نديم العروضيين المجلس الخامس عشر والسادس عشر

سلام عليكم!

وعليكم السلام!

طبتم مساء -يا أبنائي!- وطاب مسعاكم إلينا!

بسم الله _سبحانه، وتعالى!- وبحمده، وصلاة على رسوله وسلاما، ورضوانا على صحابته وتابعيهم حتى نلقاهم!

آمين!

كيف حالكم، كيف أصبحتم، وأمسيتم؟

بخير.

بارك الله فيكم، وشكر لكم، وأحسن إليكم، ويسر لنا ولكم كل عسير، وسهّل كل صعب! اليوم يوم خفيف، لطيف خفيف، حتى إننا في محاضرة المجموعة السابقة تجاوزنا هذه القصيدة إلى التي بعدها، لكنني ندمت، فلن أفعل ذلك في هذه المحاضرة، بل سأكتفي، وسنستفيد -إن شاء الله!- وتخرجون مبكرا مرة في العمر، وتستفيدون بوقتكم، أو ربما تفقَّدنا ملفاتكم أو تلقينا أسئلتكم، أما اليوم فخفيف؛ نستمتع اليوم بالتفتيش عن وزن وقافية جديدين من خلال قصيدة لأحد كبار الشعراء العمانيين -ليس من مستوى أبي مسلم، ولكنه معروف مذكور في التاريخ- راشد بن خميس الحبسي العماني المتوفى عام خمسين ومئة وألف الهجري، وكان كفيفا، وقد مررت بديوانه كله قديما حينما كنت أكتب عنه وعن أصحابه على مدار التاريخ، فأحسست أنه كان يَتقرَّى أبا العلاء المعري، يتنسَّمه من بعيد، يقتدي به شعريا، فيجتهد أن ينوع الأوزان والقوافي، يقتحم ما كان أبو العلاء يقتحم، وأبو العلاء هذا فريد تاريخنا على الإطلاق، لا عصره ومكانه فقط، أبو العلاء أحمد بن سليمان التنوخي المعري نسبة إلى معرة النعمان -ومازال لها إلى الآن ذكر، وإن صار بنشرات الأخبار في الحروب والمآسي!- وكان يسمى رهين المحبسين، يقصدون محبس عماه ومحبس غرفته؛ لم يكن يترك غرفته، وكان الناس يأتون إليه من كل مكان، أما هو فلم يكن يسافر إلا نادرًا، أسفاره محدودة جدا، تعد على بعض أصابع اليد الواحدة! وكبارنا الذين ابتكروا واخترعوا من غير أن يبرحوا مكانهم معدودون في ثقافتنا وفي غيرها، لأن العلم يحتاج إلى الرحلة، إلى السفر ورؤية الناس والثقافات والتثاقف والمثاقفة:

"سَافِرْ إِذَا مَا شِئْتَ قَدْرَا سَارَ الْهِلَالُ فَصَارَ بَدْرَا"!

تسافر وتتعلم، السفر هذا أصل عندنا في ثقافتنا، الرحلة، نسميها الرحلة، كانت في الجاهلية لأمور، وصارت في الإسلام لأمور، تعددت الأسباب والغايات، والرحلة واحدة، يرحلون من مكان إلى مكان ليستفيدوا أشياء كثيرة، لكن هناك ناس لم يتركوا أماكنهم ومع هذا كانوا من المخترعين الكبار، منهم مثلا عبد القاهر الجرجاني مخترع علم المعاني، لم يترك مكانه، اخترع، وابتكر، وكان أديبا وناقدا كبيرا، ولم يترك مكانه!

(...)!

لا، أنا أحكم بما أعلم، وعلى كل واحد أن يثبت كلامه؛ فالذين اخترعوا وقدموا احتاجوا إلى السفر، هذا يحتاج إلى سفر، إلى مثقافة. عندنا من المعاصرين مثلا سيف الرحبي العماني، سافر إلى هنا وهناك، واستحدث أسلوبه، حتى أدونيس هذا المتطرف المشهور لم يستحدث مذهبه المتطرف إلا بعدما سافر إلى لبنان! والشافعي رحل إلى مصر؛ فاستحدث فقه الجديد، وغيرهم، وكثير من العمانيين كانوا في العراق وجاؤوا إلى عمان أو العكس، هذا الحراك الذي يحدث في العالم هو الذي يكوّن الواحد منا -"وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لفسدت الأرض"؛ صدق الله العظيم!- لهذا تُسأل: هل سافرت؟ حتى الشافعي نفسه سأل أحد المصريين: هل رأيت بغداد؟ فقال له: لا، فقال له: ما رأيتَ الدنيا! لقد أحبه المصريون، بل عشقوه -نعم- ولكنه كما ترون، بقي يقول هذا الكلام، يحمل في داخله بغداد، ويتحرك بها، سبحان الله! هذا الحبسي العماني الذي كان يتطلع إلى مقام أبي العلاء أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء، الذي فعل ما لم يُفعل وقلب الدنيا رأسا لعقب وما يزال الناس فيه مختلفين إلى اليوم، بين رافع له إلى أعلى عليين، وخافض إلى أسفل سافلين، وإذا بلغ الأديب هذا المبلغ من اختلاف الناس فيه على رأيين متناقضين وجب أن يعد في العباقرة، ولا يكاد يعد في العباقرة حتى يكون بهذه المنزلة؛ فلك أن تفتخر بنفسك إذا بلغك عن الناس كلامٌ يرفعك إلى أعلى عليين وكلامٌ يخفضك إلى أسفل سافلين، لك أن تفتخر: أنا عبقري -يا جماعة!- أنا رجل عبقري! ماذا قال صاحبنا الحبسي رحمه الله؟

لَا تُرَجِّ الْخَيْرَ مِنْ رَجُلٍ عِرْضُهُ لِلذَّمِّ مُتَّسِعُ

فِي الْخَنَا مَشْتًى لَهُ وَلَهُ فِيهِ مُصْطَافٌ وَمُرْتَبَعُ

لَسْتُ مِنْهُمْ إِنَّنِي رَجُلٌ بِجَمِيلِ الصَّبْرِ مُقْتَنِعُ

لَيْسَ لِي فِيمَنْ أُحِبُّ إِذَا خَانَنِي فِي نَفْسِهِ طَمَعُ

وَحَيَاتِي لَا أَغَارُ عَلَى جِيفَةٍ تَنْتَاشُهَا الضَّبُعُ

لَا تَرَانِي طُولَ عَافِيَتِي دَاخِلًا فِي غَيْرِ مَا يَسَعُ

وَإِذَا صَاحَبْتُ ذَا حُمُقٍ قَدْرُهُ فِي الْأَرْضِ مُتَّضِعُ

سِرْتُ عَنْهُ مُعْرِضًا وَأَنَا فَوْقَ هَامِ النَّجْمِ مُرْتَفِعُ

لَمْ يُصِبْنِي بَعْدَ فُرْقَتِهِ حَزَنٌ مُؤْذٍ وَلَا جَزَعُ

حَاشَ لِلهِ الْمُهَيْمِنِ لَمْ أَنْهَ نَذْلًا لَيْسَ يَرْتَدِعُ 

لَا وَلَا أَصْبُو إِلَى امْرَأَةٍ فِعْلُهَا الْمُسْتَقْبَحُ الشَّنِعُ

وَإِذَا مَا كَظَّنِي ظَمَأٌ وَأَنَا فِي الْقَفْرِ مُنْقَطِعُ

لَمْ أَرِدْ مِنْ مَوْرِدٍ كَدِرٍ فِيهِ أَصْحَابُ الْخَنَا كَرَعُوا

"لَا تُرَجِّ الْخَيْرَ مِنْ رَجُلٍ عِرْضُهُ لِلذَّمِّ مُتَّسِعُ"، وماذا يُرجى من رجل لا يعبأ بالذم، تقول له: كذبت، أسأت؛ لا يأبه، يقول لك في الكلام: الشتائم لا تلتصق بالجسد، كلام ناس لا عِرض لهم! "تُرَجِّ"، هذا فعل مضارع مجزوم بـ"لا" الناهية، وعلامة جزمه حذف الياء، رَجَّى يُرَجِّي. وهذا الفعل طبقات ثلاث: الأولى رَجَا يَرْجُو، والثانية رَجَّى يُرَجِّي، والثالثة تَرَجَّى يَتَرَجَّى، درجات من الإلحاح، أَرْجو الخير، هذه الأولى- أُرَجّي الخير، هذه الثانية- أَتَرَجَّى الخير، هذه الأخيرة، بحسب إلحاحك في الطلب. ولا تجد مثل هذا في كثير من الأفعال، لا تنتظر أن تجد هذا كثيرا في الأفعال؛ ففرصة وغنيمة باردة أن تجد مثل هذا، لتتمسك به، وتقول تأملوا عبقرية اللغة، هذه طبقة من التعبير، وهذه ثانية، وهذه ثالثة، وينبهر الناس بهذا الكلام، عربا كانوا أو عجما! "فِي الْخَنَا مَشْتًى لَهُ وَلَهُ فِيهِ مُصْطَافٌ وَمُرْتَبَعُ"، "فِي الْخَنَا"، ما الخنا؟ الخبث -ها!- "في الخنا مشتى له"، ما المشتى؟ ها! اسم مكان الإقامة شتاء -ها!- أين تشتون؟ تذهبون إلى الجنوب- أين تصطافون؟ تذهبون إلى الشمال- أين ترتبعون؟ تظلون في الوسط! "في الخنى مشتى له"، أي مكان إقامة شتاء- "وله فيه مصطاف"، أي مكان إقامة صيفا- "ومرتبع"، أي مكان إقامة ربيعا -ما شاء الله!- مقيم في الخبث طوال العام، فندق مستمر من الخبث والحقد والفساد وكذا! يقال لك: مقيم أم زائر؟ مقيم، هذا مقيم، مستمر. "لَسْتُ مِنْهُمْ إِنَّنِي رَجُلٌ بِجَمِيلِ الصَّبْرِ مُقْتَنِعُ"، "لست منهم"، أنا لست من هؤلاء، أعوذ بالله من هذه الحال. "إنني رجل بجميل الصبر مقتنع". "لَيْسَ لِي فِيمَنْ أُحِبُّ إِذَا خَانَنِي فِي نَفْسِهِ طَمَعُ"، "وَحَيَاتِي لَا أَغَارُ عَلَى جِيفَةٍ تَنْتَاشُهَا الضَّبُعُ"، ما هذا الأسلوب؟ ها، ها!

قسم!

خطأ، أعرف أنكم ستقولون هذا، ورّطتكم في الخطأ -ما شاء الله!- يقسم بحياته! على طريقة ذكرى المغنية التونسية: "وحياتي عندك لو كان لي عندك خاطر لتراجع قلبك قبل ما ييجي اليوم وتسافر"! الحبسي يقسم على طريقة ذكرى التونسية! ما "وحياتي"؟ ما "وحياتي"؟ ظرف -يا مسكينة!- أي "وطوال حياتي"!

قلت: وطوال حياتي!

