وقفة استيضاح بخصوص ما ورد من استحثاث على سلوك الطرقية في خطبة الجمعة الفارطة
بداية لا بد من الإشارة إلى أن هذا الاستيضاح ليس مطلوبا من الخطباء الذين ألقوا هذه الخطبة، بل المعني به هو من حررها ، وهي واحدة من مجموع الخطب الموحدة التي عممتها الوزارة الوصية على الشأن الديني في بداية الأمر على الصعيد الوطني ، ثم تراجعت عن ذلك فيما بعد حين انتقد الرأي العام الوطني قرار التعميم ، فخيّرت الخطباء بين اعتماد ما يصدر عنها حرفيا من خطب وبين اعتماد خطبهم شريطة التزامهم بنفس مواضيع ما تقترحه من خطب.
ويبدو أن السواد الأعظم من الخطباء لا يجدون مندوحة عن إلقاء خطب الوزارة إما توجسا من محاسبتها لهم أو عجزا عن الاتيان ببدائل أو ركونا إلى التهاون مع توفر الخطب الوزارية ،علما بأن مستويات الخطباء متفاوتة، فمنهم شريحة من حفظة كتاب الله أسندت إليهم مهمة الخطابة باعتبار حفظهم فقط دون أن يكون لهم إلمام بفن الخطابة ، وما تستوجبه من اتقان لعلوم الآلة من نحو وصرف وبلاغة ، ومن فنون وأساليب التعبير ، ومن فصاحة وبلاغة مع جهورية الصوت ،ومن تمثل لأساليب اللسان العربي ، ومن سعة اطلاع ، ومن تمكن في سوق الشواهد من فصيح وبليغ الكلام العربي ... إلى غير مما تقتضيه الخطابة لتؤدي دور الإقناع والتأثير في النفوس ، وهؤلاء ليسوا سواء، بل فيهم من تمرسوا بهذا الفن ، ومنهم شريحة من المشتغلين في قطاع التربية تمرسوا بالخطابة بحكم مهامهم التربوية ، وهؤلاء ليسوا سواء في اتقان فن الخطابة ، بل تتفاوت مستوياتهم ،ومع ذلك هم أفضل أداء من الشريحة الأولى غير المتمرسة بهذا الفن . وربما وجدت بين الشريحتين شريحة ثالثة من قطاعات أخرى يتراوح أداؤها الخطابي بين المستوى الجيد والمستوى المتواضع. ومعلوم أن رواد المساجد إنما يفضلون الإقبال على من يجيدون فن الخطابة مضمونا وشكلا،ولا يرتاحون ،ولا يرتاحون إلى ما دون ذلك .
ولا بد من التذكير بأن ما حمل الوزارة على توحيد خطب الجمعة هو تنزيلها لما سمته خطة تسديد التبليغ بناء على قناعة منها أن الشقة قد بعدت بين الدين والتدين عند المغاربة ، وقد عمدت في كل ما اقترحته من خطب إلى الدوران حول فكرة مفادها أن صحة الإيمان تفضي إلى صالح الأعمال ، وهذه الأخيرة تفضي إلى حياة طيبة.
ولقد اعتمد محرر خطبة الجمعة الفارطة على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم جوابا على استنصاح الصحابي الجليل سفيان بن عبد الله رضي الله عنه ، وصيغته : عن سفيان بن عبد الله قال : " قلت : يا رسول الله ، قل لي في الإسلام قولا لا أسال عنه أحدا غيرك ، قال : قل آمنت بالله ، ثم استقم " .
وتركز الحديث في هذه الخطبة على دور الإيمان في الاستقامة إلى أن أحالت على هذا المعنى في بعض كتب الصحاح تحت أبواب معلومة فيها ثم انتهت بما يفهم منه بشكل واضح لا غبار عليه أنه استحثاث على سلوك الطرق الصوفية من أجل تفعيل مضمون الحديث النبوي الشريف ، الشيء الذي قد يوهم أن ذلك لا يتأتى إلا عبر هذا السلوك.
