الخاطرة ١٩٩ : ابن رشد الفيلسوف المظلوم الجزء ٢
خواطر من الكون المجاور
في البداية و قبل أن أبدأ أحب تنويه قرائي الأعزاء بأنه عند متابعتكم فقرات المقالة قد يثير تساؤلكم عدم وجود رابط مباشر بين عنوان المقالة ابن رشد وأسطر المقالة التي لا تذكر شيئا عن ابن رشد، لأشير هنا أن موضوع ( ابن رشد الفيلسوف المظلوم) قد تم كتابته بأسلوبي أسلوب الرؤية الشاملة وليس بأسلوب الرؤية المادية كما هو المعتاد عليه في أساليب الآخرين ،فإذا ما تم كتابه الفقرات بربطها مباشرة مع ابن رشد فستفقد الكلمات معانيها وستتبعثر فقرات الموضوع بدون أي روابط مفهومة مما سيجعل القارئ يتوه وبالتالي سيفقد معه أيضا دور ابن رشد الذي هو الهدف الأول من نشر المقالات عنه، وكذلك لإدراكي بأنه إذا كانت الفقرات مكتوبة بالرؤية المادية قد يتوقف الكثير من القراء عن متابعة قراءة المقالة ولن يصل إلى نهايتها إلا القليل ، لهذا أحاول هنا جاهدا جمع وربط تلك المعارف لكم و التي كانت مبعثرة في زمن ابن رشد والتي أثرت في نوعية فكره لتجعله الفيلسوف الذي أنار ظلمة الشعوب الأوربية ، فكل ما تقرأونه في فقرات هذا الموضوع ليس إلا بمثابة تلك المصابيح التي كانت تنير من حوله لتجعله يحكم على الأمور التي صادفها في حياته بالطريقة التي تناسب إدراكه والتي رأها تنسجم مع إحساساته ، بمعنى آخر أن كل ما هو مذكور هنا هو فكر ابن رشد بالضبط، فقد يكون ابن رشد لم يبحث في المعلومات والأحداث المذكورة هنا لأنها غير مكتوبة في كتبه ، ولكن سلوكه وتعامله مع من حوله من رجال عالم الفكر في زمانه وقبله، (والتي سنذكرها عندما نتكلم عنه) ، تؤكد إلمامه بمضمون هذه المعلومات والأحداث المذكورة هنا . وبالإضافة إلى ذلك فبهذا الأسلوب الذي اتبعه هنا وفي جميع مؤلفاتي سيسمح للقارئ فهم مضمون أحداث كان قد سمعها في حياته ولكن بإسلوب جعل كل حدث في فكره يبقى منفصلا عن غيره وكأنه حدث تاريخي مثل بقية الأحداث ، و كأن الحدث ليس له علاقة لا بالقارئ ولا بشعبه ولا بدينه ، وهذه هي أكبر الأخطاء التي تعاني منها الكتب المدرسية والثقافية في عصرنا الحاضر.
ولكن هنا أنا أذكر هذه الأحداث وكأنها أحداث من رواية واحدة تحصل في عائلة واحدة لأن تطورها يتبع مخطط إلهي لإله واحد .
لنتابع الآن مسيرة علم الحكمة ( الفلسفة) عبر التاريخ .
من يوسف إنتقل علم الحكمة إلى علماء مصر القديمة حيث ذهبوا وأعطوا إسم عالم الحكمة لقب (النبي ) ووضعوه في أعلى مراتب درجات العلم ، لذلك كان على كل شخص يطلب العلم ويريد أن يصل إلى هذه مرتبة (عالم حكمة) وجب عليه المرور بعلوم عديدة مثل . علم الكتابة ،علم الدين، علم الزراعة، الهندسة ،الطب. ... فإذا إجتاز هذه العلوم بتفوق عندها يمكن له متابعة دراسته في علوم الحكمة.