لم أسمع! أهي إجابة سرية! ما "وحياتي" إذن؟ وطوال حياتي لا أفعل. معقول أن تنتظروا من الحبسي أن يقسم بحياة نفسه! ما هذا الكلام الفراغ! "وَحَيَاتِي لَا أَغَارُ عَلَى جِيفَةٍ تَنْتَاشُهَا الضَّبُعُ"، "تنتاشاها"، أي تنتزعها، والضبع من أسوأ الحيوان؛ عندها تخلف عقلي في الأكل، عندها مرض وراثي يفسد عليها الفريسة؛ لهذا كانت العرب تدعو: اللَّهُمَّ، ضَبُعًا وَذِئْبًا! لا ضبعا فقط، حتى يضبط كل واحد أكل الآخر؛ هذه الضبع متخلفة في الطعام، فإذا هجم الذئب والضبع انضبط الاثنان، لكن لو تركت الضبع للافتراس لأفسدت الأكل، كرجل تطيش يده في الصحفة، كما ورد في الأثر عن بعض الصحابة، فقال له رسول الله -صلى الله عليه، وسلم!-: "كُلْ مِمَّا يَلِيكَ"! فهكذا الضبع من الحيوان؛ فلهذا كان البدوي يدعو على نفسه بالذئب مع الضبع! معقول أن يدعو شخص على غنمه بالذئب؟ لا، بل يدعو بالذئب مع الضبع، حتى يضبط كلٌّ منهما الآخر؛ فتسلم الغنم، إن شاء الله! إذا أكلا غنمة كانا محترمين، أما أن تنفرد الضبع بالغنم تنهش من هذه ومن تيك ومن تلك دون تخطيط، فهذا الفساد المبين، ها! "لَا تَرَانِي طُولَ عَافِيَتِي دَاخِلًا فِي غَيْرِ مَا يَسَعُ"، لماذا أورط نفسي فيما لا يتسع لي؟ "وَإِذَا صَاحَبْتُ ذَا حُمُقٍ قَدْرُهُ فِي الْأَرْضِ مُتَّضِعُ"، وهي في الأصل "حمْق"، حركها -ها!- لو تركها ساكنة لانكسر البيت، وهذا من ألطف ما يفعله الشعراء في شعرهم. ما اسم هذه الظاهره؟ الإتباع، أن تأتي إلى مسكَّن الوسط، فتحركه بحركة ما قبله، تقول في زهْر: زهَر، وفي جُبْن: جُبُن. وأنتم في عمان تفعلون هذا في الكلام العادي: بحَر نهَر صقَر...، إلى آخره، محاضرة الدكتور صقَر –"سَأُصْلِيهِ سَقَر وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَر لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَر عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَر؛ صدق الله العظيم!- حولتمونا إلى جهنم -"وبئس المصير"!- عافانا الله وإياكم! تحريك وسط الكلمة إذن من ألطف ما يقع في الشعر، حتى إنني أدعي أنه ربما كان من لهجات العرب، وبهذا يخرج إلى عموم الكلام. "قَدْرُهُ فِي الْأَرْضِ مُتَّضِعُ"، لاصق في الأرض، لاصق من الذل والهوان والغباء، ليس عنده شيء من العقل. "سِرْتُ عَنْهُ مُعْرِضًا وَأَنَا فَوْقَ هَامِ النَّجْمِ مُرْتَفِعُ"، ماذا قال ربنا، سبحان، وتعالى؟ "وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا" -صدق الله العظيم!- سلاما، سلاما! "لَمْ يُصِبْنِي بَعْدَ فُرْقَتِهِ حَزَنٌ مُؤْذٍ وَلَا جَزَعُ"، على طريقة المتنبي، ماذا قال؟

"سَهِرْتُ بَعْدَ رَحِيلِي وَحْشَةً لَكُمُ ثُمَّ اسْتَمَرَّ مَرِيرِي وَارْعَوَى الْوَسَنُ"!

انزعجت قليلا، ثم تقويت، ونسيته! هذا أصلا لا يستحق حزني عليه من الأساس! يتكلم المتنبي عن صاحبه سيف الدولة، يتكلم عن نظيره وحبيبه، أما هذا فيتكلم عن شخص لا يستحق أي شيء. "حَاشَ لِلهِ الْمُهَيْمِنِ لَمْ أَنْهَ نَذْلًا لَيْسَ يَرْتَدِعُ"، هذا نهيه رقم في ماء، كمن يرقم على الماء -ها!- هذا من أمثال العرب في المستحيل، كمن ينفخ -نقول بالمصرية- في قربة مخرومة، يقولون: ينفخ في...

رماد.

أحسنت، في رماد، هذا كلام البدو، أما كلام المعاصرين فهو هذا الكلام الركيك "ينفخ في قربة مخرومة". يصيح في واد، وينفخ في رماد، ويرقم على الماء، فهذا الشخص من هذا النمط، مستحيل أن أضيع معه وقتي. تأملوا كيف كتبت "حَاشَ"، على طريقة كتابة القرآن، أما هي في الأصل فـ"حاشى، يحاشي"، على مثل "عادى، يعادي"، فعل ثلاثي مزيد بالألف، على وزن "فاعل، يفاعل"، لكنها خُفِّفت هنا في الكتابة "حاش لله"، وفي النطق "حَاشَى لله" المفروض أن تقول: "حاشاني الله"، فخففوها: "حاشى لله"، ليس هذا هو "حاش يحوش"، لا، بل "حاشى يحاشي"، ومنه قول النابغة:

"وَلَا أَرَى فَاعِلًا فِي النَّاسِ يُشْبِهُهُ وَلَا أُحَاشِي مِنَ الْأَقْوَامِ مِنْ أَحَدِ"!

في داليته "يا دارَ مَيَّةَ بِالعَلياءِ فَالسَنَدِ"، يقول: كذا كذا ولا أحاشي من أحد، أي لا أستثني. "لَا وَلَا أَصْبُو إِلَى امْرَأَةٍ فِعْلُهَا الْمُسْتَقْبَحُ الشَّنِعُ"، ما معنى "أصبو"؟ أتطلع، صبا إليه وإليها وهكذا، أي تطلع، وتشوق، وتعلق -تقولون: الشنيع، ويقول: الشَّنِع، فَعِيل وفعِل كلتاهما صفة- ونحن الآن نصبو إلى مثل هؤلاء، ننخدع بالمظاهر، ننخدع مع الأسف بالمظاهر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! "وَإِذَا مَا كَظَّنِي ظَمَأٌ وَأَنَا فِي الْقَفْرِ مُنْقَطِعُ"، ما معنى كظني؟  لسعني، وهذه الكِظّة معروفة في الطعام لا في الشراب -هذا عِلْمي بها- لكنه نقلها إلى الشراب، إذا لسعني ظمأ يأكل معدتي -ها!- ليس عندي مادة -ماذا يفعل؟- "لَمْ أَرِدْ مِنْ مَوْرِدٍ كَدِرٍ فِيهِ أَصْحَابُ الْخَنَا كَرَعُوا"، ما معنى "كرعوا"؟ شربوا بأفواههم، ينزلون بأرجلهم -والكوارع السيقان- ينزلون إلى المياه، إلى الفلج، كان العمانيون قديما يشربون من الفلج مباشرة، ومازال بعضهم، فينزل برجله، وهكذا كنا في بلادنا، عندنا في حقولنا أشباه الأفلاج، لكن أفلاجكم هذه عجيبة الشكل، ليس كمثلها شيء من أعمال الناس -حتى إنهم عثروا على مثلها في كَنَدَة -هل سمعتم هذا الخبر؟- فاستفدت أنا من هذا الخبر  أن العرب وصلوا إلى أمريكة، وهذا معروف في الأخبار أصلا، في الكتب القديمة المخبوءة التي لا تتاح لأي أحد، كلام عن وصول العرب قبل هؤلاء الظلمة إلى أمريكة، في كتاب سري اسمه "في بحر الظلمات" على ما أظن، وصل إليه بعض الناس، وكتب عن هذا. جمعت المعلومات، فقلت: أكيد، ليس بغريب إذن أن يعثروا على أفلاج كالأفلاج العمانية في كنَدة، كلام غريب عليكم طبعا، غريب، لكنه موجود، وعلى النت منه، وعلى الجزيرة، ادخلوا إلى النت، واطلبوا هذا المعنى- فمن عاداتكم أن تنزلوا، ومن عاداتنا، نسمي "الفَلَج" في قريتنا "الفَحْل"، يكون بين الأرض هكذا، فإذا كانت مياهه صافية شرب منه الفلاح، دون مشكلة، بل مياهه أفضل من مياه الخزنات المستنقعة أصلا! ينزلون ويشربون بأفواههم مباشرة، منتهى المتعة، وأنا في صغري فعلت هذا حينما كانت المياه تجري فيه صافية، وأحببته سعيدا بصحبة الفلاحين في الحقول! لكن هذا الرجل يقول: لا، مستحيل أن أشرب من مورد نزله وشرب منه هؤلاء الخبثاء، يبدو أن الخبث يتسرب منهم عندئذ ويختلط بالمياه -أعوذ بالله!- هذا شبيه بقول أبي نواس:

"لَا أَذُودُ الطَّيْرَ عَنْ شَجَرٍ قَدْ بَلَوْتُ الْمُرَّ مِنْ ثَمَرِهْ"!

واعجبوا لبيت أبي نواس أستاذ الحداثيين الأوائل، يوافق وزنَه وزنُ قصيدة شاعرنا العماني الحبسي نفسه! وانتهت الأبيات الثلاثة عشر -ما شاء الله!- برقم التشاؤم، تتحدى! ها، نعم -يا أصيلة!- لحظة، اصبري؛ القصيدة قصيرة وسهلة، تريد أصيلة أن تستفيد -ها!- ولا بأس بأن نساعدك على هذا، منافسة بخمس درجات زيادة أو نقصا أو طردا، بلغة مسعود الذي جنى على نفسه، فكان من المطرودين! طيب -يا أخي- تفاءل! قلنا: بخمس درجات زيادة أو نقصا، فقال: أو طردا؛ فكان في المطرودين! عَلَى نَفْسِهَا جَنَتْ بَرَاقِشُ! يقولون في المثل: عَلَى أَهْلِهَا جَنَتْ بَرَاقِشُ، ولكننا نغيره -إن شاء الله!- ليصير: عَلَى نَفْسِهَا جَنَتْ بَرَاقِشُ، ولا حول ولا قوة إلا بالله، "تَفَاءَلُوا بِالْخَيْرِ تَجِدُوهُ"! أصيلة متفائلة، واضح عليها أنها متفائلة، لا لا، واضح عليها، تفضلي! نعم؟ تفاؤلوا، تفاءلوا! أصيلة أول من قرأ في هذه الدنيا، وأول من طرد! لها تاريخ حافل من الإنجازات، من الرواد الأوائل، خرجت واطمأنت على الشوارع والقاعات، ها، تفضلي، وارفعي صوتك!

لَا تُرَجِّ الْخَيْرَ مِنْ رَجُلٍ عِرْضُهُ لِلذَّمِّ مُتَّسِعُ

فِي الْخَنَا مَشْتًى لَهُ وَلَهُ فِيهِ مُصْطَافٌ وَمُرْتَبَعُ

ما شاء الله، تابعي، لا بأس، لا بأس!

لَسْتُ مِنْهُمْ إِنَّنِي رَجُلٌ بِجَمِيلِ الصَّبْرِ مُقْتَنِعُ

لَيْسَ لِي فِيمَنْ أُحِبُّ إِذَا خَانَنِي فِي نَفْسِهِ طَمَعُ

وَحَيَاتِي لَا أَغَارُ عَلَى جِيفَةٍ تَنْتَاشُهَا الضَّبُعُ

لَا تَرَانِي طُولَ عَافِيَتِي دَاخِلًا فِي غَيْرِ مَا يَسَعُ

وَإِذَا صَاحَبْتُ ذَا حُمُقٍ قَدْرُهُ فِي الْأَرْضِ مُتَّضِعُ

سِرْتُ عَنْهُ مُعْرِضًا وَأَنَا فَوْقَ هَامِ النَّجْمِ مُرْتَفِعُ

لَمْ يُصِبْنِي بَعْدَ فُرْقَتِهِ حَزَنٌ مُؤْذٍ وَلَا جَزَعُ

حَاشَ لِلهِ الْمُهَيْمِنِ لَمْ أَنْهَ نَذْلًا لَيْسَ يَرْتَدِعُ 

لَا وَلَا أَصْبُو إِلَى امْرَأَةٍ فِعْلُهَا الْمُسْتَقْبَحُ الشَّنِعُ

وَإِذَا مَا كَظَّنِي ظَمَأٌ وَأَنَا فِي الْقَفْرِ مُنْقَطِعُ

لَمْ أَرِدْ مِنْ مَوْرِدٍ كَدِرٍ فِيهِ أَصْحَابُ الْخَنَا كَرَعُوا

الله، الله، صوت جميل، أداء جميل، تستحقين التحية والدرجة. حظوظ، حظوظ، هذه القصائد حظوظ، أصيلة خمس درجات، ما شاء الله، اللهم، لا حسد! طيب، أتعرفون "أَرِد"، و"مَوْرِد"، وكذا، لم نعلق! "أرد" هذا ماض أم مضارع أم أمر؟

مضارع.

طبعا مضارع -فلا تدخل "لم" إلا على المضارع- فما ماضيه؟

وَرَدَ، أَرَادَ...

"وَرَدَ"، أما "أَرَادَ"؟

وَرَدَ.