والسؤال المطروح هل محرر هذه الخطبة تلقى توجيها من الوزارة الوصية التي على رأسها وزير شاع في الناس أنه متعاطف مع الطرقية ، وهو المشهور بمؤلفه الروائي " جارات أبي موسى " الذي عالج فيه موضوعا يمت بصلة إلى الطرقية ، وكان توجيهها استحثاثا على السلوك الطرقي أم أنه مجرد اجتهاد منه قد تكون قناعته الطرقية هي التي دعته إلى ذلك ؟
ومهما يكن الداعي إلى هذا الاستحثاث ، فإنه كان على محرر الخطبة أن يتأكد من أن سواد الشعب المغربي يوافقه الرأي على سلوك الطرق الصوفية ، كما كان عليه أن يضع في اعتباره أن هذا السواد ملتزم بما جاء في كتاب الله عز وجل وما جاء في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ،مصداقا لقوله تعالى : (( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرّق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون )) ،ومصداقا لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه العرباض بن سارية رضي الله عنه والذي جاء فيه : " تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك ، من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا ، فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وعليكم بالطاعة وإن عبدا حبشيا ، فإنما المؤمن كالجمل الأنف حيثما قِيد انقاد " ، فالآية الكريمة الثالثة والخمسون من سورة الأنعام فيها إشارة واضحة إلى أن صراط الله المستقيم واحد ، وسبيله واحدة لا تتفرق عنها سبل ،وأن تقوى الله لا تتحقق إلا بسلوك هذا الصراط كما جاء وصفه في توجيهات القرآن الكريم دون زيادة أونقصان ، كما أن الحديث النبوي الشريف فيه إشارة واضحة إلى محجة بيضاء واحدة لا تتشعب إلى سبل أوطرق ، وأن الزيغ عنها يفضي إلى الهلاك ، وأنها سنته وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده .
فهل يحتاج الناس بعده هذه الآية الكريمة ، وهذا الحديث النبوي الشريف إلى من يدعوهم إلى سلوك الطرق الصوفية ؟ خصوصا وأن هذه الطرق بالمعاينة والمشاهدة والنقل عبر وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي تأتي من الأعمال ما لم يأمر به الله عز وجل ، ولم يؤثر منه شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبيل الشطحات على وقع مات يسمى بالسماع والإنشاد
فمن ذا الذي يجرؤ على الله عز وجل، فيدعي أن تلك الشطحات مما يرضاه سبحانه وتعالى ؟ ومن ذا الذي يجرؤ على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويفتري عليه أنه قد رآه في منامه، فرخص له إتيان تلك الشطحات ، وأمره بأذكار مما لم يثبت إطلاقا في سنته، ولا ورد فيها ؟
وكيف يجرؤ كل من ابتدعوا طرقا صوفية للناس على ابتداعها وهي متفرقة عن البيضاء النبوية التي لا يزيغ عنها إلا هالك ؟ وهي المتفرقة عن سبيل الله ؟
ربما احتج محرر الخطبة بأن بلدنا يعتمد طريقة أبي القاسم الجنيد النهاوندي رحمه الله ، والسؤال الذي سيحاصره هو : هل كانت للجنيدي شطحات على إيقاع السماع والمديح ؟ كما هو الحال عند الطرق الموجودة عندنا اليوم دون ذكر أسمائها ، علما بأن ما أثر عن هذا الرجل الذي يوصف بالصلاح، ولا يزكى على الله ،لا هو ولا غيره من خلق الله أنه كان يعترض بشدة على كل ابتداع مخالف للكتاب والسنة كما جاء في المصادر التي تحدث عنه .
ولقد كان حريا بمحرر هذه الخطبة المستحثة على سلوك الطرق الصوفية وهي على ما هي عليه من ابتداع لا يقره القرآن الكريم ولا تقره السنة النبوية الشريفة أن يحيل الناس على هذه المصدرين فقط دون سواهما ، وأن ينصحهم بسؤال أهل العلم من العلماء الربانيين عما به يحصل لهم فهم واستيعاب الاستقامة عليهما ، وما به يثمر الإيمان صالح الأعمال المفضية إلى حياة طيبة في العاجل والآجل .
وسوم: العدد 1096