( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذّكّرون )

حديث الجمعة :

من تكريم الله تعالى لبني آدم وتفضيلهم على كثير ممن خلق إنعامه عليهم بالأسماع والأبصار والقلوب التي بها  يدركون ويعقلون ذواتهم أولا ، ثم  يدركون ويعقلون  بها بعد ذلك كل ما حولهم من الموجودات المادية ، والمعنوية .

والله تعالى يمتن  في كثير من آي الذكر الحكيم على بني آدم نعم القلوب والأسماع والأبصار كقوله تعالى : (( قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبّر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون )) ، ففي هذه الآية الكريمة  الواحدة والثلاثين من سورة يونس، جاء الامتنان على بني آدم بنعمتي السمع والأبصار ضمن الامتنان عليهم بالرزق النازل من السماء ، والخارج من الأرض ، وبقدرته سبحانه وتعالى على إخراج الحي من الميت ،وإخراج الميت من الحي  ، وبتدبيره الحكيم  كل أمورهم  .

والحكمة من إنعام الله تعالى على بني آدم بالأسماع والأبصار والقلوب هي أن يتعرفوا عليه سبحانه كي يعبدوه على الوجه الصحيح بطاعتهم له فيما أمر ونهى . ولئن احتجب سبحانه وتعالى بذاته المقدسة عن ملكات إدراكه  فلقصور طبيعتهم  البشرية في إدراك ذلته كما يدركون ذواتهم ، وكما يدركون  ذوات غيرهم من المخلوقات ، فإنه جعل ملكاتهم أسماعا وأبصارا وقلوبا متضافرة ومتعاونة وسيلة لمعرفته جل في علاه من خلال إدراك أفعاله وصنائعه . وبتلك الملكات يحصل الإدراك لبني آدم ، وتحصل لهم المعارف التي يراكمونها من أجل الوعي بحقيق ذواتهم ، وبحقيقة وجودهم في هذه الحياة الدنيا ، وبحقيقة مصيرهم بعد الرحيل عنها ، فضلا عن الوعي بما يساعدهم على خوض غمار هذه الحياة الفانية التي يكونون فيها تحت المراقبة المتناهية الدقة ، والمتبوعة بالمساءلة والمحاسبة  والجزاء في الآخرة  بنعيم أو بجحيم .

وأول ما سيحاسب عليه بنو آدم  في الآخرة  كيفية تصرفهم في ملكات  الإدراك  التي أنعم بها عليهم ، وكيفية توظيفها ، ولا عذر لهم  إن لم يوظفيها لما خلقت له ، وقد جعلها الله تعالى وسيلتهم إلى معرفته  أولا ، ثم معرفة المطلوب منهم في حياتهم . وحال بني آدم مع تلك الملكات لا تخلو أن تكون إحدى اثنتين : إما تعطيلها  كليا أو جزئيا ، وإما استعمالها الذي قد يكون موفقا ، وقد يكون غير موفق . وفي  كلتا الحالين سيسألون عن كيفية الاستعمال ، وسيحاسبون على ذلك يوم الرحيل عن الحياة الدنيا .

وأسوأ حال يكون عليها بنو آدم في استعمالهم لتك الملكات أنهم يحصلون بها علما ومعرفة لكنهم لا ينتفعون بما يحصلون ، ويكون حينئذ حالهم كحال من عطل أصلا  تلك الملكات، ولم يفد منها علما ولا معرفة . ولقد ذكر الله تعالى حال من يحصلون بها علما ومعرفة ، ولكنهم لا يفيدون منهما شيئا فقال عز من قائل :

(( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذّكّرون )) ، ففي هذه الآية الكريمة الثالثة والعشرين من سورة الجاثية ، يتحدث الله تعالى عن الذين لا يفيدون شيئا من الملكات الثلاث أسماع وأبصارا وقلوبا ، وذلك في سياق التعجيب   بحالهم والذي  دل عليه قوله تعالى : (( أفرأيت ))، وهو أسلوب استفهام  يدل على تعجب . ووجه العجب أن أصحاب هذه الملكات قد حصّلوا بها علما لم ينتفعوا به ، فصار كحال من خُتم على سمعه وعلى قلبه ، وغُشّي بصره  بغشاوة فهما  سواء ، والسبب في ذلك أنه صرف هواه إلى غير ما يجب أن يصرف ، وخضع له خضوع العابد لمعبوده ، وكان حريا به وقد حصل العلم بالملكات المنعم بها عليه من خالقه المنعم سبحانه وتعالى أن يخصه بالعبادة وينصرف عن عبادة هواه . ومعلوم أن الهوى يشمل كل ما يخضع له الإنسان  من أفكار أو رغبات أو مشاعر.... أو غيرها .