نعم؛ ولو كان "أَرَادَ" لقال: "لَمْ أُرِدْ"، لأن بعض الناس قرأها "أُرد"، فقلت له: يا بعد ما بين المشرقين؛ هذا "وَرَدَ، يَرِدُ، فأنا أَرِدُ، لم أَرِدْ"، والثاني "أَرَادَ يُرِيدُ، أنا أُرِيدُ، لَمْ أُرِدْ"، هذا في واد، وذاك في واد! ما معنى "أراد، يريد"؟ قصد يقصد، وما معنى "ورد يَرد"؟ جاءَ الماءَ يجيئه، والمورد في العمانية الشَّرِيعة، وكلمة "الشريعة" هي الأصل. قبل أن تطلق كلمة "شريعة" على "الشريعة"، كان هذا هو الأصل، المعنى العماني هو أصل المعنى. طيب! نكتب البيتين الأولين، والأمور سهلة لطيفة كما ترون.

ومورد الماء؟

"مورد الماء" موضع الماء، الذي يذهب الناس إليه، يستقون يشربون. بسم الله!

لَا تُرَجِّ الْخَيْرَ مِنْ رَجُلٍ عِرْضُهُ لِلذَّمِّ مُتَّسِعُ

عرضه ولا حول ولا قوة إلا بالله للذم متسع، أي لا يعبأ بأن يذم، لا حول ولا قوة إلا بالله!

فِي الْخَنَا مَشْتًى لَهُ وَلَهُ فِيهِ مُصْطَافٌ وَمُرْتَبَعُ

إقامة شتاءً! كلام لطيف، سهل، المعنى صعب طبعا، لكن التعبير سهل، مصطاف ومرتبع، كلها أسماء أماكن، كلها أسماء أماكن. طيب، هل من خطأ؟ أعرف أنني أخلط الخطوط! أرسل إلي بعض الناس صورة كتابة: هل هذا الخط صحيح، يا أستاذ؟ فأعدت كتابته له حتى أعلمه كيف يكتب الخط؛ فقال: ما شاء الله، خطاط، فقلت له: لا، بل خلاط! لا أريد أن أخدعكم، انتبهوا، لست خطاطا، كان أبي خطاطًا، كان الخط من ضمن مواهبه، ورثت محبة الخط، فخلطتها، صرت إلى الخلط! نحتاج في هذه الجامعة إلى دورة خط؛ فاطلبوها من عمادة شئون الطلاب يستقدموا لنا من الخارج أستاذ خط يعلمنا الخط، لا يجوز هذا، لا يجوز، عندكم -ما شاء الله!- أصحاب خطوط، لكن لم يتعلموا على أساس، كان عندكم أستاذ خط في الثانوية؟

لا.

حينما ذهبت إلى الصين -اسمعوا!- وقد ذهبت إليها أكثر من مرة، قابلت شابا في الدكتوراة يدرس العربية، قلت له: لماذا تدرس العربية؟ ما أول ما عطفك على العربية؟ فقال: الخط! كنت على الإنترنت أقلب، ففوجئت بهذا الخط! إي والله هكذا قال! دخل إلى دراسة العربية من مدخل الإعجاب بالخط العربي، وهناك ناس في العالم...، بل يدخلون إلى الإسلام من هذا المدخل، ونحن أول المهملين، ولا حول ولا قوة إلا بالله! طيب، كتبنا؟ فلنشكل! ينبغي ألا نخطئ الإملاء حتى نستطيع أن ندقق التشكيل، نتقرب إلى الله بتدقيق التشكيل. يا سلام، متعة طبعا! أنا أكرر هذه العبارات لتستقر في أنفسكم كالعقائد، كالعقائد -ها!- لا أمزح فيها، لا، بل أرسخها كالعقائد -يا سلام، استمتع، ما شاء الله!- فيخرج الواحد منكم يعتقد أنه متعة حقًّا، عقيدة! "فِي الْخَنَا مَشْتًى"، وهكذا تضع الفتحتين هنا، لا هنا كما يفعلون في الكتب، لا، بل على ما قبل الألف. "... وَمُرْتَبَعُ"، ما شاء الله! مقيم طوال العام، رجل ثري بالفواحش! طيب، الآن نغني هذا، سنتكلم كلاما كثيرا عن هذا، ها!

لَا تُرَجِّ الْـ| ـخَيْرَ مِنْ| رَجُلٍ| عِرْضُهُ لِلذْ| ذَمِّ مُتْـ| ـتَسِعُ

فِي الْخَنَا مَشْـ| ـتًى لَهُ| وَلَهُ| فِيهِ مُصْطَا| فٌ وَمُرْ| تَبَعُ

الله، الله، نعيد:

لَا تُرَجِّ الْـ| ـخَيْرَ مِنْ| رَجُلٍ| عِرْضُهُ لِلذْ| ذَمِّ مُتْـ| ـتَسِعُ

فِي الْخَنَا مَشْـ| ـتًى لَهُ| وَلَهُ| فِيهِ مُصْطَا| فٌ وَمُرْ| تَبَعُ

تنزيل هذا على الصفحة بخطوط مختلفة، جميل، أنا كنت أشاهد بعضكم ومعه أقلام مختلفة الألوان كهذه، وقد أحسن أيما إحسان، جميل هذا، جميل، نستفيد من الألوان المختلفة، ما المانع؟ ما رأيكم في أن نكتب الدندنة على الأداء؟ كأننا ننطق بالدندنة كذلك هكذا، نكتب بالأحمر أحسن، أوضح، هكذا، نتنفس بالدندنة:

هذه الهاء طبعا واجبة الإشباع؛ إذا تحركت بعد متحرك وجب إشباعها، وإن وقع في بعض الشعر النادر على مدار التاريخ اختلاسُ إشباعها، فكان قبيحًا!

فعِلُن.

فعِلُن! لا، بل "فعلا"! ما هذا؟ أقدم لكم بحر المديد؛ وصلنا إلى التفعيلات فوجب أن نقدم البحر، والبيت منه "فاعلاتن فاعلن فاعلاتن فاعلن"، مرتين. ما هذا يا أستاذ؟ هو هذا -ها!- البيت منه "فاعلاتن فاعلن فاعلاتن فاعلن"، مرتين! و"فاعلاتن" كما عرفناها في الرمل "فا، علا، تن"، و"فاعلن" كما عرفناها في المتدارك "فا، علن". ما "فا"؟

سبب خفيف.

وما "علا" أو "علن"؟

وتد مجموع.

وما تن؟

سبب خفيف.

ويجوز في هذه ما عرفناه من قبل، ما الذي عرفناه من قبل؟ عرفنا "الخبن" الذي يحول "فاعلاتن" إلى...

فعِلاتن.

فعِلن.

مجزوء.

أحسنتِ، هو هذا، وصفه بأنه مجزوء، كيف يربط العمل بالنظر؟ البيت عنده في النظر مثمن، وفي العمل مسدس، فكيف ربط بين النظر والعمل؟ قال: هذا مجزوء هذا، ما الجَزْء؟ حذف تفعيلة من كلا شطري البيت، ليصير المثمَّن...

مسدَّسا.

مسدَّسا. والمسدَّس...

مربَّعا.

مربَّعا... وهكذا، بحذف تفعيلة من كلا الشطرين. طيب! وبيت المديد "فاعلاتن فاعلن فاعلاتن فاعلاتن فاعلن فاعلاتن"، ومنه قول ابن أخت تأبط شرًّا في ثأره من هذيل بقتلهم خاله:

"إِنَّ بِالشِّعْبِ الَّذِي دُونَ سَلْعٍ لَقَتِيلًا دَمُهُ مَا يُطَلُّ"!

هل سمعتم عن تأبط شرًّا؟

نعم.

سمعتم عنه طبعا لغرابة اسمه، لكن لم تقرؤوا قصته! كان تأبط شرا جبارا من الجبابرة، صعلوكا جبارا لا يقدر عليه أحد، كان يسبق الغزلان إذا ركض، وكان يغزو على رجليه، انظروا إلى الناس تركب الخيول وهو يركب رجليه! سألت أحد أساتذتنا مرة: كيف ستذهب إلى الجامعة؟ فقال: بأتوبيس حِدَاشَر (11) -الحوافل عندنا مرقمة: هذا خمسة، هذا تسعة، هذا مئة، هذا كذا- ، ماذا يقصد؟ يقصد رجليه! فكان تأبط شرا يهاجم ويجري على رجليه فقط، ويسبق الوحوش، لكنه قُتل، وكذلك عنترة وفلان وفلان من شياطين الصعاليك والفرسان، فالقتل تاج حياتهم، يحبهم ويحبونه -ها!- حتى إن سيدنا خالد بن الوليد حزِن حزنا شديدا أنه لم يُقْتل: "لَقَدْ لَقِيتُ كَذَا وَكَذَا زَحْفًا، وَمَا فِي جَسَدِي مَوْضِعُ شِبْرٍ إِلَّا وَفِيهِ ضَرْبَةٌ أَوْ طَعْنَةٌ أَوْ رَمْيَةٌ، وَهَا أَنَا ذَا أَمُوتُ حَتْفَ أَنْفِي كَمَا يَمُوتُ الْعَيْرُ فَلَا نَامَتْ أعْيُنُ الْجُبَنَاءِ"! يحبون ذلك، وأنا أيضًا أحبه، وأسأل الله إياه دائما: ... وعند الموت شهادةً في سبيلك! تعرفون ما كرامة الشهيد؟ لا يجد لألم الموت إلا مثلما يجد الملسوع لسعة بعوضة! ها، ما رأيكم؟ كرامة، هذه كرامة الشهيد، طيب، من يكره هذا؟ أتحبون أن تصارعوا الموت؟ حتى إن الرسول -صلى الله عليه، وسلم!- صارع الموت، ومن كلامه: "إِنَّ لِلْمَوْتِ لَسَكَرَاتٍ"! شدائد، ؛ فمن يكره أن يموت مقتولا متى كانت هذه كرامة القتيل في سبيل الله، من! نحتاج جميعا نحب هذا طبعا. هؤلاء المسلمون على مدار التاريخ كانوا يحبون أن يموتوا مقتولين في سبيل الله، وأن يَغنموا! يضربون العصافير كلها بحجر واحد، يكونون في منازل النبيين والصدقين والشهداء والصالحين، ولا يجدون للموت مِن ألمٍ، ما شاء الله، طالع واكل، نازل واكل، منشار، مستفيد من الجهتين، الحمد لله! طيب! هذه القصيدة الفاخرة أريدكم أن تراجعوها في الكتب وأن تحفظوها. وقد انتقم ابن أخت تأبط شرًّا لخاله، فلم يرتح له بال حتى فعل، ومن قوله فيها:

"تَضْحَكُ الضَّبْعُ لِقَتْلَى هُذَيْلٍ وَتَرَى الذِّئْبَ لَهَا يَسْتَهِلُّ"!

الضبع التي ذكرناها منذ قليل، تضحك لقتلى هذيل، أي دمرهم تدميرا، ومن قوله فيها أيضا:

"حَلَّتِ الْخَمْرُ وَكَانَتْ حَرَامًا وَبِلَأْيٍ مَا أَلَمَّتْ تَحِلُّ

سَقِّنِيهَا يَا سَوَادَ بْنَ عَمْرٍو إِنَّ جِسْمِي بَعْدَ خَالِي لَخَلُّ"!

تعرفون طبعا أنهم كانوا يحرمون على أنفسهم الخمر حتى ينتقموا، أي بعد صعوبة حَلَّتْ، بعد أن اجتهدتُّ في طلب الثأر. ولتأبط شرا له سمعة هائلة طبعا في تراثنا، له مثلا قصة ظريفة جدا مع أبي كبير الهذلي الشاعر الفارس الكبير، الذي تزوجته أمه بعد موت أبيه؛ فقد خافه أبو كبير على نفسه، فخرج به مَكْرًا فيقتله -قيل- فكان يتغفَّل نومه، فرصة، فيرميه بحصاة قبل أن يهجم عليه، فيجده ينتفض قائما، أكثر من مرة، حتى حذره تأبط شرا: لو أعدتَّها قتلتك -يقول هذا لزوج أمه!- فعَجَزَ عنه، وقال في ذلك أبياتا كان منها هذا البيت الذي يمثّل ما حاوله منه:

"وَإِذَا قَذَفْتُ لَهَ الْحَصَاةَ رَأَيْتُهُ يَنْزُو لِوَقْعَتِهَا طُمُورَ الْأَخْيَلِ"!