وكانت علوم الحكمة ترتكز على عدة مبادئ نذكر هنا أهمها :
المبدأ الأول حقيقة وجود الإنسان وواجباته : يعتمد هذا المبدأ على فكرة أن الله في البداية خلق الإنسان في الجنة ، وكان تكوينه في أكمل صورة روحيا وجسديا ، لذلك كانت روحه خالدة ، ولكن الإنسان قام بارتكاب خطيئة جعلته غير مناسب لنظام الحياة في الجنة ، فأنزله الله إلى الأرض ليقوم بعملية تطهير روحه من جميع الشوائب الشيطانية لتصل إلى مرحلة الصفاء الروحي المطلق من جديد ، ولكن بما أن ظروف الحياة على الأرض تختلف تماما عن ظروف الحياة في الجنة فهذه الظروف ستجعل جسده لا يستطيع أن يتحمل العيش لمدة كافية ليقوم بتصحيح تكوينه وتنقيته من الشوائب السيئة التي حصلت بسبب الخطيئة ، لهذا قسم الله عملية تنقية الروح إلى عدة مراحل أي عدة حيوات ، حيث في كل مرحلة الإنسان يولد ويعيش حياة جديدة حتى يكبر ويهرم ثم يموت ، ثم بعد مئات السنين يولد من جديد ويعيش حياة ثانية بشكل مختلف واسم مختلف حتى يهرم ويموت وهكذا ، وفي كل حياة من الحيوات التي يعيشها اﻹنسان من واجبه الاستمرار في عملية تطهير روحه عن طريق إكتساب المعارف والسلوك الحسن واﻹبتعاد عن الشهوات الدنيئة ، لذلك بعد كل وفاة يأتي عليه يوم الحساب ليأخذ جزاء ما فعله في حياته ، فكلما كانت أعماله الصالحة أكثر كلما كان تكوينه الجديد الذي سيولد فيه في المرة القادمة سيكون افضل فيولد جميل الشكل عالي الذكاء والفطنة والعائلة التي ستنجبه لتربيه وتشرف عليه ستكون عائلة سعيدة تحبه وبأحوال فكرية ومالية جيدة لتسعده وتساعده في متابعة حياته . أما إذا كان المتوفي أعماله السيئة في حياته التي عاشها أكثر من أعماله الصالحة فعندها سيحاسب عليها وتكون ظروف حياته عندما يولد من جديد قاسية ، فسيكون قبيحا قليل الذكاء وسيولد في عائلة سيئة لا تؤمن له العناية الكافية من أبويه لرعايته وتربيته تربية صالحة ، فكما فعل هو في حياته السابقة سيعطيه الله أبوين يفعلان به مثلما فعل هو للآخرين في حياته الماضية. ولكن إذا سلك في حياته الجديدة الطريق المستقيم ورضي بما إبتلاه الله وصبر على حالته التعيسة وقام بالأعمال الصالحة ففي حياته الجديدة بعد وفاته سيحسن الله اوضاعه . ولكن إذا استمر وتمادى في أعماله السيئة ، فستكون ظروف حياته التي ستأتي بعد وفاته ، قاسية أكثر فأكثر... وهكذا ، ولكن عندما يستمر الإنسان في الهبوط عندها تأتي فترة لن تستطيع روحه العودة من جديد في رحم إمرأة، عندها يولد في أنثى حيوان لأن روح الله فيه قد خرجت منه ومستوى تكوينه الروحي قد أصبح بعيدا عن تكوين الإنسان لذلك سيولد كحيوان ، ثم يولد في المرة الأخرى كحيوان آخر أدنى من الأول وهكذا حتى تصل روحه إلى أدنى أشكالها وعندها يموت موتة أبدية كما تفعل النار تماما عندما تحول كل شيء إلى رماد . وهنا يجب أن نذكر أن عملية التحنيط التي كان يقومون بها المصريون القدامى لم تكن سوى تشويه لهذا المبدأ حيث حولوه من بعث روحي إلى بعث جسدي.
المبدأ الثاني الخطة الإلهية : الكون بما فيه يسير حسب خطة إله الخالق ، كل حركة فيه لها سبب ، وعالم الحكمة يجب أن يبحث عن السبب من خلال نتيجة هذا السبب ليصل في الأخير إلى فهم السبب الإلهي لهذه الحركة وعلاقتها بتنقية التكوين الإنساني الروحي والجسدي وهدف عالم الحكمة هنا ان يستخدم ما حصل عليه في تحديد اختيار الطريق الصحيح الذي يناسب المخطط الإلهي لتوجيه الناس إليه ، بمعنى آخر أن الله يفعل ما يشاء ، ولكن أفعاله ليست عشوائية ولكن لها غاية معينة هدفها مساعدة الإنسان ليصل إلى الكمال الروحي والجسدي.
