‏الفجور في الخصومة من آية المنافق

وفي حديث سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنه، في الصحيحين، أربع من كنّ فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن، كانت فيه خصلة من النفاق حتى يذرها، فذكر: الكذب في الحديث، وإخلاف الوعد، والفجور في الخصومة، والغدر - النكث- بالعهد...

‏وجملة ما قال الشراح في معنى الفجور في الخصومة، أنه طلب الفوز على الخصم بكل السبل، لا يبالي هذا المخاصم أبحق وصل إلى يدعيه أو بباطل...

‏إلا أن المتأمل في معنى "الفجور" كما هو في لغة العرب، وكما هو في مواضعه من القرآن الكريم يجد معاني أكثر سعة مما ذكر شراح الحديث..

‏وورد لفظ الفجور باشتقاقاته في كتاب الله في سبعة مواضع منها ما كان قرين الكفر والجحود والعياذ بالله...

‏قال تعالى: (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ)، وقابل ذلك مع كتاب الأبرار. وكما أن البر رتبة من رتب الإيمان، فإن الفجور دركة من دركات الكفران، والعياذ بالله.

‏وقال تعالى: (أُولَٰئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ)، فأولئك قوم جمعوا والعياذ بالله مع الكفر في الاعتقاد، الفجور في السلوك ..

‏وقال سيدنا نوح في دعائه : (إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا).. فتأمل كيف يتناغم معنى الكفرة الفجرة مع معنى الكافر الفجّار.. لتعلم أن الفجور دركة من دركات الكفر، وأن الذين قالوا: ليس بعد الكفر ذنب، قد تجاوزوا، ففرق ولا شك بين كافر قد طوى كفره في قبره، أقصد في قلبه، وبين كافر قد جمع إلى كفره النصب لأذى الناس، وإشاعة الفساد في الأرض، فأمعن في الأرض فسادا وظلما وفي الناس تقتيلا وتشريدا..

‏وقال تعالى عن النفس الإنسانية (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) وجعل الفجور في السلوك مقابلا لحالة التقوى أو اتقاء الشر والفساد..

‏وقال (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ)، وسألح عليك لتلحظ معي أن الفجور كدركة يقابل بالتقوى والبر كدرجة، كل ذلك حسب ورود لفظ الفجور في القرآن الكريم، وقال في موضع سابع: (أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) وتذكر أنه نبه في موضع آخر بمثل هذا السؤال: أفنجعل المسلمين كالمجرمين...

‏إن معنى الفجور في القرآن الكريم تجاوز معنى الكفر في ظلمته وفي غشيته.

‏ولذا جعله حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: إمارة من إمارات النفاق، ومدخلا من مداخله فقال في تعداد علامات النفاق: وإذا خاصم فجر...

‏قال ابن حجر العسقلاني في فجور الخصومة هذا: "هو الميل عن الحق والاحتيال في رده." ففاجر الخصومة هذا، لا يلجمه عن المضي في خصومته شيء، لا تقنعه بيّنة، ولا تردعه تقوى، ولا يحول بينه وبين التبجح على الحق بما يدعي من نصرة الباطل، شيء!! (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ). لا تحاول إذا كان خصمك أو مجادلك لا يبحث عن حق ولا يطلبه، ولا يريده.. فذلك شكل من أشكال الفجور في الخصومة الذي لا تنفع معه محاولة...ولا تقنع صاحبه بينة!!

‏وقال الأصفهاني في مفردات القرآن عن معنى الفجور : "والفجور شق ستر الديانة". يشق ستر الدين، والدين ستر أقامه الله بين عباده المؤمنين والمسلمين. فالفاجر في خصومته لا يبقي ولا يذر، لكي يصل إلى ما يظنه الظفر. فيسلب خصمه مالا أو يقيم عليه حجة، أو يقيم عليه دامغة...

‏والفجور في الخصومة قد يتجاوز كل ذلك إلى ما يسمى "لغة الفاجرين" في أساليبهم وتعاطيهم، فهم إلى النيل من أعراض الناس ومن كرامات الناس أو إلى اتهام الناس أسرع...سب وشتم واتهام وتحقير فلا قاع لتسفل الفجار وحين يتسفلون فإلى أسفل سافلين...

‏وتطورت دلالة الفجور في لغة المولدين ،كما تعودنا أن نقول، حتى كادت أن قتصر على أحاديث أهل الخنا وأفعالهم، فارتبطت لفظة الفجور بهم، فظل الناس يرددون منددين بأحاديث أهل الخنا والفجور ..

‏في أدب الحوار أو الجدال على طريق البحث عن الحق، وطلبه، يقول سيدنا الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، وأكرم بالإمام الشافعي إماما وأستاذا ومعلما: ما جادلت أحدا إلا أحببت أن يسدد ويُعان ويكون معه من الله سلطان... يكون الإمام الشافعي في قلبه مع خصمه خوفا عليه أن يخطئ...

‏أيها الناس.. الرشاد الرشاد.. السداد.. السداد...

‏اطلبوا الحق برفق، واخفضوا أجنحتكم للداعين إليه...وليس بعد الحق إلا الضلال...

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 1092