"رُبَّ رَامٍ مِنْ بَنِي ثُعَلٍ مُتْلِجٍ كَفَّيْهِ فِي قُتَرِهْ"!

وفعله زعيم الغَزِلين، من زعيم الغَزِلين؟ عمر بن أبي ربيعة، فزاده لطافة ورواجا، بمثل قصيدته:

"شَاقَ قَلْبِي مَنْزِلٌ دَثَرَا حَالَفَ الْأَرْوَاحَ وَالْمَطَرَا"!

حتى جاء الإمام الأكبر -لا شيخ الأزهر- بل أبو نواس، فقال من شعره الجميل الذي كالماء سلاسة -فزاده لطافة ورواجا- ما أحفظ منه عدّة قصار -وهي كثيرة في شعره؛ فلم يكن يحب الإطالة، كان بعيد النظر!- منها -واسمعوا!- هذا الكلام الجميل:

"يَا كَثِيرَ النَّوْحِ فِي الدِّمَنِ لَا عَلَيْها بَلْ عَلَى السَّكَنِ

سُنَّةُ الْعُشّاقِ وَاحِدَةٌ فَإِذا أَحْبَبْتَ فَاسْتَكِنِ

سنة العشاق أن يستكينوا!

ظَنَّ بِي مَنْ قَدْ كَلِفْتُ بِهِ فَهْوَ يَجْفُونِي عَلَى الظِّنَنِ

يتهمني من غير دليل!

بَاتَ لَا يَعْنِيهِ مَا لَقِيَتْ عَيْنُ مَمْنُوعٍ مِنَ الْوَسَنِ

رَشَأٌ لَوْلَا مَلَاحَتُهُ خَلَتِ الدُّنْيَا مِنَ الْفِتَنِ

كُلَّ يَوْمٍ يَسْتَرِقُّ لَهُ حُسْنُهُ عَبْدًا بِلَا ثَمَنِ

فَاسْقِنِي كَأْسًا عَلَى عَذَلٍ كَرِهَتْ مَسْمُوعَهُ أُذُنِي

مِنْ كُمَيْتِ اللَّوْنِ صَافِيَةٍ خَيْرِ مَا سَلْسَلْتَ فِي بَدَنِ

مَا اسْتَقَرَّتْ فِي فُؤَادِ فَتًى فَدَرَى مَا لَوْعَةُ الْحَزَنِ

مُزِجَتْ مِنْ صَوْبِ غَادِيَةٍ حَمَلَتْهَا الرِّيحُ مِنْ مُزُنِ

تَضْحَكُ الدُّنْيَا إِلَى مَلِكٍ قَامَ بِالْأَحْكَامِ وَالسُّنَنِ

يَا أَمِينَ اللهِ عِشْ أَبَدًا فَإِذَا أَفْنَيْتَنَا فَكُنِ

كَيْفَ تَسْخُو النَّفْسُ عَنْكَ وَقَدْ قُمْتَ بِالْغَالِي مِنَ الثَّمَنِ

سَنَّ لِلنَّاسِ النَّدَى فَنَدُوا فَكَأَنَّ الْبُخْلَ لَمْ يَكُنِ"!

منتهى الجمال، منتهى الروعة، منتهى اللطافة، منتهى السهولة، شيطان من الشياطين، بدأ حياته طالب قرآن وفقه وحديث، وكان شديد الطلب -ها!- ثم انحرفت به صحبة السوء! قيل إنه استقام له الأمر آخر حياته. لقد نجح في ترويج المديد بهذه الصورة "فاعلاتن فاعلن فعلا فاعلاتن فاعلن فعلا"، ومن لطيف ما تلحظون أنه سَلَّم "فاعلن" في أبياته العشرة كلها، على حين خبنها ابن أخت تأبط شرا ست عشرة مرة في لاميته تلك، ذات الستة والعشرين بيتا؛ فكأن أبا نواس -ومثله سائر الملطِّفين- خشوا على الوزن بخبن "فاعلن" أن يلتبس بالمكسور! هذا بحر المديد، يا جماعة! هؤلاء جماعة من نجباء قسم العربية، يا بحر المديد! تعارفوا -يا جماعة!- تعارفوا! تشرفنا! هذا بحر على رغم أنه من أسرة الطويل والبسيط لم يشتهر! وما الطويل وما البسيط؟ الطويل ملك البحور، والبسيط وزيره، أما المديد فلم يلغ أن يكون غفيرً -ها!- لم يكد يستعمل حتى استُحدِثت الصورة اللطيفة، فظهر قليلا! أسرة فيها ملك ووزير وبلطجي! ها، ما رأيكم، أمعقول هذا! شيء مدهش، حتى إن أبا العلاء المعري استنبط منه على طريقته في لزوميّاته حكمة بليغة؛ فماذا قال؟ قال:

"إِذَا ابْنَا أَبٍ وَاحِدٍ أُلْفِيَا جَوَادًا وَعَيْرًا فَلَا تَعْجَبِ

فَإِنَّ الطَّوِيلَ نَجِيبَ الْقَرِيضِ أَخُوهُ الْمَديدُ وَلَم يَنجُبِ"!

كتبتم؟ صورتم؟ افعلوا ما تشاؤون؛ المهم أن تستوعبوا هذا وتسجلوه ولا تنسوه، ها! الآن ينبغي أن تَشُدّوا دساتين أعوادكم وأن تُحموا طبولكم ودفوفكم -أي أن تتجهزوا- وأن تشربوا وتطربوا أي أن تبتهجوا- وألا يتقدمن عازف عازفا، فإن ظن أنه يحسن فإنه يسيء -أي أن تتحركوا حركة جماعية- وأن تجعلوا النغمة أكثر زرقة ما معنى أن تكون أكثر زرقة؟ لا ندري، لكن المراد في المعنى الأخير، الإتقان، فيما نظن- معي، معي، ها!

ما هذه الضربة؟ ما هذه العلاوة؟ أعيدوا!

الدكتور: أعيدوا أعيدوا، ها؟

يكفي، مسعود خرِّج، اقرأ!

أي بيت؟

الرابع.

لَيْسَ لِي فِي مَنْ أُحِب بُ إِذَا خَانَنِي فِي نَفْسِهِ طَمَعُ

ها، خرج!

خطأ!

أحسنت! مسعد يا تنور يا مجمع الزينات، ها، "وحياتي عندك"!

خطأ!

وَحَيَاتِي...

 لا، غَنِّ هذا، غنِّ -ها!- وَحَيَاتِي...

هذه "لا أُغَا"؟ ها؟ يرى ما لا يراه الناظرون!

لَا أَغَا

أعد!

ضَبُعُ!

أصلها "ضَبُع" كـ"سَبُع"، هكذا، لكننا في اللهجة طبعا نقول: ضبْع، ونقول: سبْع -ها!- والضبع مؤنثة، والذكَر ضِبْعان، ظروف! مروان، ها!

لَا تَرَانِي طُولَ عَافِيَتِي دَاخِلًا فِي غَيْرِ مَا يَسَعُ

جميل!

أحسنت، ناصري!

"وَا إِذَا"! من الذي يقول في العربية: "وَا إِذَا"، إلا أم كلثوم، ها؟ تقول في الأطلال مثلا:

"كَانَ صَرْحًا مِنْ خَيَالٍ فَاهَوَى"!

"فاهوى"! أحَرام أن تقولي: فهوى! تقول لك: سيفسد عليَّ اللحن! رَتّبي اللحن على هذا الأساس، رتبيه من الأصل على هذا الأساس -سبحان الله!- ها!

أرأيتم؟ أحسنت! قال: "قدْرهُ فِي"، ثم جاء ليقول: "الأرض"، فاستحالت عليه؛ فرجع، فرأى الحل "قدْرهُ في الْـ/ أَرْضِ مُتْـ ". اسمعوا أمل -ها!- جالسة للاستماع فقط، لا تكتب، ولا تنطق؛ فلنحركها قليلا، ها!

والله، خطأ، تستحقين!

خطأ في الضرب أم في...؟

في الاثنين، تقول: خطأ في الضرب أم في... القسمة! اقرأي البيت أولا، يا أمل!

سِرْتُ عَنْهُ مُعْرِضًا وَأَنَا فَوْقَ هَامِ النْجْمِ مُرْتَفِعُ

الكلام لطيف حقا، هذه القصيدة لطيفة التعبير، رجل نقي التعبير، ها، خرجي!

خطأ، أُعيدُ عليك البيت السابق حتى تطبقي عليه:

ها، طبقي!

سِرْتُ عَنْهُ

مُعْرِضًا

خطأ، لا فوقها ولا تحتها، أعيدي من الأول!

جميل! سلمى، أين ملفك؟ هذا ملفك، فاعتمدي عليه!

لَمْ يُصِبْنِي بَعْدَ فُرْقَتِهِ حَزَنٌ مُؤْذٍ وَلَا جَزَعُ

قال: حزَن لا حُزْن؛ فما فرق ما بينهما، من يذكره؟

الحزن أشد.

أشد! هو غيره أصلا، الحَزَن شيء والحُزْن شيء، الحَزَن العمل، أما الحُزْن فنتيجة الحَزَن، أي الآثار التي تظهر على الشخص، الاحمرار والتورم وانقطاع الأشياء، هذه حالة حزن واضحة على الشخص، لكن الممارسة التي تنتمي إلى هذا الأمر نفسها حَزَن، حَزِن يحْزَن حزَنًا، مثل المَلْء والمِلْء، ما الفرق بين المَلْء والمِلْء؟ المَلْء عمل، أنا أملأ الآن، فأنا في "مَلْء"، ثم بعد هذا أقول: هذا "مِلء" وعاءٍ من التمر، "مِلْء". والحُزن نتيجة كالمِلْء، فأما الذي كالمَلْء فالحَزَن، فإن يكن الوزنان اختلفا فَعَلًا وفَعْلًا ثم فُعْلًا وفِعْلًا، فلأسباب لغوية أخرى، أرجو أن أعرض لها يوما! طيب، ها؟

الدكتور: جميل جميل جميل

الدكتور: ها؟ من منى؟ أنا أحفظ الأسماء قليلا قليلا فلكم كل التقدير، ها؟

حَاشَ لِلهِ الْمُهَيْمِنِ لَمْ أَنَّهُ...

أنَّهُ! -عَلِي حَسَنْ سَلُّوكَهْ!- لا، لن أمررها هكذا سهلا، لابد أن أعلق عليها نصف ساعة من التعليقات، تذكرون ما قلته لكم عن " عَلِي حَسَنْ سَلُّوكَهْ"؟ حكيت لكم مرة -تحملي يا منى، لا تتحرجي، نحن أهل، لا حرج بيننا!- يقال: إن بعض الملوك كان يقرأ خُطبة من ورقة، فقرأ هذه العبارة "عَلِي حَسَنْ سَلُّوكَهْ"، وهي أصلا "عَلَى حُسْنِ سُلُوكِهِ"! وحينما كنت أستاذنا بجامعة طيبة من المدينة المنورة، استطرفتُ ذكر ذلك في بعض محاضراتي -واسمعوا الخبر الصعب!- فجاءني طالب بعد المحاضرة، وقال: دكتور، إياك أن تعيد هنا هذه الطرفة! قلت: لماذا، ما الحكاية؟ قال لي: أتعرف من هذا الملك الذي أخطأ هذا الخطأ؟ قلتُ: من؟ قال: أبو متعب الملك عبد الله بن عبد العزيز، وكان عندئذ هو الملك! منى، سامحيني -بارك الله فيك!- أنا كذلك إذا تسرَّعتُ أخطئ مثل هذه الأخطاء، ها!

حَاشَ لِلهِ الْمُهَيْمِنِ لَمْ أَنْهَ نَذْلًا لَيْسَ يَرْتَدِعُ 

ها، قطعي، خرجي!

عَلِي حَسَنْ سَلُّوكَة!

بارك الله فيكِ! أنا قاس جدا -يا جماعة!- أبالغ، وأتجاوز، كثير المزاح شديد الوطأة على الطلاب، سامحوني، ها! مَن نختار حتى نصب عليه مِن مثل هذا؟ مَن؟ عبد الرحمن، ها!

لَا وَلَا أَصْبُو إِلَى امْرَأَةٍ فِعْلُهَا الْمُسْتَقْبَحُ الشَّنِعُ

طيب، ها!

