كاد المعلم أن يكون رسولا

د. محمد مصطفى أفقير

sfsgf1085.jpg

لا زلنا نذكر ونحن أطفال، لم نبلغ الحلم، تحلقنا حول المعلم في تلك الليلة، ليلة السبت بعد صلاة العشاء، حيث عانقت الأرواح عبير الإيمان المتأجج، والمسك يفوح شذاه معلنًا بدء الرحلة الروحية. جلسنا حول المعلم المربي، ابتسامته تعلو محياه القمري، وقلبه مشع بنور الحق، ولسانه يروي من معين القرآن. بدأ المجلس بتلاوة سورة البقرة، في جلسة واحدة، صوته يعلو الأصوات. كانت أصداء السورة تتردد في الأرجاء، تملأ الأسماع والقلوب بدروس الرحمة والهداية، تنهمر كالغيث المحيي، تروي أرواح الأطفال الظامئة بماء الحياة.

مع كل آية تجلت، وكل حرف تهجد، تسابقت المعاني إلى الأفئدة، وتسللت الحكم والأسرار كالأنوار في دياجير الليل، حيث تتجلى المعاني الروحية في كل آية كنور يتسلل خفية إلى أعماق الروح. بدأت السورة بالمقطع المعجز "الم"، سر من أسرار اللغة، دعوة للتأمل في الغيب الذي يحيط بنا، وكأن كل حرف يشكل مفتاحًا يفتح أبواب الفهم العميق للوجود. هذه المقدمة تشير إلى العلم الإلهي الذي يغمر كل شيء ولكنه يظل محجوبًا عن الأفهام العادية، وتدعو المؤمن للغوص في أعماق الروح لفهمه.

تأتي قصص الأنبياء كإبراهيم وموسى عليهما السلام لتكون كالمرايا التي تعكس كيف يمكن للإيمان أن ينقل الإنسان من ظلمات اليأس إلى نور اليقين. هي ليست مجرد قصص تاريخية، بل هي دروس في الثبات والتوكل على الله، وكل قصة تنبض بالحياة لتعلمنا كيف نواجه تحدياتنا الخاصة.

الأحكام والتشريعات، من الصلاة والصيام إلى الزكاة والحج، ليست مجرد تعليمات قانونية، بل هي علامات ترشدنا إلى كيفية بناء حياة متوازنة تراعي حقوق الخالق وحقوق الخلق. كل حكم يأتي ليصقل الروح ويزكيها، مثل الصائم الذي يجد في جوعه وعطشه تطهيرًا لروحه من شوائب الدنيا.

الربا والتجارة، وكيف أن الله يحذر من الغرق في بحر الجشع والطمع، مؤكدًا أن البركة تكمن في الرزق الحلال الذي يأتي من عرق الجبين والتعامل العادل. هنا، الإشارة الروحانية تنبع من فكرة أن النقاء الأخلاقي يجب أن يسود كل جانب من جوانب الحياة الاقتصادية.

وفي الجهاد والدفاع عن الدين، تشير الآيات إلى أن الصراع ضد الظلم هو أيضًا صراع داخلي ضد الأنانية والميول السفلية. كل جهاد خارجي يعكس جهادًا داخليًا يهدف إلى تزكية النفس وتحريرها من قيود الأهواء.

سورة البقرة، بحر من الحكم والعبر، تجلياتها تمتد من الأمور العقدية إلى الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية، تكشف عن أسرار الوجود والسلوك الإنساني. تفتتح بـ"الم" مدخلاً للغوص في الغيب والعلم الإلهي، مبشرة برحلة روحية عميقة. قصص الأنبياء تنير مسار الثبات والتوكل، معلمةً أن كل تحدٍ هو درس في الإيمان واليقين. التشريعات الإسلامية ترسم خارطة لحياة متوازنة، مؤكدة على أهمية الرزق الحلال والسلوك الأخلاقي في كل تعاملاتنا. الربا والجهاد يرتقيان إلى دعوة لتزكية النفس ومحاربة الظلم، مشيرين إلى الجهاد الأكبر ضد النفس والأهواء. سورة البقرة، بذلك، تعد دعوة مستمرة للتأمل والتفكر، ورحلة في فهم الدين والحياة بأبعادها المتعددة.

بعد السياحة في أنوار البقرة انتقلنا بخشوع إلى ورد السبت من "دلائل الخيرات"، حيث تعلو الصلوات كأنها نسمات تحمل الأمل والتضرع إلى سدرة المنتهى، وصوت المعلم يزجي الدعوات بمداد من الصفاء والتوسل، يخترق سماوات القلوب. كان العطر النبوي يغشى المكان، يسري في الأنفاس كما يسري النور في الظلمات، مخلفًا أثرًا من سكينة تغمر النفوس.

وفي طيات الجلسة، طرح المعلم على القلوب الرقيقة حكايا الصوفية، تلك التي تغزل الوجد بأنامل من نور، معتقداتهم تتجلى في كلمات تشبه نسيج الأحلام، مرددين أسماء محبوباتهم الروحية كليلى وبثينة، بما يعكس عشقهم السامي للحقيقة. وقد صدح بأبيات ابن الفارض، تلك التي تجسد الجمال الإلهي، يقول فيها: "وكل مليح حسن جماله من جمالها..."...، معبرًا عن أن كل جمال في الأرض ليس إلا ظلالاً من جمال الحق الأزلي. وأضاف ببلاغة تنم عن عمق الفهم وسعة الإدراك، متحدثًا عن "التحلي"، وكيف يتسنى للمرء أن يتجمل بجمال الأخلاق الرفيعة، مستشهداً بقصة أم موسى ووحي الله إليها، ففي خلوة قلبها كان النداء الرباني...

وفي الختام، تناول حكم وأقوال ابن العربي، مستفيضًا في الحديث عن الصبر والابتلاء كسبيل للرفعة الروحية، وكيف أن الأولياء يثبتون في محن الدنيا ليرفعهم الله في مقامات الآخرة، مثلما كان الصحابة في حصار... وفي النهاية، أدركت كيف كاد المعلم أن يكون رسولا...

يتبع

وسوم: العدد 1084