المبدأ الثالث الترابط الروحي : الأشياء جميعها قد توجد بحالة منفصلة ماديا ، ولكن روحيا جميعها مرتبطة ببعضها البعض ، وجميعها متصلة بروح الخالق لأن جميعها تمتلك روح ، الجماد والنباتات والحيوانات لها المقدرة فقط على الإتصال روحيا فيما بينها ، لأن الله وضع قوانينها وهي تطبقها تماما دون أي إرادة فهي مسيرة وليست مخيرة . أم عند الإنسان فالأمر مختلف فالإنسان يملك جزء من روح الله في تكوينه فهو مسير ومخير في نفس الوقت ، لذلك نوعية الإتصال فيه ذو جهتين إتصال أرضي مع الناس وإتصال سماوي مع الله ، وشدة الإرسال والإستقبال في الإتصال الأرضي تتوقف حسب شدة أهمية الحدث في المخطط الإلهي وحسب نمو الإدراك الروحي عند الإنسان، مثلا طريقة الإشعال في الإنسان القديم لم تنتقل من جماعة إلى أخرى عن طريق التعلم او التقليد ولكنها إنتقلت عن طريق الإتصال الروحي ، فالمقدرة على إشعال النار ظهرت بنفس الفترة في جماعات إنسانية تبعد عن بعضها البعض مئات الكيلومترات ، مثال آخر لتوضيح الفكرة أكثر ، ما سيفعله شخص في الصين سيصل إلى سكان مصر بسرعة الضوء ويؤثر بهم ، وشدة التأثير هذه تختلف حسب أهمية الحدث ، فإذا كان الحدث بلا أهمية سيصل إلى سكان مصر ولكن لن يشعر به أحد ، أما إذا كان الحدث هام جدا سيصل إلى سكان مصر ولكن الشخص الذي سيستطيع ترجمة هذا الإحساس ليفهم معناه يجب أن يكون نموه الروحي عالي ، أي ذو بصيرة عالية . قسم من معارف الإنسان عبر التاريخ إنتقلت بهذا النوع من الإتصال الروحي لذلك نجد مثلا أن في الحضارة الصينية التي لم يزرها أي عالم من حضارة الإغريق ، قد ظهرت فيه نفس الأفكار الفلسفية والفنية وفي نفس الزمن لدرجة أن بعض العلماء إعتقد أن بعض التماثيل الصينية قد أشرف على تصميمها فنان إغريقي لأنها تشابه طريقة عمل نحاتين الإغريق. هذا النوع من الإتصال اليوم الذي يُشعر به بشدة يحصل بين الأخوة والأصدقاء ويسمى تخاطر . نفس هذا النوع من الإتصال أيضا يوجد بين الإنسان والله الخالق ، فالله يتكلم مع جميع الناس ولكن درجات فهم ما يقوله الله يتناسب مع درجات البصيرة ، لذلك كانت قوة الإتصال بالله عند الأنبياء في أعلى درجاتها ، اما عند الذين لا يؤمنون بالله لا عقليا ولا روحيا فهم بلا أي إتصال مع الله ولهذا السبب يجدون أن جميع الأحداث التي تجري معهم وكذلك أحلامهم تكون عشوائية لا معنى لها ، فقد يحدث نفس الحدث مع شخصين الاول مؤمن فيأتي هذا الحدث فيشعر المؤمن وكأن الحدث مرتبط مع حدث آخر قبله حصل معه فيشعر أن الحدث الأول ليس صدفة ولكن له معنى وأن الله وراء هذا الحدث ، بينما الذي لا يؤمن بالله فيأتي نفس الحدث ولكن لا علاقة له بالحدث الذي حصل معه قبله فلا يشعر بشيء ولا بأن هناك خالق يدبر الأمور . أما الذين يؤمنون بالله ولو فقط روحيا رغم ان عقلهم يرفض وجود الله بسبب النظريات العلمية التي قرأوها فهولاء سيشعرون بأن بعض الأحداث التي حصلت معهم أو بعض أحلامهم ليست صدفة ولكن وكأنها لها معنى .