خطأ!

أعد العزف!

أحسنت!

خطأ، أعد، أعد!

لا، بهدوء!

ها، مهلب!

وَإِذَا مَا كَظَّنِي ظَمَأٌ وَأَنَا فِي الْقَفْرِ مُنْقَطِعُ

أعد، وارفع صوت العزف!

أعد!

عندنا في هذا البيت شيء لم نتعوده كثيرا، ما هو؟ حدث من قبل لكن...

قطع.

"أَنَا سَيْفُ الْعَشِيرَةِ فَاعْرِفُونِي حُمَيْدًا قَدْ تَذَرَّيْتُ السَّنَامَا"!

ها!

سرت عنه معرضا وأنا...

خمس درجات!

نعم! خمس درجات! لا حول ولا قوة إلا بالله! الدنيا خلاص -يا أخي!- الناس خلاص، لم يعد أحد يفعل شيئا لوجه الله! اللهم أحسن ختامنا، يا رب، ها، من؟ نرفه عن منى قليلا -ها!- بتوريط أماني! يرتاح الواحد أحيانا برؤية صاحبه متورطًا، ها!

لَمْ أَرِدْ مِنْ

يا ما شاء الله، أَرِدْ؟ أحسنتِ، ها، وأخطأت أنا، سبحان الله، انتقم مني رب العالمين، لا حول ولا قوة إلا بالله! أرأيتم النيات -يا جماعة!- الأعمال بالنيات، أردت أنا أن أخطئها، ولم تنطق إلا الصواب!

لَمْ أَرِدْ مِنْ مَوْرِدٍ كَدِرٍ فِيهِ أَصْحَابُ الْخَنَا كَرَعُوا

أحسنتِ، أعيدي -ربما أخطأتِ خطأ ما!- ها، اضربي على الخشب على الخشب، أعيدي.

أحسنتِ -بارك الله فيك!- طيب! نعود، نعود إلى البيت الأول، ما قافيته؟

مُتَّسِعُ.

متسع، لماذا؟ قدمنا لك ما تريد. ما الذي نريد؟ آخر ساكنين مع ما بينهما، أين آخر ساكنين؟ نبدأ من الآخر إلى الأول، من الآخر الواو غير المكتوبة، والساكن الذي قبل هذا...

التاء الأولى.

التاء الأولى، هاتان تاءان، فالساكن الأول التاء الأولى، وبين الساكنين التاء الثانية والسين والعين، وقبلهما الميم؛ فالقافية إذن "متسع"، ها!

مُرْتَبَعُ.

مُرْتَبَعُ، ها!

مُقْتَنِعُ.

مُقْتَنِعُ، ها!

سِهِ طَمَعُ.

سِهِ طَمَعُ؟ أخطأت، تسرعت، وثقت في نفسها أكثر مما ينبغي، نعلق قليلا، نستمتع -لا بأس- بقليل من التأنيب! "سِهِ طَمَعُ"؟ لا حول ولا قوة إلا بالله!

ـهِ طَمَعُ.

ولكنها قالت: "سِهِ طَمَعُ"، معقول هذا، لا حول ولا قوة إلا بالله! نعم؛ "ـهِ طَمَعُ"، أين الساكن الأول؟ الياء غير المكتوبة: ـه(ـي)، ها!

هَا الضَّبُعُ.

هَا الضَّبُعُ، من الهاء -تأمل، يا مسعود!- فهذه الألف بعد الهاء لا قيمة لها، لأنها لم تنطق- وهمزة الوصل هذه لا قيمة لها، لأنها لم تنطق- وهذه اللام لا وجود لها لأنها أبدلت ضادا وأدغمت في الضاد- كل هذا لا اعتبار له عندنا؛ فالقافية إذن "هَا الضَّبُعُ"، ها!

مَا يَسَعُ.

مَا يَسَعُ، ها!

مُتَّضِعُ.

مُتَّضِعُ، ها!

مُرْتَفِعُ.

مُرْتَفِعُ، ها!

لَا جَزَعُ.

لَا جَزَعُ، ها!

يَرْتَضِعُ.

يَرْتَضِعُ، ها!

حُ الشَّنِعُ.

حُ الشَّنِعُ، ها!

مُنْقَطِعُ.

مُنْقَطِعُ، ها!

كَرَعُوا.

كَرَعُوا؟

نَا كَرَعُوا.

نَا كَرَعُوا، نعم، جميل، فما أقوى المكررات إذن؟

العين.

طبعا، وسمينها عينية الحبسي؛ فكشفناها أصلا. ها، لو قلنا مثلا: "لا ترج الخير"، للحبسي- لأخفينا العين، لا، بل نسبناها للعين، ماذا بعد؟ أقوى المكررات؟ العين. ما حركتها؟ ضمة. قبلها ألف؟ لا. قبلها واو؟ لا، قبلها ياء؟ لا. قبل الذي قبلها ألف؟ لا. القافية إذن مجردة. أأُشبِعت ضمةُ العين، أم جاءت بدلا من إشباعها هاء أو تاء أو كاف أو كذا أو كذا؟

أُشبعت.

أشبعت، جميل، نعود إلى إضافة البيانات، ماذا نقول؟ هذه القصيدة مديدية الأبيات... -أعرف أنكم ستنسون، لا، تذكرت سلمى، طبعا، "أتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن"!- هذه القصيدة مديدية الأبيات المجزوءة -نسيتم أن الواقع خالف النظر بحذف تفعيلة من كلا الشطرين وهذا هو الجزء؟ ما الجزء؟ حذف تفعيلة من كلا الشطرين- فهذه القصيدة مديدية الأبيات المجزوءة، ها!

المحذوفة العروض والضرب.

المحذوفة العروض والضرب؟ أهكذا ترون؟ فلن نذكر الخبن إذن في التصنيف؟ لا؛ لقد جرى مجرى الزحاف -يا مسكينة!- ارتبط الخبن بالحذف، الحذف علة، تمام؟ سامحوني؛ جرى مجرى العلة، ارتبط هنا -يا سلام، سبحان الله! أهم المواضع التي يجري فيها الزحاف مجرى العلة إذن، هي التي يرتبط فيها بالعلة -خذوا هذه القاعدة، وستأتينا في الوافر!- أهم المواضع التي يجري فيها الزحاف -الخبن زحاف سهل لطيف- مجرى العلة فيلزم، المواضع التي يقترن فيها بالعلة. ما العلة التي هنا؟ حذف السبب الخفيف.

الحذف.

عينية القوافي.

عينية القوافي.

المضمومة.

المضمومة.

المجردة.

المجردة.

الموصولة.

الموصولة.

ما شاء الله محترفون، أساتذة، آه -يا جماعة!- لو استطعتم في نهاية الفصل أن تقدموا بطاقة تخريج لأي شيء يعرض عليكم سماعا، شفاهة، لبهرتم الناس. وهذا الذي يفعله تلامذتي دائما، يفعلون هذا شفاهة بالسماع، تقول له: كذا كذا كذا وكذا كذا كذا، كيف عرفت هذا؟ تضربت عليه؛ العروض أصوات، لا حروف على الصفحة، أصوات، أعيدوا!

هذه القصيدة مديدية الأبيات المجزوءة المخبونة العروض والضرب المحذوفتهما، عينية القوافي المضمومة المجردة الموصولة بالواو. والواو هنا لا تكون إلا مدا فلا نحتاج أن نقول: بواو المد. بارك الله فيكم، وأحسن إليكم، والسلام عليكم!

نديم العروضيين المجلس السادس عشر

سلام عليكم!

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته!

طبتم صباحًا -يا أبنائي!- وطاب مسعاكم إلينا!

بسم الله -سبحانه، وتعالى!- وبحمده، وصلاةً على رسوله وسلامًا، ورضوانًا على صحابتهم وتابعيهم حتى نلقاهم!

كيف حالكم، كيف أصبحتم؟ بارك الله فيكم، وشكر لكم، وأحسن إليكم، ويسر لنا ولكم كل عسير، وسهل لنا كل صعب، آمين!

آمين!

اليوم نستمتع بقصيدة لطيفة جدا من شعر الصوفية، سنتعرض في هذا الملف لأكثر من قصيدة من شعر الصوفية، هذه الأولى لعمر بن الفارض أبي حفص سلطان العاشقين،  الذي  لُقِّب "سلطان العاشقين"، العائش أواخر القرن السادس الهجري وأوائل السابع. وكان يقيم بقريب من بيتي، بل أتشرف أنا بأنني أسكن قريبًا من المكان الذي كان يعيش فيه، وكذلك الذي دفن فيه؛ فأنا أعيش في مصر القديمة -يسمونها عندنا "العتيقة"!- إذا كان الناس قد تركوا أماكنهم العتيقة، وتعلقوا بالبنايات الحديثة أو بالأماكن أو الأحياء الحديثة، فقد بقينا نحن في هذا الحي! حتى إنني قلت لابني مرة: ما رأيك، أتسكن في الأحياء الحديثة أحياء الذل والاستكانة، أم في أحياء التاريخ التي تختزن أيام عزتنا؟ فاختار هذه طبعًا! وفي كل موطئ قدم من المكان الذي نعيش فيه ذكرى من ذكريات كبارنا. أعيش في جزيرة كانت تسمى "بستان المسلمين"، كانت الجارية إذا خرجت من بيت أمها إلى بيت خالتها تحمل على رأسها طبقا، امتلأ بالفاكهة من غير أن تقطفها. هكذا قال الحافظ السيوطي وكان من أهل المكان! أتعرفون محمود سامي البارودي رائد الشعراء؟ كان من أهل المكان!  يذكرون من أهله نجوما كثارا من نجوم العلم والفن والسياسة، ولا ذكر لهم إلى من كان فيه من نجوم الهداية الزُّهر صحابة رسول الله -صلى الله عليه، وسلم!- الذين "بأيهم اقتديتم اهتديتم"! أنا اليوم سعيد جدًّا بالنظر معكم في قصيدة من شعر هذا الرجل. هذا الرجل رحل إلى مكة، وجاور هناك خمس عشرة سنة معتزلًا الناس وحده، هكذا في سكنه، ينصت إلى صوت نفسه، ويراقب تطورها من حال إلى حال ومن مقام إلى مقام على طريقته في السلوك -يسمونه عندكم في الثقافة العمانية "السلوك"- يراقب نفسه وسلوكه إلى رب العالمين خمس عشرة سنة، ثم رجع فقال مثل هذا الشعر الذي تستمعون،  قال فصدح بأعذب الألحان، ففتن الناس جميعًا صوفيين وغير الصوفين. وعندنا رجل الآن صار مشهور جدا وله فضائية، متخصص لشعر هذا الرجل، ينشده في المواقف، وابحثوا عنه في الشبكة باسمه "ياسين التهامي"! منشد صعيدي تخصص له هو وابنه، وأظن أنه وضعت في طريقة إنشاده رسالة دكتوراة أمريكية، وهو من خريجي الأزهر، وقديما لامه الشيخ كشك -أتعرفون الشيخ عبد الحميد كشك، فارس المنابر، وكان متمسكا متشدداً متحمسا!- على هذا الذي يفعله. طيب! نستمتع اليوم بتأمل هذه القصيدة وتحليلها عروضيًّا في المقام الأول، وإن كنا لا نخلي كلامنا من استطراد إلى مسائل مختلفة، حتى تستطيعوا أن تستفيدوا من العروض في تحليل القصيدة! وأنا أبالغ في تعليقكم بالقصيدة حتى تتعلقوا بما نعلق به عليها من أفكار عروضية -هكذا تجري الأمور- تتذكرونها، فتتذكرون ما قيل فيها، وهذا هو المراد. ماذا قال صاحبنا أبو حفص عمر بن الفارض المتوفى عام اثنين وثلاثين وستمئة -والفارض صاحب الزكاة، يفرض على الناس الفرائض، يسمونه الفارض- ماذا قال؟

