجل تحقيق الاستعداد النفسي لتلقي القرآن الكريم ، باعتباره رسالة موجهة للبشرية إلى قيام الساعة من أجل إسعادها سعادة الدارين ، لهذا اقترنت تلك العبادة بعبادة صلاة التراويح التي خلالها تتلقى تلك الرسالة على أفضل وجه، وهي أفضل وضعية لتلقيها لما فيها من تركيز،واستيعاب ، وخشوع بين يدي الله عز وجل .
ولقد ذكر الله عز وجل صفات هذه الرسالة التي ختمت بها الرسالات، وهي صفات اقتضتها سياقات خطابها ،فهي قرآن باعتبارها تقرأ ، وهي فرقان باعتبارها تفريقها بين الحق والباطل ، وهي ذكر باعتبار طبيعتها التذكيرية ، وهي نور باعتبار طبيعتها الهادية ... إلى غير ذلك من الصفات الخاصة بها . وهذه صفات مجتمعة تدل على عظمة شأنها ،ومن ثم تدل على عظمة شأن منزلها سبحانه وتعالى رحمة بالبشرية المعرضة دونها إلى الضياع في العاجل والآجل .
ومن تلك الصفات التي تكرر ذكرها قوله تعالى : (( وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون )) ، ففي هذه الآية الكريمة فضلا عن وصف رسالة الله عز وجل بأنها ذكر ، فقد وصفت أيضا بأنها مباركة ، والبركة هي زيادة الخير أي أنها كثير خيرها، بل هي كلها خير شكلها ،ومضمونها أي بيانها ،وأسلوبها، وبلاغتها ، ونظمها الشيء الذي ييسر استيعابها ، وحفظها ، وإدراك معانيها ،وحكمها، وشرعها ، والأسرار المغيبة التي كشفت عنها... وهي بكل ذلك أعظم معجزة عرفتها البشرية، لهذا يستحيل إنكار إعجازها خصوصا وأن منزلها على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قد تحدى الثقلين جنا وإنسا أن يأتوا بمثلها مجتمعين متعاونين مصداقا لقوله تعالى : (( قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا )) ، وهذا التحدي سيظل قائما إلى قيام الساعة ، وسيبقى شاهدا على أنها منزلة من عند الله عز وجل ، وهو تحد يواجه، ويبهت كل منكر لها .
مناسبة حديث هذه الجمعة هو تذكير المؤمنين بما يلزمهم تجاه هذه الرسالة الخاتمة وقد حل بنا هذا الشهر الفضيل، وهو شهر نزولها ، وفيه تستعرض خلال صلاة القيام . والمقصود بهذا التذكير، هو لفت الأنظار إلى بركة هذه الرسالة مع انصراف المؤمنين إليها وهم يقصدون بيوت الله عز وجل من أجل تلقيها ، ويحرصون على أن تكون ظروف التلقي مناسبة حيث يتحرون القراء الحسنة أصواتهم من أجل حسن التلقي ، وحسن الاستيعاب ، وحسن التدبر لتحصل البركة المتوخاة من الذكر المبارك .
والمطلوب من كل مؤمن ومؤمنة أن يحرص على حسن تلقي رسالة القرآن الكريم في هذا الشهر الفضيل اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يتلقاها كاملة فيه بعدما كان يتلقاها منجمة وعلى مكث . ولقد سن لنا عليه الصلاة والسلام تلقيها كاملة خلال شهر الصيام بأمر من رب العزة جل جلاله التماسا لما فيها من بركة. وأعظم بركة نحصّلها ونحن نتلقاها في هذا الشهر الفضيل الذي تكبح فيه الشهوات ، وتسمو فيه النفخة الروحية النورانية الربانية على الكتلة الطينية المظلمة هي أننا نرقى في مراق أنعم بها الله تعالى علينا في هذا الشهر الذي فيه ليلة خير من ألف شهر ، وهي الليلة التي أنزلت فيها الرسالة المباركة .
ولا يمكن أن تتأتى بركة هذه الرسالة إذا ما أصر الناس على خلودهم إلى الطبيعة الطينية المظلمة ، وقصروا همهم على دفع الصوم نهارا بالتفكير المتواصل في إشباع شهواتهم ، والاشتغال بها ليلا دون إدراك الغاية من شهر الصيام الذي خصصه الله تعالى لتلقي رسالته بطريقة تعرض فيها أحوالنا عليها لقياس بعدنا أو قربنا من تعاليم هديه .
وهل توجد بركة أكبر من أن يمن الله تعالى علينا بتنبيهنا من غفلة كنا فيها جولا كاملا ، ونحن نعرض أنفسنا على رسالته في ليالي القرآن الكريم ، فنقلع عما كنا فيه من مخالفات خصوصا وأننا في زمن كثرة المخالفات بامتياز وقد صرنا صيدا مستهدفا من طرف من يتربصون بنا لصدنا عن الهدي القويم لهذه الرسالة المباركة ، وهم يبذلون قصارى جهودهم ، ويجدون في أن يقدموا لنا ما يزعمون أنها بدائل وضعية عنها ،هي من طبخ أهوائهم وضلالاتهم .
ومن أجل صدنا عن بركة رسالة الله عز وجل إلينا في هذا الشهر الفضيل ، يجتهد أصحاب تلك الأهواء والضلالات لتحويل هذا الشهر إلى مجرد شهر واشتهاء الشهوات ، والتماس كل أشكال الترفيه لصدنا عن تلقي هذه الرسالة في أفضل ظرف لتلقيها حتى لا نبرح الركون إلى الظلمة الطينية التي تحول دون بلوغ النورانية الروحية .
ولقد جعل الله تعالى زمن السمو إلى هذه النورانية مجرد أيام معدودات لترغيبنا في سرعة تحصيلها باعتبار ضيق مدة هذا التحصيل وهي السلعة غالية والسريعة النفاد ،الشيء الذي يفرض علينا المسارعة والمسابقة إليها قبل انقضاء مدة عرضها .
وعلينا جميعا أن نعتمد كل ليلة من ليالي رمضان المعظم تقويما ذاتيا لا تراخي فيه لقياس ما حصلناه من بركة الرسالة المباركة ، وما تلك البركة سوى ذلك التصحيح الإجرائي الذي يقع في سلوكنا والذي يجعلنا رهن إشارة هدي ربنا سبحانه وتعالى ، ويخلصنا من أسر أهوائنا .
اللهم إنك يا حنّان يا منّان قد بلغتنا شهر الصيام حنانا منك، ومنة، ونعمة لك الحمد والشكرعليها ، فزدنا من بحر جودك يا كريم بتوفيقنا إلى حسن صيامه وحسن قيامه ، وارزقنا نعمة استعراض رسالتك المباركة على أحسن وجه كما تحب وترضى لنا ذلك ، اللهم أنعم علينا بهداية تنجينا من الغفلة عنك وعما تريده لنا ومنّا .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 1025