( الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون )
من المعلوم أن الله عز وجل قد هيأ أسبابا لإنزال رسالته الخاتمة للعالمين كي تكون منطلق تشريع لهم إلى قيام الساعة . ومن تلك الأسباب ما نال المؤمنين من أذى على أيدي الكافرين في مكة ، من اضطهاد ، وحصار ، وتجويع ...، الشيء الذي جعلهم يهجرون ديارهم أو بتعبير أدق يهجّرون منها قسرا ، ولولا الأذى الذي كان يلحقهم لما تركوها ، وقد سجل الوحي تهجيرهم في قوله تعالى:
(( والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوّئنّهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون ))، ففي هاتين الآيتين الكريمتين من سورة النحل، ذكر للمؤمنين المهجّرين قسرا زمن النبوة بسبب ما نالهم من ظلم الكافرين من قريش . ولقد جعل الله تعالى تهجيرهم هجرة فيه أو لأجله ، لأنهم إنما هجّروا قسرا لإيمانهم به ، ولرفضهم العيش في وسط يسوده الكفر، وأهله ظالمون لهم بكل أنواع الأذى الذي لا يحتمل . ويذكر الله تعالى ما أعد لهم من خير مقابل هجرتهم لأجله ، وهو خير ينالهم في الدنيا ،مع وعد بالخير الأكبر في الآخرة ، وهو جنة النعيم . ولقد جاء وعد الله تعالى لهم في الدارين مؤكدا (( لنبوّئنّهم )) ، وقد ناسب ذكر المبوأ ذكر الهجرة ، ذلك أن من يهاجر أو يهجّر، يفقد موطنه ودياره ، ويحتاج إلى موطن آخر أو مبوأ آخر ، أوديار أخرى ينزل بها ، لهذا جاء وعد الله تعالى ليطمئن المهاجرين أو المهجّرين بأنه سيعوضهم مبوأ عن مبوأهم الذي تركوه وراءهم . ولقد وصف الله تعالى ما وعدهم عوضا عما ضاع منهم بأنه الأحسن في الدنيا ، ووصف أجرهم في الآخرة بالأكبر والأحسن مما عوضهم به في الدنيا . وأية سعادة وأية طمأنينة ستغمر قلوبهم هؤلاء ، وهم يتلقون هذا الوعد الناجز من رب العزة جل جلاله الذي لا يخلف وعدا ولا ميعادا . وترسيخا ليقينهم بوعد ربهم الناجز عقب عليه بالقول : (( لو كانوا يعلمون )) الذي يعدل " يا ليتهم يعلمون" أو يعدل "عليهم أن يعلموا ذلك علم اليقين الذي لا يلابسه ريب ". وهذا التعقيب منه سبحانه وتعالى أشد تثبيبتا لهم ، ثم يصفهم بعد ذلك بصفتين : صفة الصبر ، وصفة التوكل عليه ، وهما صفتان بهما تبوأ زمن النبوة المهاجرون في الله تعالى حسنة الدنيا ، وأجر الآخرة . أما الصبر فهو حبس النفس عن الجزع عند اشتداد المكروه ، وحملها على تحمله بالرغم مما يتسبب فيه من معاناة لا تطاق ، وأما التوكل ، فهو اعتماد كلي على الخالق سبحانه وتعالى ، مع الانصراف الكلي عن الاعتماد على غيره . ولا يتحقق هذا التوكل إلا إذا خلا من أي توجه إلى غير الله تعالى نية ،وإخلاصا ، ويقينا ، وخلا من التردد أو الشك عند اشتداد الابتلاء . وقد يأتي فرج الله تعالى بتسخير الخلق للمبتلين ، ولا يكون لهذا للخلق المسخر أي نصيب من التوكل ، أو شراكة فيه مع الله تعالى ، ولا يجب أن يخامر المبتلين أدنى شك في أن من ثمرات توكلهم على ربهم تسخير الخلق لهم.
ولقد تنبه بعض المفسرين إلى ما في قوله تعالى : (( الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون )) ، حيث قارنوا بين فعل الصبر الذي جاء بصيغة المضي " صبروا " ، فرأوا أن ذلك فيه إشارة إلى قرب زوال أو مضي الابتلاء الذي يقتضي حبس النفس على تحمله ، وبين فعل التوكل الذي جاء بصيغة الدوام والاستمرار " يتوكلون "، ورأوا أن هذه الصفة ملازمة للمؤمنين ،لا تنفك عنهم أبدا ، وهي دأبهم وديدنهم في كل أحوالهم وأمورهم ، لا يصرفهم عنها طول أمد إذا امتد أو تأخر فرج إذا تأخر، أو اشتداد ابتلاء إذا اشتد.
ولما كانت العبرة بعموم لفظ ما أنزل الله عز وجل في محكم تنزيله ، لا بخصوص أسباب نزوله ، فإن حكم هاتين الآيتين ينسحب على جميع المؤمنين إلى قيام الساعة في كل مكان من المعمور إن هم هاجروا في الله ، أو هجّروا ، وأن جزاءهم الدنيوي والأخروي هو نفس جزاء من نزلت فيهم هاتان الآيتان بحيث يبوّءون الأحسن في الدنيا ، وينالون الأجر الأكبر في الآخر ، ويكون ثمن ذلك بطبيعة الحال صبرا على مكاره التهجير ومشاقه ، وتوكلا كليا على الله عز وجل .