أَنْتُمْ فُرُوضِي وَنَفْلِي أَنْتُمْ حَدِيثِي وَشُغْلِي

يَا قِبْلَتِي فِي صَلَاتِي إِذَا وَقَفْتُ أُصَلِّي

جَمَالُكُمْ نُصْبَ عَيْنِي إِلَيْهِ وَجَّهْتُ كُلِّي

وَسِرُّكُمْ فِي ضَمِيرِي وَالْقَلْبُ طُورُ التَّجَلِّي

آنَسْتُ فِي الْحَيِّ نَارًا لَيْلًا فَبَشَّرْتُ أَهْلِي

قُلْتُ امْكُثُوا فَلَعَلِّي أَجِدْ هُدَايَ لَعَلِّي

دَنَوْتُ مِنْهَا فَكَانَتْ نَارَ الْمُكَلَّمِ قَبْلِي

نُودِيتُ مِنْهَا جِهَارًا رُدُّوا لَيَالِيَ وَصْلِي

حَتَّى إِذَا مَا تَدَانَى الْمِيقَاتُ فِي جَمْعِ شَمْلِي

صَارَتْ جِبَالِيَ دَكًّا مِنْ هَيْبَةِ الْمُتَجَلِّي

وَلَاحَ سِرٌّ خَفِيٌّ يَدْرِيهِ مَنْ كَانَ مِثْلِي

وَصِرْتُ مُوسَى زَمَانِي مُذْ صَارَ بَعْضِيَ كُلِّي

فَالْمَوْتُ فِيهِ حَيَاتِي وَفِي حَيَاتِيَ قَتْلِي

أَنَا الْفَقِيرُ الْمُعَنَّى رِقُّوا لِحَالِي وَذُلِّي

من يخاطب؟ المنتظر من الصوفية أن يخاطبوا بمثل هذا الكلام رب العالمين. "أنتم فروضي ونفلي أنتم حديثي وشغلي"، أنتم الأصل والفرع، أنتم كل شيء؛ إذا تحدثت تحدثت عنكم، وإذا لم أتحدث اشتغلت بكم، في حال الكلام أتكلم عنكم، في حال عدم الكلام أشتغل بكم، فأنتم كل شيء. "يا قبلتي في صلاتي إذا وقفت أصلي"، هذا البيت …

قبل أن ننتقل إلى البيت الآخر، هل هنا يقصد الشاعر "أنتم فروضي"، يعني يخاطب رب العزة على سبيل التعظيم كما قال الله -سبحانه، وتعالى!-: "خلقنا السماوات"، "نحن خلقناكم"؟

صحيح طبعا هذا عادي، لكنه معروف حتى في خطاب المحبوبة أحيانا يقولون لها أنتم. على أية حال المشكلة في الثاني لا الأول، حينما يقول: "يا قبلتي في صلاتي إذا وقفت أصلي"، هذا كلام عادي في حق رب العالمين لأنه قبلتنا.

نعم.

في عقيدة المسلمين أنهم إذ يدخلون الصلاة، يتجهون إلى رب العالمين؛ من خلال قبلته التي حددها هو، وهو المراد أصلا؛ فأنت لا تتجه إلى القبلة من أجل هذه الحجارة أصلا؛ فلابد أن تتجه إلى اتجاه، إلى هنا أو هنا، وقديمًا كنا نتجه إلى بيت المقدس مثلًا، ولو قال لك: اتجه إلى الأهرام لاتجهت إلى الأهرام، أو اتجه إلى قلعة نزوى لاتجهت إلى قلعة نزوى، ليست المسألة في الشيء، لا قيمة للشيء، القيمة لمن قال لك: اتجه هذه الوجهة؛ "لَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا" -صدق الله العظيم!- طيب! هذا الكلام عادي، تقف في الصلاة، تتجه إلى رب العالمين، فما الإضافة التي في هذا البيت "يا قبلتي في صلاتي إذا وقفت أصلي"! أنا أدعي أن هذا البيت تمويه علينا حتى يخدعنا عن أنه يتجه إلى رب العالمين، يخدعك بالثاني عن أنه يتجه بالكلام إلى رب العالمين، وهذه عادة الصوفية، أن يخدعوك عن المتَّجه إليه بالكلام، تظنه رب العالمين ثم ترتاب، تظن، ثم ترتاب، توشك تحاول أن تصل، يخدعونك، تضل، وتظل هكذا في شعرهم،  تخرج، تظل على قلق، لا تدري: أيكلمون رب العالمين، أم يكلمون ناسًا من الناس، محبوبة من المحبوبات، من باب كتمان السر الذي سترونه بعد قليل في القصيدة! قديمًا قال المجنون في بعض شعره:

"وَإِنِّي إِذَا صَلَّيْتُ وَجَّهْتُ نَحْوَهَا بِوَجْهِي وَإِنْ كَانْ الْمُصَلَّى وَرَائِيَا (...)

أُصَلِّي فَمَا أَدْرِي إِذَا مَا ذَكَرْتُهَا أَثِنْتَيْنِ صَلَّيْتُ الضُّحَى أَمْ ثَمَانِيَا"!

لا يفكر في الصلاة إلا في ليلى حبيبته؛ الناس في الصلاة، وهو في ليلى، حتى إذا ما أمَّنوا أمَّن معهم، لكن على معناه لا على معناهم! هذا معروف في شعر المجنون، وهذه المعاني معروفة؛ فما هذا البيت؟ تمويه،  يخدعك عن أنه يريد رب العالمين، كأنه يستعظم هذا! "جمالكم نصب عيني إليه وجهت كلي"، عبارة "وجهت كلي" هذه ركيكة، من كلام المتأخرين، لم يكن المتقدمون يقولون مثل هذا الكلام؛ فستجدون في هذا الكلام نمطًا متأخرًا من الأساليب، متأخرًا أي حديثًا، لا كفصاحة القدماء وعلو بيانهم، وهذا مقصود في شعر الصوفية، يقصدون أن يقاربوا الناس في الشوارع، شعر الصوفية يمكنكم تصنفوه -لولا جناية المصطلحات!- في الشعر الشعبي الذي يوضع للناس حتى يرددوه في الملتقيات، في الحَضَرات، في كذا، في كذا؛ كيف تضع للناس شعرا صعبا، لا بد أن تقاربهم؛ وعندكم في الإذاعة يذيعون خواطر الشيخ الشعراوي وهو صوفي أصلًا؛ فبم يتكلم؟ باللهجة المصرية! كيف وأنت أستاذ لغة؟ كان الشعراوي أستاذ لغة عربية أصلاً لا أستاذ تفسير، وشاعرًا لطيفا -طيب!- ما هذا، ألم تكن قادرا على الكلام بالفصحى؟ بلى كان قديرا؛ سمعت له خطبًا قديمة من أول حياته بالفصحى كأحسن ما يتحدث الفصحاء؛ فأين هذا؟ أين ذهب؟ يبدو أنه صار يفهم هذا أكثر مما كان يفهمه من قبل، صار يرى أنه ينبغي أن يقارب الناس أكثر، و أن يكلمهم بكلامهم ، فانتهى إلى ما ترون من الكلام باللهجة، حتى إنه أحيانًا يخطئ في بعض الآيات، تتسرب إليه اللهجة في نطقه للآية، فينطق الذال زاء -وهذا من تحريف كلام رب العالمين!- طغت عليه اللهجة، فرطته في هذا! ولماذا يفعله؟ تقربًا إلى الناس، وتأليفاً لقلوبهم على طريقة الصوفية. "جمالكم نصب عيني (أمام عيني) إليه وجهت كلي"، "وسركم في ضميري والقلب نور التجلي"، الله على هذا الكلام الجميل! "وسركم"، طيب، ما هذا السر؟ سر إيمانكم، سر وصالكم، سر فضلكم علي، واختصاصكم لي ببركتكم، أحفظه في قلبي، ولا أخرجه، أحفظه في سر نفسي، ولا أطلع عليه أحدًا، ولكن تظهر على قالَبي بركاته، يستقر في قلبي، وتظهر بركاته على قلمي، "مَا وَقَرَ فِي الْقَلْبِ وَصَدَّقَهُ الْعَمَلُ". ماذا حدث حتى كان ما كان؟ في الرابع يشرح كأنه يفصل ما بلغ به إلى الرابع: "آنست في الحي نارا ليلى فبشرت أهلي"، ما هذا الحي الذي آنس فيه نارا؟ أنا أدعي أنه القلب، "فبشرت أهلي"، بشر نفسه: مرحبا بالزائرين، بوفود الرحمن، "آنست في الحي نارا"، هذا هنا تحميل على قصة سيدنا موسى، يسمونه...

اقتباسًا؟

لا، لا، ليس اقتباسًا، الاقتباس ربنا جاء في بعض الآيات، والاقتباس انتزاع بعض الآيات والاستشهاد بها، هذا الاقتباس،  لكن هذا يسمونه في هذه الأيام "التناص". لكن قبل هذا بخمسين عاما كانوا يسمونه "الاستلهام" ، يستلهم قصة موسى، الآن يسمونه التناص ويفصلون في الداخل. "آنست في الحي نارا ليلا فبشرت أهلي"، بشرهم! لماذا يبشرهم؟ لأنه أحس بوفود الرحمن، وحمّل قصته على قصة سيدنا موسى، ماذا قال؟ "لَعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى" -صدق الله العظيم!- "قلت امكثوا فلعلي أجدْ هداي لعلي"، حتى إنه استعمل كلمة "هدى" وكلمة "أجد" اللتين في الآية! لكن عندنا "أَجِدْ" هذه، ترون أنه قد جزمها بغير جازم، فما هذا؟ هذا معروف في شعر عبي قديم، لكنه نادر بشع كريه، أن تجزم الفعل من غير جازم، كما في قول امرئ القيس سيد الشعراء: "فاليوم أشربْ..."، يبدو أنه قال بعد الانتقام لأبيه:

"فَالْيَوْمَ أَشْرَبْ غَيْرَ مُسْتَحْقِبٍ إِثْمًا مِنَ اللهِ وَلَا وَاغِلِ"!

"أَشْرَبْ"؛ فاستغرب هذا بعضُ الناس، حتى إنهم غيروه، فقالوا: "فَالْيَوْمَ فَاشْرَبْ"؛ كأنهم استكبروا أن يقع في هذا سيد الشعراء، كيف يقول: "فاليوم أشرب"، ويجزم من غير جازم! فماذا فعلوا؟ قالوا: "فاليوم فاشرب"، ولا مشكلة على هذا،  لكن لا يجوز لك أن تحرف الكلم عن مواضعه لهواك، هذه مشكلة مصيبة! تستغرب الكلمة، فتغيرها، وتضع في موضعها غيرها مما يريحك، ترتاح على هذا، حتى قال ذو الرمة لراويته: "اكتب شعري؛ فالكتاب أحب إليّ من الحفظ، فإن الراوي ربما نسي الكلمة فوضع في موضعها غيرها، والكتاب لا يغير و لا يبدل"،  هذا كلام ذي الرمة، كلامه مباشرة، "والكتاب لا يغير ولا يبدل". "قلت امكثوا فلعلي أجدْ"؛ فما "أجدْ" هذه؟ أنا أدعي أن "أجدْ"، من علامات استلهامه طريقة حديث الناس في الشوارع؛ فقد تدهورت العربية في أواخر القرن السادس وأوائل السابع، ولم يعد الناس يلتزمون الإعراب! تعرفون أن العربية بدأ تدهورها يبرز للعيان في البادية من أواخر الرابع وفي الحاضرة من أواخر الثاني؛ لهذا وقفوا في الاستشهاد عند آخر الرابع في البادية وعند آخر الثاني في الحاضرة، لأن الناس فسدت لغتهم على ما يرى اللغويون، وتدهور الكلام. قيسوا على كلامكم؛ من منكم يُعْرِبه؟ تكاد لا تجد كلمة معربة في اللهجات العربية، إلا ما كان من مثل "مثلًا"، و"فعلًا"، و"أبدًا"، وعندنا يقولون في الأمثال المصرية الشعبية: "خِيرٍ تِعْمِل شَرِّ تِلْقَى"، لا -ههه!- وجرُّوهما والمفروض أن ينصبوهما: "خَيْرًا تَعْمَلُ شَرًّا تَلْقَى"، فكلتاهما مفعول به مقدم! وانحصر الإعراب في الأمثال وأشباهها! يحاول الرجل مسكين أن يؤلف قلوب الناس، يكلمهم بكلامهم قدر الطاقة. "قلت امكثوا"، لمن يقول: "امكثوا"؟ يقول لنفسه؛ فأنت الآن متشتت، تريد أن تجمع من نفسك في حضرة الإيمان،  أعضاؤك ينكر بعضها بعضا، تريد أن تؤلفها. "دنوت منها"، من أي شيء؟ من النار، "دنوت منها فكانت نار المكلم قبلي"، الله الله على الكلام الجميل! من المكلمُ قبله؟

سيدنا موسى.