المبدأ الربع : برائة الأطفال ، كل طفل يولد يكون بريء من كل شيء لأن الله قد حاسبه على أعمال حياته ، وكون طفل ولد فقيرا ، أو غير حسن الشكل ، أو قليل الذكاء ، لا يعني بالضرورة أنه كان شخصا سيئا في حياته السابقة فقد تكون قيمته عند الله أعلى من الكثير من الأطفال الأغنياء وذوي المظاهر الحسنة والأذكياء ، ولكن الله أختار له هذه الصفات لكي لا يجلب الأنظار إليه فتتأثر بشل سلبي فيخرج عن دوره الذي أعطاه الله يقوم بمهمة معينة تفيد مجتمعه المتخلف ، أو ليكتشف شيئا في بيئة سيئة سببت هذه مشكلة تخلف المجتمع . فهتاك الكثير من الأطفال يبدو للكبار بأن الذكاء لديهم محدود ولكن الحقيقة أن ذكاء هؤلاء الأطفال له نوعية أخرى تظهر عندما يصبحوا شبابا . لذلك الله وحده فقط هو من يعلم حقيقة كل طفل ، وجميع اطفال العالم أبرياء مما حصل معهم في حياتهم السابقة.
على هذه المبادئ يعتمد فكر علوم الحكمة (الفلسفة) ، التي أتت من يوسف ، لذلك عالم الحكمة حتى يتقرب من الله ليساعده في تنمية بصيرته يجب أن تكون أبحاثه تحقق الشروط التالية :
١- أن يعطي أهمية للغة الارقام والرموز في أبحاثه لأنها اللغة الألهية التي خُلقت الأشياء عليها .
٢ - أن يرفع مكانة المرأة في المجتمع، لأن المرأة هي القسم الروحي للمجتمع ، وبدونها يفقد المجتمع روحانيته.
٣ - أن يعمل على التوحيد ، سواء كان التوحيد بين أفراد المجتمع او توحيد الشعوب لذلك كانت مصر القديمة دولتين (سفلى وعليا) في دولة واحدة وهذا لم يكن صدفة ولكن لتكون رمز إلهي يفهمه علماء الحكمة . وكذلك على عالم الحكمة أن يحاول توحيد آراء جميع علماء العلوم المختلفة نحو الشيء المدروس لأن كل علم يدرس الشيء من زاويته الخاصة بعلمه ، وواجب عالم الحكمة (الفيلسوف) هو توحيد هذه الزوايا ليحصل على حقيقة هذا الحدث وبالتالي معرفة دوره في المخطط الإلهي .
٤ - أن يعمل على تنمية عاطفة حب السلام في الناس ، لأن السلام هو أقرب طريق لتحقيق عملية التوحيد
٥ - أن يعمل على تنمية العفة لتكون العلاقة بين المرأة والرجل علاقة حب أساسها روحي تعتمد على العواطف السامية وليس على الغرائز الشهوانية ، لأن العلاقة التي يكون أساسها على الحب الروحي بين الرجل والمرأة ستؤدي إلى توحيد أفضل الصفات الموجودة في كل من الزوج والزوجة ليتكون علاقة تكامل بينهما ولكي تكون هذه الصفات هي التي ستنتقل منهما إلى أبنائهم .
ما ذكرته قبل قليل ربما تجدون شيئا قريبا منه وبطريقة عشوائية وبصورة مختلفة قليلا في عقائد ومذاهب علوم الحكمة القديمة ، ولكن هنا ذكرتها بصورتها الصحيحة بعد دمجها وتنقيتها من جميع شوائبها التي عكرت صفائها عبر التاريخ ، والتي جعلت الكثير من رجال الدين ينظرون إليها يقبلون ببعض منها ويرفضون بعضها وكأنها حسب ظنهم تعارض تعاليم دياناتهم.