مناسبة حديث هذه الجمعة ، هو تذكير عموم المؤمنين ، و تحديدا المرابطون في أرض الإسراء والمعراج المقدسة عمومها ،وغزتها ،وضفتها بوعد الله تعالى الناجز حين يحسنون الصبر ، ويحسنون التوكل عليه . وهو تذكير اقتضاه الظرف العسير الذي يمر به المرابطون هناك ، وقد ظلموا أشد الظلم على يد الصهاينة المجرمين و على يد أعوانهم الصليبيين الضالعين معهم في إجرامهم بما يمدونه به من آلة الحرب المدمرة ، وبقتالهم إلى جانبهم . ولقد تجاوز الصهاينة ما فعله كفار قريش بالمؤمنين الذين نزلت فيهم الآيتان الكريمتان حيث فاق تجويع الصهاينة لأهل غزة تجويع كفار قريش للمؤمنين بشعب بني هاشم ، وإن كان بعض كفار قريش قد رقت فلوبهم لهؤلاء ، فإن الصهاينة والصليبيين لم تزدد قلوبهم إلا قسوة على المؤمنين المحاصرين في القطاع ، بل ازدادت قسوتهم عليهم حين جعلوا من إلقاء الطعام إليهم حيلة خبيثة لاصطياد القناصة لهم حين يقصدون ما ألقي إليهم لإطعام صغارهم الجياع الذين يهلكون جوعا وعطشا يوميا بين أيديهم .
ولا بد والعالم يحتفل في مثل هذا اليوم بما يسمى عيد المرأة أن نشير إلى المرأة الفلسطينية في غزة التي تهدي فلذات أكبادها شهداء لله تعالى ، وتسأله أن يقبل منها هداياها ، وتتمنى أن يكون سبحانه وتعالى راضيا بها ، وراضيا عليها ، وهي بذلك تجسد صفة الصبر في أعلى درجاته ، وصفة التوكل على خالقها حق التوكل في أسمى صوره ، ولا شك في قرب موعد الجائزة التي وعد بها الله تعالى عباده المؤمنين الصابرين المتوكلين عليه ، وهي حسن المبوأ في الدنيا ، وعظيم الأجر في الآخرة .
ولقد حيّر حال هذه المرأة الفلسطينية المؤمنة الصابرة المتوكلة على خالقها نساء العالم ، ومنهن شهيرات ، وقد ذرفت بعضهن دموع العجب من أحوال هذه المرأة ، وكدن لا يصدقن ما يشاهدن من ثباتها ، وصبرها وجلدها في ظرف شديد القسوة ، وأية قسوة أ شد على النفس البشرية من تشييع فلذات الأكباد بصبر لا نظير له خصوصا في عالم اليوم .
وكان الأجدر في عيد المرأة أن يحتفل العالم بأسره بهذه المرأة الفلسطينية المؤمنة ،وقد ضربت لنساء العالم أروع الأمثلة في طاعة الله تعالى ، و في الجهاد فيه ، و في الصبر على البلاء العظيم ، و في الثبات على التوكل على خالقها دون سواه ، خصوصا ، وقد خذلها المتخاذلون ، وفيهم من وقفوا مع الصهاينة ، وأمدوهم بما منع منه المؤمنون المحاصرون في غزة نكاية وشماتة بهم ، وسهلوا مروره إلي أعدائهم عبر أراضيهم آثمين وخزايا في الدنيا والآخرة .
وكان أوجب الواجبات على المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها أن يجعلوا هذا اليوم يوم تضامن يكون في المستوى اللائق مع الثكالى المؤمنات الفلسطينيات في قطاع غزة لإظهار نموذج المرأة المؤمنة التي يجب أن تقتدي بها المؤمنات في كل بلاد المعمور عوض الاحتفال بغيرها في مجتمعات حكامها ضالعون في ظلم المرأة المؤمنة الفلسطينية .
اللهم رب الصابرين لك ، والمتوكلين عليك من عبادك المؤمنين المحاصرين والمرابطين في الأرض التي باركتها ، وباركت مسجدها الأقصى ،أفرغ مزيدا من الصبرعليهم ، وعجل لهم بوعدك الناجز ، وما وعدتهم به من جوائز العاجل والآجل التي جعلتها لعبادك المؤمنين من قبل ، وقد أخبرتنا عنهم في كتابك الكريم ، وجعلتهم لنا إسوة وقدوة . اللهم إنه لا يطفىء نار الحرب في غزة إلا أنت ، فجعل اللهم ربنا وسيدنا وخالقنا بإطفائها قبل حلول شهر الصيام الذي جعلته شهر نصرة لدينك ، ولعبادك المؤمنين ، كما عودتنا ، وأنت الذي لا يخلف وعدك ولا ميعادك .
اللهم ربنا وخالقنا، ثبت أقدام المجاهدين فيك ، وسدد اللهم رميهم ، وامددهم بما خفي من جندك الذي لا يغلب ، واحفظهم اللهم من بين أيديهم ، ومن خلفهم ، وعن أيمانهم ، وعن شمائلهم ، ومن فوقهم ، ومن تحت أرجلهم ، ولا تجعل اللهم لعدوهم سلطانا عليهم ، وارحم اللهم شهداءهم ، واشف جرحاهم ، ومرضاهم ، وأطعم اللهم جياعهم ، واسق اللهم عطشاهم ، وآمنهم من خوف ، وعجل لهم ببشائرك . اللهم عليك بأعدائهم ، فإنهم لا يعجزونك ، وعليك بمن خذلوهم، فعجل اللهم لهم جميعا بعذاب شديد وهلاك مع ذلة وخزي في الدنيا والآخرة آمين ، آمين، يا رب العالمين .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم ، وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 1073