سيدنا موسى؛ فهو الآن في مقام مثل مقام سيدنا موسى، دخل، فقال له ربنا -سبحانه، وتعالى!-: "إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ"، في طرف من القصة، وفي طرف آخر قال له: "يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ"، صدق الله العظيم! هذه العبارات كانت في ذهن صاحبنا هذا وهو يتكلم ويحس أنه في مقام كهذا المقام، "دُونَهُ كُلُّ مَقَامٍ". "نوديت منها جهارا"، يا موسى! بمَ نودي؟ "ردوا ليالي وصلي"، سبحان الله! من المنادي؟ ومن المنادى؟ يناديه رب العالمين، يقول له: "ردوا ليالي وصلي"! هذا خلط للحبيب بالمحبوب، من الحبيب؟ ومن المحبوب؟ من المنادي؟ ومن المنادى؟ هذه طريقة الصوفية في الكلام. يتكلم عن نفسه وكأنه يتكلم عن المحبوب، و يتكلم عن المحبوب وكأنه يتكلم عن نفسه، حتى قال ابن عربي، ماذا قال هذا الإمام الأكبر، ماذا قال:

"أَنَا حَبِيبي أَنَا مُحِبِّي أَنَا فَتَايَ أَنَا فَتَاتِي"!

اجتمعت فيه الأشياء. ومن قبل ما قال الحلاج:

"أَنَا مَنْ أَهْوَى وَمَنْ أَهْوَى أَنَا نَحْنُ رُوحَانِ حَلَلْنَا بَدَنَا

فَإِذَا أَبْصَرْتَنِي أَبْصَرْتَهُ وَإِذَا أَبْصَرْتَهُ أَبْصَرْتَنَا

أَيُّهَا السَّائِلُ عَنْ قِصَّتِنَا لَوْ تَرَانَا لَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَنَا"!

الله الله الله! طبعًا الكلام عندك طلي الظاهر، ولكن في الداخل مصائب، في الداخل يختلف الناس كثيرا: "فإذا أبصرتني أبصرته"، أي إذا رأيتني رأيت رب العالمين، "أيها السائل عن قصتنا لو ترانا لم تفرق بيننا"، أي أنا رب العالمين، هكذا كان الحلاج يقول، ولهذا قتل؛ فقد تفوه بكلام لا يجوز! وكان يقول: "ما في الجبة إلا الله"! أي ما في داخل عباءتي إلا الله، وكان يقول: "سبحاني"! مرة حضرت أمسية شعرية بمعرض القاهرة الدولي للكتاب، فسمعت فيها الشاعر الحداثي الكبير محمد سليمان، يقول مستفيدا من ذلك:

"لِدَمِي لُغَةٌ أُخْرَى

سُبْحَانَ دَمِي"!

ههه! تأملوا الشعراء كيف يتكلمون؟ وحضرت أمسية أخرى، فسمعت شاعرا يقول:

"قُلْ هُوَ الشِّعْرُ أَحَدْ"!

على مسامع الجماهير الغفيرة! ولكنني قرأت للدكتور محمد عباس في جريدة الشعب المصرية، مقالا في نقد الرئيس مبارك أو حاشيته، عنوانه "كأنهم يقولون: قل هو الرئيس أحد، الرئيس الصمد"! وهذه سخرية في مكانها، لا تجترئ على العقائد، بل على من يجترئ عليها! يحرك ابن الفارض في هذا البيت يحيرك: من المنادي، ومن المنادى، لتكتشف أن المنادي عنده والمنادى واحد. "حتى إذا ما تدانى الميقات في جمع شملي"، ألم أقل لكم: إن أعضاءه متشتتة، وأنه الآن يجمعها في المقام! ولكن هل اجتمع الشمل؟ "صارت جبالي دكًّا من هيبة المتجلي"، استفادة من قول ربنا  على لسان موسى: "أَرِنِي...

أَنْظُرْ إِلَيْكَ!

"أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكَّا...

"... وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا".

فهو هنا يتكلم بلغة طلية عن أنه وصل إلى هذا المقام، وتجلى عليه رب العالمين؛ ففني فيه، وانتهى.

نعم.

فني، لم يعد يجد نفسه، لأنه ذاب، يسمونها مثلًا "الفناء"؛ قرأت في التصوف، قرأت دستور الصوفية مثلًا، إذا دخلتم موقعي وجدتم تعليقات كثيرة، عشرات التعليقات على دستور الصوفية، ما دستور الصوفية؟ "الرسالة القشيرية"، في مجلدين للقشيري، وهو رجل شهير، صارت رسالته هذه دستور الصوفية، بدأها بالكلام في علم التصوف، ثم انتقل إلى الكلام عن أئمة الصوفية، فقرأت هذا الكتاب، وعلقت ما أعجبني، نصصت على ما أعجبني، وعلى ما استغربته، ثم صورت الصفحات، ونشرتها على موقعي، لأعلم الناس كيف يعلقون على الكتب. وهذا هو موضوع محاضرتنا العامة القادمة في كلية الآداب مساء الثلاثاء أول مايو، واسمها "فن التعليق على الكتب"،  وسأعرض في خلال المحاضرة -إِنْ شَاءَ اللَّهُ!- صورًا من هذه الصور، ولي كتاب اسمه دليل المتثقفين، أعلم الناس فيه أصلا، كيف يعلقون على الكتب، كيف يؤاخون الكتب؟ كيف يجعلونها من الأُسرة؟ ها، كيف تؤاخي الكتاب، فتحكي له كما يحكي لك، هذا ما سنعرِض له في المحاضرة -إن شاءالله!- واقترحَت موزة أن آتي بالكتب لأعلمهم مباشرة كيف يعلقون على صفحاتها -فكرة مبدعة، طالعة لأستاذك، ههه!- فربما فعلنا هذا الكلام.

نعم.

ربما جاؤوا بالكتب وعلمناهم كيف يعلقون، نقرأ عبارة، ونرى ما الذي يخطر ببالنا إذا قرأناها؟ تحس في النهاية أن الكتاب أخوك، شخص قريب وصديق حميم جدًّا، "وَخَيْرُ جَلِيسٍ فِي الزَّمَانِ كِتَابُ"! سنفعل هذا ، وسنعرض -إن شاء الله!- صورا من رسالة القشيري وما عليها من تعليقات، وربما خضنا في معان كهذه. معانٍ غريبة أليس كذلك، حتى إن بعض الناس من طلاب التصوف كان يأتي لصاحبه بعد الجلسة في البيت  يقول له: قال الأستاذ كذا وكذا؛ فيستنكر: ما هذه المعاني! كل مرة يأتي إليه ليحكي له ما سمعه، فيستنكر عليه، ففي مرة قال له: تعال، احضر معنا، وما بَدَا لكَ فاسأل، فجاء، فحضر معهم، ثم رجع عنه قائلا: والله لا أخالفك بعدها! انبهر، وكان المجلس مجلس ابن عربي نفسه الإمام الأكبر؛ فانبهر الرجل. لما وصل ابن الفارض إلى هذا المدى، "صارت جبالي دكا من هيبة المتجلي"، عرف الأسرار، وسبر الأغوار، "ولاح سر خفي يدريه من كان مثلي"، ما هذا السر؟ سر الحقيقة، انكشفت عنه الحجب، فسار على طريقة سيدنا الحارث بن مالك الأنصاري -رضي الله عنه!- إذ قال: "كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى عَرْشِ رَبِّي بَارِزًا"؛ فقال له رسول الله -صلى الله عيه، وسلم!-: "عَرَفْتَ فَالْزَمْ"! انكشفت عنه الحجب، فصار يرى أهل الجنة وأهل النار، ويرى عرش الرحمن، صار يرى، يبدو أنه كان من هؤلاء الواصلين، وهذا سر يمتنع البوح به. كنت أحفظ هذه القصيدة من طريق أخرى دون البيتين الثاني عشر والرابع عشر، وبعد "ولاح سر..."، كنت أحفظ "فالموت فيه حياتي وفي حياتي قتلي"، والكلام في الحقيقة متناسق، ولكنني تيسرت لي نسخة من الديوان وفيها هذان، فأضفتهما، خضعت لها على طريقة ما أوصيكم به من الخضوع للكتب! لما عرف ابن الفارض السر، كان بين أمرين: أن يفشيه وأن يكتمه، فإذا كتمه مات به، و إذا أفشاه قتل عليه، وقد لغيره حدث الأمران: حدثنا القشيري عن شاب من الصوفية الواصلين، أنه ورد على ناس جالسين، فقال لهم -فبهرهم سؤاله-: هل عندكم مكان قريب نظيف أموت فيه؟ قالوا: مجنون، هذا مجنون! فلما وجدوا منه جد السؤال قالوا: اذهب يمينا فيسارا تجد -إن شاء الله!- مكان نظيفًا! فذهب إليه، فمات فيه، هذا هو الحال الأول. وقد اشتهر بين الناس كيف باح الحَلّاج والسُّهْرَوَرْدِيُّ -يسمى السهروردي القتيل- فقتلا؛ إذ مَنْ يسكت على مثل "ما في الجبة إلا الله" -ها!- من يسكت على هذا ؟ من يسكت؟

لا أحد.

حينما يقسم الألقاب على تلامذته: أنت محمد، وأنت عيسى، وأنت موسى، ويراهم أنبياء وملائكة، و يصرح بهذا، ها! تأملوا البيت الثالث عشر، كأنه بعد الحادي عشر حقا، لكني خضعت، "وصرت موسى زماني مذ صار بعضي كلي"، "فالموت  فيه حياتي وفي حياتي قتلي"، "أنا الفقير المعنى رقوا لحالي وذلي"! لو كان الأمر بيدي لحذفت كما قلت لكم  الثاني عشر والرابع عشر، لكنني خضعت للنشرة! لدي نشرتان: واحدة من غير شرح، لأحد المحققين المعاصرين، وواحدة قديمة جدا أهدتني إياها تلميذة لي من مكتبة جدها الذي كان صديق الأستاذ مصطفى صادق الرافعي جدنا الأدبي -هل سمعتم عن مصطفى صادق الرافعي، الذي يسمى أمير البيان الحديث؟ بهرتني البنت، جاءتني بالنشرة تقول: هذه هدية لك من مكتبة جدي! قلت: ومن جدك؟ قالت: صديق مصطفى صادق الرافعي! يا للنسخة النفيسة، كيف يفرط فيها مثلي! فلها الفضل، وهي من طلاب العلم. وبهذه النشرة شرحان: ظاهري وباطني، فأما الظاهري فللنابلسي، وأما الباطني فللبُوريني، يشرحان الشعر نفسه، ويا بُعْدَ ما بين شرحَيْهِما؛ يشرحه النابلسي على طريقة شراح الغزل، ويخوض البوريني في معاني الصوفية وكأنه أُوتِي علم الغيب؛ فخضعت لنشرة الديوان بالشرحين، وأضفت البيتين، أما النشرة الأولى فلم يكونا فيها. طيب! هذه قصيدة لطيفة لا تحتمل المنافسة، لأنه لا يخطئ فيها أحد.

صح.

ما قولكم في أن نقرأها فقط من غير منافسة؟ لماذا ننافس بينكم عليها وقد بذلت لكم نفسها بنفسها؟ أم ماذا ترون؟

ننافس عليها.

ننافس عليها! كأننا بهذا نهديكم الدرجات مجانًا! لا بأس؛ من يقرأ بخمس درجات هكذا من الهواء، سهلة -ها!- بشرطها؟ لا تستخفوا بهذا؛ ففي المحاضرة السابقة طردنا ثلاثة طلاب!

على هذه؟

إي -والله- على هذه، طردنا نورة الجهورية، وطردنا عمر، أتعرفون عمر؟

نعم.

طردناه، استخف بكلامي، وفجأة وقع في ورطة! هو نفسه أنكر نفسه، كيف أخطأ هذا الخطأ، برا! كلهم اختاروا طبعًا! والأولى شروق؛ قلت لها: تقرئين زيادة أو نقصا، فقالت: أو طردًا؟ فطردناها في النهاية، سبحان الله! هذا التشاؤم معروف. فمن يقرأ دون أن يستخف بالكلام -ها!- من؟ المعولي، تفضل!