علوم الحكمة في مصر القديمة سميت بتعاليم الإله (تحوت) ، وكان هذا الأسم هو أول إسم يطلق على علوم الحكمة بدلا من مصطلح فلسفة ، هذه العلوم إنتقل مع بعض أفراد قوم موسى بعد خروجه من مصر، وبعد حوالي ثلاثمئة سنة وصل قسم منه إلى النبي سليمان عليه الصلاة والسلام ، فكما يذكر سفر الملوك الاول في الأصحاح الثالث أن سليمان عندما إستلم الحكم بعد وفاة والده داود عليه الصلاة و السلام، في إحدى الليالي رأى الله في حلمه يسأله ان يطلب ما يشاء ، فدعى سليمان إلى ربه أن يهبه الحكمة ليستطيع إدارة شؤون بلاده وشعبه بالعدل وبما يرضي الله ، فحسن كلام سليمان في عيني الرب لأن سليمان سأل في هذا الامر ، فوهبه الله حكمة وعلما لا مثيل لهما في ذلك العصر (١٠٠٠ عام قبل الميلاد تقريبا). وطالما أن أسلوب تفكير سليمان هو من الله ، كان يفعل ما يقول له إحساسه ، من ضمن الأشياء التي فعلها هو إقامة صداقة مع الشعوب المجاورة الوثنية فساعدهم في تنمية مستواهم الإجتماعي وساعدهم أيضا في تحسين بناء معابدهم وأصبح يحتك بعلمائهم وكهنتهم وخرج في الأخير بمعارف شاملة قسم منها لم تكن موجودة في كهنة وعلماء اليهود مما جعلته أحكم الناس وأكثرهم فهما ، قسم من علوم سليمان معروفة اليوم عند رجال الدين اليهودية والدين المسيحي بعلوم سليمانية ولكنهم ينظرون إليها على أنها علوم وثنية لذلك فهم يرفضونها . ولكن في الحقيقة أن جذور هذه العلوم التي يرفضونها ترجع إلى النبي يوسف . لذلك نجد أنه هناك سفران في الكتب المقدسة يذكران قصة حياة سليمان ، سفر الملوك الأول وسفر أخبار الأيام الأول . في سفر أخبار الأيام الأول قصة حياة سليمان مذكورة وكأن سليمان في حياته قد فعل ما أمره الله بدون أخطاء ولا يذكر شيئا عن علاقته بالشعوب الوثنية ، أما في سفر الملوك الاول فيذكر هذه العلاقة ويذكر ان سليمان قد كفر وخرج عن تعاليم الرب بسبب تلك العلاقة التي أقامها مع الوثنيين . ولكن نجد أن القرآن الكريم ينكر هذا في آيته الكريمة "....وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا...." ولهذا تذكر الأية القرآنية "وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (١٦) النمل" . فالنبي سليمان لكي تصل معارفه إلى معارف شاملة تحوي كل شيء إضطر أن يأخذ من حكماء الشعوب المجاورة .
علوم سليمان سميت (الكابالا اليهودية) وهذا هو الأسم الثاني لعلوم الحكمة (الفلسفة)، إذا بحثنا في الإنترنت ما يقوله الشيوخ المسلمين عن حقيقة الكابلا اليهودية ،سنجد انهم يتهمونها بأنها مذهب مصدره الديانات الوثنية الفرعونية ويعتمد على السحر الأسود والشعوذة لتحضير الأرواح وما شابه ذلك من خرافات . وحتى يكفروها أكثر يقولون بأن المطربة العالمية مادونا (المعروفة للجميع بأنها شبه عاهرة) تنتمي إلى مذهب الكابلا اليهودية . للأسف هذا الرأي عن الكابلا اليهودية لا يصدر إلا من شخص جاهل بعلوم الكابالا أو من شخص متعصب لدينه هدفه تكفير الديانات او المذاهب الأخرى . لأن معنى كلمة كابالا مذكور في القرآن بطريقة رمزية . وللأسف هنا لا نستطيع شرح هذه النقطة بالتفصيل لأنه يتعلق ببعض الأشياء التي يؤمنون بصحتها المسلمين ولكن دون أن يعلموا ان مصدرها يأتي من كلمة كابالا ولكن توضيح هذه الفكرة ليقتنع القارئ المسلم يحتاج لشرح طويل يخرجنا عن الموضوع الأصلي . ولذلك سأذكر هنا الشيء البسيط عنها.