ولقد  أشار الله تعالى إلى  ما يعطل ملكات تحصيل العلم والمعرفة على وجه الحقيقة وقصد بها الاستعمال المجازي ، فجعل عطل الأسماع والقلوب بالختم عليها ، وعطل الأبصار بالغشاوة  عليها . ومعلوم أن الختم هو ما يختم به على شيء  أو يسد به  عليه حين لا يراد الاطلاع على مكنونه ،ومن ذلك ما تختم  به أظرفة  تكون بداخلها رسائل أو ما تختم به المحجوزات أو الممنوعات بشمع أو بمعدن... أو  بغيره . ولقد اشتركت الأسماع مع القلوب في كونها يختم عليها ،بينما خصت الأبصار بالغشاوة ،وهي كل ما يحول دون الإبصار ، وذلك لطبيعة عمل كل ملكة من هذه الملكات . والقلوب التي لا تعقل تكون في حكم المختوم عليها ، وكذلك الشأن بالنسبة للأسماع التي لا تسمع ، بينما الأبصار التي لا تبصر فتكون في حكم التي عليها غشاوة . وإذا ما اجتمع الختم على القلوب وعلى الأسماع، مع الغشاوة على الأبصار تعذر الوعي والإدراك ، وتعذر العلم والمعرفة .

والغريب أن  يكون الإنسان معه علم ومعرفة ، ولكن حاله كحال من خُتم على سمعه وقلبه ، وغشت الغشاوة بصره ، فهما سيّان، لأن صاحب العلم والمعرفة  الذي لا يفيد شيئا منهما ، فهو تماما كالذي لم يحصلهما أصلا لعطل في ملكاته سمعا وقلبا وبصرا .ومن يكن هذا شأنه، فلا هادي له ولا اهتداء، بل يقضي عمره في ضلال مبين وضياع حتى ينتقل إلى الآخرة يحمل معه أوزار ضلاله، ويخلد  مهانا في عذاب أبدي .

ويدعو الله تعالى بعد ذلك بقوله : (( أفلا تذكّرون )) عباده المؤمنين إلى التفكر في  حال عُبّاد الأهواء المعطلةُ ملكاتُهم بختم أو غشاوة عليها ،مع ما معهم من علم لم ينتفعوا به ،فساءت  بذلك عاقبتهم في الآخرة ، وفي هذا التذكير تضمين للتحذير من هذا المصير المشئوم .

ومعلوم أن حال عبّاد الأهواء التي ذكرها الله تعالى في الرسالة الخاتمة الموجهة إلى العالمين  جميعا موجودة في كل زمان ، وفي كل مكان ، وسنبقى كذلك إلى قيام الساعة . ولئن كانت بعض كتب التفسير قد ذكرت  أن  سبب نزول هذه الآية هو التعريض ببعض كفار قريش ممن كانوا يعلمون صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك كذبوه لميلهم مع أهوائهم وعبادتهم للأوثان من دون الله عز وجل ، فإن كل من سلك سبيلهم إلى قيام الساعة يصدق عليه قول الله عز وجل : (( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم ... )) الآية  

مناسبة حديث هذه الجمعة هي تذكير المؤمنين بما أوجب الله عز وجل  علينا  تذكره ، وهو التكير في حال من يتخذون أهواءهم آلهة من دون الله، وقد أضلهم ومعهم أو عندهم علم  تقام به الحجة عليهم ،وكان ضلالهم كمن ختم على أسماعهم وقلوبهم ، وجعلت على أبصارهم غشاوة. وما أحوج المؤمنين  في هذا الزمان إلى من ينبههم ويحذرهم من هذا الضلال ، وقد انتقلت إليهم عدوى عبادة الأهواء من غير المسلمين  ، فصار فيهم من يصدق عليهم ما وصف به الله تعالى علماء بني إسرائيل في قوله عز من قائل : (( مثل الذين حمّلوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا  بئس مثل القوم الذين كذّبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين )) ، فهؤلاء بنو إسرئيل الذين أمروا بتطبيق شريعة نبي الله موسى عليه السلام ،التي  جاءهم بها  في التوراة وقد علموها ، و لكنهم لم يعملوا بها  بل حرفوها تحريفا . ولا زالوا على حالهم  إلى يوم الناس  كما كان أسلافهم منذ عهد موسى عليه السلام ,  وإننا لنرى أثر فسادهم العقدي في ظلمهم الشنيع للمسلمين بأرض الإسراء والمعراج لأن عقيدتهم الفاسدة تسول لهم اعتبار أنفسهم أرقى من كل البشر ، وأن الفلسطينيين ليسوا بشرا ، ويلقن أحبارهم  هذا الاعتقاد الفاسد  سلفا عن خلف مع أنهم حملوا توراة موسى عليه السلام،  ولم يحملوها ، وقد اتخذوا إلههم هواهم ، وختم الله على سمعهم وعلى قلوبهم ، وجعل على أبصارهم غشاوة ، وحال ذلك بينهم وبين اتباع الحق ، فاتبعوا الباطل ، وصدق عليهم وصف الحمار الذي ينوء بحمل الأسفار وهو لا يدري ما يحمل على ظهره .

 ومثل هؤلاء البهود بعض المحسوبين على الإسلام  وقد حمّلوا القرآن ولم يحملوه ، واتخذوا أهواءهم آلهة ، فصاروا يدعون إلى غير ما نهاهم  عنه القرآن الكريم  من موبقات ، وهم على وعي وعلم بما يدعون إليه بل عن قصد وسبق إصرار ، وهم يطالبون بأن تكون شرائع  أهواءهم بدائل عن شرع الله تعالى . وإن منهم من ينال من الإسلام حقدا عليه  ما يناله منه أعداءه من  يهود ونصارى وكفّار أو أكثر ، وذلك إعجابا  واقتداء بهم ، وولاء وتقليدا لهم التقليد الأعمى  . وعليه فكل من اتخذ هواه إلهه مهما كان هذا الهوى، فإنه يدخل تحت صنف الضالين المختوم على أسماعهم وقلوبهم والمغشاة أبصارهم، ولن ينجلي عنه ضلاله  حتى يبرأ  إلى الله عز وجل من  عبادة هواه ، ويعود إلى صراط ربه المستقيم .  

وإذا كان هذا حال المارقين من دينهم ، فالمؤسف أن يقع في حالهم بعض من أوكل إليهم  تسديد تبليغ كتاب الله عز وجل  من أهل العلم ومن الدعاة ، فيسكتون عن إنكار ما أمر الله تعالى بإنكاره من المنكرات ، وقد حملوا ذلك ، ولكنهم لم يحملوه .ومما تقاعس هؤلاء عن إنكاره ما يفعل اليوم اليهود المجرمون بالمؤمنين في أرض الإسراء والمعراج  ، وذلك إما حرصا على الرسوم التي تصرف لهم أو إرضاء لحكام مقصرين في القيام بفريضة  نصرة  هؤلاء المستضعفين الذين يستنصرونهم  وهم عنهم غافلون  . ألا يخشى هؤلاء العلماء والدعاة الذين آثروا  أهواءهم إما طمعا أو خوفا ، ولم يحملوا  ما حمّلهم  سبحانه  وتعالى من واجب النصح لولاة أمورهم وعموم المسلمين  أن يصيروا في حكم من ختم على أسماعهم وقلوبهم ، وغشيّت أبصارهم  وأضلهم الله على علم ؟ أفلا يتذكّرون ؟

 إن كل عالم أو داعية  في بلاد الإسلام  مهما كان باعه في العلم إن  قصّر في واجب الدعوة إلى نصرة المستضعفين في الأرض التي باركها الله تعالى ، وفيها أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين  بدافع هوى طمع أو تقرب أو تزلف من حاكم  يسترضيه ، ويقصر في النصح له ، فعليه أن يبادر بتوبة نصوح ، ويبرأ إلى الله تعالى من تقصيره في واجبه لأنه لا عذر له  قبل أن يلقى الله تعالى وهو ظالم لنفسه ولغيره .

وكل مؤمن لم يحدث نفسه بواجب نصرة أهل فلسطين ولو بالحد الأدنى من قبيل التعاطف معهم ، والاهتمام بأمرهم ، وتتبع أخبارهم ، التألم لآلامهم ، والدعاء  لهم ،  أو مقاطعة مأكولات ومشروبات ومواد  وسلع يقتنيها عن هوى ،وريعها يصب في  جيوب الصهاينة الظالمين ، فعليه أن يراجع إيمانه ، وأن يتقي سوء الحال  بالختم على سمعه وقلبه وبالغشاوة على بصره ، وبالضلال، وهو على علم بما يفعل ولكنه  يتعمده ويتجاهل نصح الناصحين بتركه .

اللهم إنا نعوذ بك أن نَضلّ  أو نُضلّ ، ونعود بك من أهواء تُضلنا  على صراطك المستقيم ، ونعوذ بك من ختم على أسماعنا وقلوبنا ، ومن غشاوة على أبصارنا  فيحول ذلك  بيننا وبين هديك القويم  وهدي نبيك الكريم سيدنا محمد عليه أفضل الصلوات والسلام .

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين . 

وسوم: العدد 1092