كلمة (كابلا) هو اليوم الأسم المستخدم عالميا لعلوم سليمان ، ولكن اللفظ الصحيح لها كما هو في اللغة اليهودية فهو (قابلا) ومصدر هذه الكلمة في اللغة اليهودية والعربية أيضا هو فعل (قَبِلَ) ويعني في اللغتين (رضى عنه ، وافق عليه)، فكلمة (قابالا) تعني (موافق عليها) ، بمعنى أن الله يرضى ويوافق على المعلومات التي ستأتي من هذه العلم وأبحاثه ، لذلك نجد أن الحكمة الإلهية في تصميم القرآن الكريم في قصة أبناء آدم قابيل وهابيل يستخدم كلمة مختلفة عن تلك المذكورة في سفر التكوين لنفس القصة ، حيث سفر التكوين يستخدم فعل (نظر) الله إلى قربان هابيل ولم (ينظر) لقربان قابيل بمعنى حدث إتصال بين الله وهابيل ولكنه لم يحصل مع قابيل ، بينما القرآن يستخدم فعل تقبل بدلا من نظر "وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ ۖ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٢٧) المائدة" هذا التغيير في الكلمة من نظر إلى تقبل ليس صدفة ولكن حكمة إلهية تشير إلى اسم علوم سليمان (الكابالا) لأن أسم سليمان يعني الإنسان المحب للسلام ، وهو صفة هابيل الذي تقبل الله قربانه ، ولهذا رفض هابيل الدخول في شجار مع أخيه لكي يدافع عن نفسه فعدم دخوله في الشجار سببه حصول إتصال بين الله وهابيل أي أن الله هو الذي اخبر هابيل بذلك . فكلمة (كابلا) مصدرها من قصة قابيل وهابيل المذكورة في القرآن الكريم رغم أن سليمان توفي قبل أكثر من ١٥٠٠ عام من نزول القرآن وهذا يعني أن تغير فعل (نظر) الموجود في سفر التكوين ، إلى فعل (تقبل) في القرآن يعني أن الله يوافق على صحة علوم الكابالا . لذلك قبل أن يتهم المسلمون الكابالا اليهودية بالكفر عليهم أن يتأكدوا جيدا من حقيقة هذا المذهب ومصدره الرئيسي ونوعية تعاليمه.
الكابلا اليهودية في العصر الحديث توجد بعدة أشكال ومعظمها تم تشويهها بغرض مصالح شخصية بهدف إكتساب قوى ما فوق الطبيعة مشابهة لما يفعله بعض العرب في المجتمعات المتخلفة بمحاولة تحضير الجن لإكتشاف الكنوز المخبئة أو معرفة بعض الأمور الغيبية . ولكن رغم مرور ثلاثة آلاف عام على وفاة النبي سليمان نجد أن أولئك اليهود اليوم الذين يؤمنون بدينهم ويقومون بشعائره من أجل إرضاء الله وليس من أجل مصلحة شخصية ، فمذهب الكابلا الذي يؤمنون به مبادئه مشابهة لعلوم يوسف التي ذكرناها في بداية المقالة. وهؤلاء ليس لهم علاقة لا بحكام إسرائيل ولا بالماسونية ولا يوافقون على قتل الأبرياء وظلم الآخرين لأنهم يدعون إلى السلام لأن الكابلا تفرض عليهم ذلك . ولكن للأسف اليوم الشيوخ والمفكرون المسلمين ووسائل الإعلام الإسلامية لا تذكر شيئا عن أمثال هؤلاء اليهود لكي لا يظهر للمسلمين العامة أن في اليهود يوجد ناس طيبين وإيمانهم بالله روحي بلا مصالح شخصية ولا عرقية. لذلك لا تسألوا أيها المسلمون لماذا الأمة الإسلامية اليوم تعاني من إنحطاط جعلها تبدو وكأنها أمة متخلفة في نظر بقية الأمم ، فلا شيء يحدث بالصدفة ولكن لكل نتيجة سبب وهذه النتيجة التي نراها في الأمة الإسلامية اليوم تمت بتدبير من الله بسبب ضعف البصيرة في علماء هذه الأمة منذ إنهيار الحضارة الإسلامية وحتى الآن ، أو كما تُفسر بلغة علوم الحكمة سببه ضعف خط الإتصال بين مسلمين اليوم وبين الله عز وجل.
في المقالة القادمة إن شاء الله سنتابع مسيرة علوم الحكمة (الفلسفة) من اليهود والمصريين إلى اليونانيين (الإغريق) وسنذكر أمثلة توضح كيف يحدث الإتصال بين الله والإنسان .
ملاحظة هامة : ربما بعض فقرات الموضوع قد تبدو للقراء الجدد أنها غريبة أو أنها تعارض الدين الإسلامي ، لذلك للمزيد من التفاصيل لبعض هذه الأفكار التي شرحتها بأسطر قليلة يرجى العودة إلى الخواطر التالية :
- الخاطرة ١١ (العفة والسلام)
- الخاطرة ٢٧ (التخاطر) ، ٢٩ (عالم عجيب جدا)
- الخاطرة ٥٣ (فلسفة الخروج من الجنة )
- الخواطر ٦٢، ٦٣ ، ٦٤ (حقيقة التقمص)
وشكرا
وسوم: العدد 801