أَنْتُمْ فُرُوضِي وَنَفْلِي أَنْتُمْ حَدِيثِي وَشُغْلِي

يَا قِبْلَتِي فِي صَلَاتِي إِذَا وَقَفْتُ أُصَلِّي

جَمَالُكُمْ نُصْبَ عَيْنِي إِلَيْهِ وَجَّهْتُ كُلِّي

وَسِرُّكُمْ فِي ضَمِيرِي وَالْقَلْبُ طُورُ التَّجَلِّي

آنَسْتُ فِي الْحَيِّ نَارًا لَيْلًا فَبَشَّرْتُ أَهْلِي

قُلْتُ امْكُثُوا فَلَعَلِّي أَجِدُ هُدَايَ لَعَلِّي

خطأ؛ قال: أجدُ، ماذا قال؟ أجدُ!

ماش على القواعد.

"أجدُ"، مع السلامة، من؟ استخف، "اسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ"؛ صدق الله العظيم! تسنيم، أختار من أريد أن أطردهم -ههه!- لا طبعًا، بل أختار من أكرّمهم، يعلم الله نيتي! من؟ عهود، تشبهين تسنيم من المحاضرة السابقة، تكاثر الطلاب والطالبات، بارك الله فيكم، ها! من الأول -يا عهود!- من الأول حتى نتمكن من جمع الأخطاء!

أَنْتُمْ فُرُوضِي وَنَفْلِي أَنْتُمْ حَدِيثِي وَشُغْلِي

يَا قِبْلَتِي فِي صَلَاتِي إِذَا وَقَفْتُ أُصَلِّي

جَمَالُكُمْ نُصْبَ عَيْنِي إِلَيْهِ وَجَّهْتُ كُلِّي

وَسِرَّكُمْ فِي ضَمِيرِي وَالْقَلْبُ طُورُ التَّجَلِّي

نعم، والله!

... وَسِرُّكُمْ...

استثقلت في الأول "سِرُّكم"؛ فـ"وَسِرَّكُمْ" أخف طبعًا، فالانتقال من الكسر إلى الفتح أخف من الانتقال من الكسر إلى الضم -ها!- نتركها لأنها رجعت قبل أن نخطئها، أعيدي، أعيدي، وارفعي صوتك!

وَسِرُّكُمْ فِي ضَمِيرِي وَالْقَلْبُ طُورُ التَّجَلِّي

ها، تخفض صوتها، تهرب، أعيدي!

وَسِرُّكُمْ فِي ضَمِيرِي وَالْقَلْبُ طُورُ التَّجَلِّي

آنَسْتُ فِي الْحَيِّ نَارًا لَيْلًا فَبَشَّرْتُ أَهْلِي

قُلْتُ امْكُثُوا فَلَعَلِّي أَجِدْ هُدَايَ لَعَلِّي

دَنَوْتُ مِنْهَا فَكَانَتْ نَارَ الْمُكَلَّمِ قَبْلِي

نُودِيتُ مِنْهَا جِهَارًا رُدُّوا لَيَالِي وَصْلِي

ها؟

نُودِيتُ مِنْهَا جِهَارًا رُدُّوا لَيَالِيَ وَصْلِي

حَتَّى إِذَا مَا تَدَانَى الْمِيقَاتُ فِي جَمْعِ شَمْلِي

صَارَتْ جِبَالِي دَكًّا مِنْ هَيْبَةِ الْمُتَجَلِّي

خطأ لن أصبر على هذا، قلتِ: "جِبَالِي"، وهي "جِبَالِيَ"! مسكينة تمشي على نار، على مسامير، كأن هذا الإعراب لها مسامير، وهذا طبعًا من الهلع الذي هي فيه، لا من تقصيرها، موقف صعب طبعًا، ولكن لا بد أن تتدربوا على هذا. ها! المحاولة الأخيرة، رحاب، وعدناها في المرة الماضية، من الأول!

"أنتم فروضي"، لعمرِ بن الفارض...

لِعُمَرَ -إذا أردتِّ الإعراب!- لأنه ممنوع من الصرف -هذا خطأ من خارج النص- "أنتم فروضي"، لعمرَ بن الفارض سلطان العاشقين. من لطائف سلطان العاشقين أن فتاة عمانية فذة غير طبيعية على مستوى العالم، وضعت بحثًا بينه وبين أبي نواس، وسمته "الخمر بين سلطاني عاشقيها"!

الله!

الخمر بين سلطانَيْ عاشقِيها -ههه!- هذا عمر وهذا الحسن بن هانئ -يا سلام!- وحصلت به طبعًا على ممتاز، ها!

أَنْتُمْ فُرُوضِي وَنَفْلِي أَنْتُمْ حَدِيثِي وَشُغْلِي

يَا قِبْلَتِي فِي صَلَاتِي إِذَا وَقَفْتُ أُصَلِّي

جَمَالُكُمْ نُصْبَ عَيْنِي إِلَيْهِ وَجَّهْتُ كُلِّي

وَسِرُّكُمْ فِي ضَمِيرِي وَالْقَلْبُ طُورَ التَّجَلِّي

ما شاء الله، مع السلامة، لم تنتبه للخطأ طبعًا، ماذا قالت؟ "وَالْقَلْبُ طُورَ التَّجَلِّي"، هذه مسألة لسانك؛ لسانك حصانك، من الخيّال هنا؟ عندنا فرق بين الخيّال والخيليّ؛ الخيلي هو الذي يخدم الخيل في الحظيرة، والخيّال هو الذي يركبها، بينهما فرق شاسع! ها، اختاري -يا رحاب!- "ما بين الجنة والنار"!

فرصة؟

فرصة؟ ها! تعودَتْ، لا، لا فرصة! ننقص مِن رحابَ إذن خمس درجات. لماذا تركت لعهود، لأنني توقعت أن تخطئ مرة أخرى وثانية وثالثة، فحدث ما توقعت، نتبين ما تقع فيه أخطاء، رحاب ممتازة، هي في نفسها ممتازة، ينبغي أن نشتدّ عليها وعلى عهود كذلك، تفضلي! ها، من يكمل؟ انتهينا، انتهينا الآن من المنافسات المادية المقدرة، فمن يقرأ الآن بالمجان، من يقرأ بالمجان؟ مارية، تفضلي!

أَنْتُمْ فُرُوضِي وَنَفْلِي أَنْتُمْ حَدِيثِي وَشُغْلِي

يَا قِبْلَتِي فِي صَلَاتِي إِذَا وَقَفْتُ أُصَلِّي

جَمَالُكُمْ نُصْبَ عَيْنِي إِلَيْهِ وَجَّهْتُ كُلِّي

وَسِرُّكُمْ فِي ضَمِيرِي وَالْقَلْبُ طُورُ التَّجَلِّي

آنَسْتُ فِي الْحَيِّ نَارًا لَيْلًا فَبَشَّرْتُ أَهْلِي

قُلْتُ امْكُثُوا فَلَعَلِّي أَجِدْ هُدَايَ لَعَلِّي

دَنَوْتُ مِنْهَا فَكَانَتْ نَارَ الْمُكَلَّمِ قَبْلِي

نُودِيتُ مِنْهَا جِهَارًا رُدُّوا لَيَالِي وَصْلِي

"لياليَ"، وهذه خمس درجات غير محسوبة!

نُودِيتُ مِنْهَا جِهَارًا رُدُّوا لَيَالِيَ وَصْلِي

حَتَّى إِذَا مَا تَدَانَى الْمِيقَاتُ فِي جَمْعِ شَمْلِي

صَارَتْ جِبَالِيَ دَكًّا مِنْ هَيْبَةِ الْمُتَجَلِّي

وَلَاحَ سِرٌّ خَفِيٌّ يُدْرِيهِ مَنْ كَانَ مِثْلِي

"يُدْرِيهِ"! هذا الذي أخطأ فيه عمر، "يَدْرِيهِ"، ها!

وَلَاحَ سِرٌّ خَفِيٌّ يَدْرِيهِ مَنْ كَانَ مِثْلِي

وَصِرْتُ مُوسَى زَمَانِي مُذْ صَارَ بَعْضِيَ كُلِّي

فَالْمَوْتُ فِيهِ حَيَاتِي وَفِي حَيَاتِي قَتْلِي

... وَفِي حَيَاتِيَ...

أَنَا الْفَقِيرُ الْمُعَنَّى...

"أنا الفقير المُعنّى"، المتعب، عندكم في العمانية "عِنِيت"، "عَنِّيتْنِي".

... رِقُّوا لِحَالِي وَذُلِّي

و"رِقّوا"، فعل أمر من "رَقَّ، يَرِقُّ"، لكنه هنا لأمر الجماعة، وكثير من الناس لا يحسنون صيغة الأفعال. -أحسنت، يا مارية، بارك الله فيك، طيب! نكتب البيتين الأوليين.

أستاذ، لو سمحت؟

ها، من؟

سامي.

ها، سامي!

ما الأصل، "يُدري" أم "يَدري"؟

دَرَى هو يَدْرِي أي عَلِم، ودَرَيْتُ أنا أَدْرِي، مثل جَرَى يَجْرِي، أما أَدْرَى غيرَه يُدْرِيه أي أَعْلَمَه، وأَدْرَيْتُ غَيْرِي أُدْرِيهِ، فمثل أَجْرَى يُجْرِي، وأَجْرَيْتُ غيري أُجْرِيهِ، أي جعلت غيره يَدْري ويجري!

أليست "يدري" بمعنى "يخفي"؟

لا أعرف "دَرَى" بمعنى أَخْفى.

أو "دار"؟

لا، "دارى" معروف، دَارَى يُدَارِي، أي خادع يخادع، وأخفى يخفي، لكن مالنا ولها الآن؛ نحن في " يدري"، على مثل يَعْلَمُ؛ هل تقول: يُعْلم حينما تريد "يَعْلم"؟ لا، بل حينما تريد أنه جعل غيره يَعلم، وهو لا يقصد هذا هنا. طيب! نكتب البيتين الأوليين، وعندنا على السبورة فضاء كاف جدًّا. هل من خطأ في الإملاء، هل من خطأ؟ ما شاء الله، خطّاط -يا أستاذ!- بل خلّاط! هذه خطأ، هذا ترحيل للحركات.

أَنْتُمْ فُرُوضِي وَنَفْلِي أَنْتُمْ حَدِيثِي وَشُغْلِي

يَا قِبْلَتِي فِي صَلَاتِي إِذَا وَقَفْتُ أُصَلِّي

طيب! نغني هذا، وهو من ألطف ما يكون،  يُغنِّي بعضُه بعضًا من غير محاولة:

أَنْتُمْ فُرُو| ضِي وَنَفْلِي| أَنْتُمْ حَدِيـ| ـثِي وَشُغْلِي

يَا قِبْلَتِي| فِي صَلَاتِي| إِذَا وَقَفْـ| ـتُ أُصَلِّي

منتهى السهولة، نفصل بخط غير الخط، والنسخ أنفع، من أعلى إلى أسفل، منتهى السهولة، أقصد بخط غير الخط، نعود إلى خط آخر، لا بأس، نعود إلى الأحمر، إلى خط التشكيل:

"مستفع لن"، لماذا لم تتصل؟

للسبب نفسه الذي فعلناه في الخفيف، أن "تفع" وتد مفروق. ما الفرق؟ هي في الرجز "مس" سبب خفيف، و"تف" سبب خفيف، و"علن" ووتد مجموع. أما هنا فـ"مس" سبب خفيف، و"تفع" وتد مفروق، و"لن" سبب خفيف. لحظة، رأى بعض الناس أن الخليل متكلف؛ لماذا يفرق بين "مستفع لن" هنا و"مستفعلن" هناك، وهي مثلها؟ -كلام فارغ!- لماذا عقّد علينا الدنيا، وتكلف، ولم يكن ينبغي له أن يتكلف! لا، خطأ، لم يتكلف، بل وضع نظاما، واتبعه! ما النظام الذي وضعه؟ "الدوائر العروضية"، نظام عبقري جدًّا، استطاع به أن يجمع البحور في أُسر، كأن نجمع طلاب الجامعة في مجموعات، لكل مجموعة سرها وطبيعتها وخصائصها؛ لهذا وضعنا هؤلاء في مجموعة. هل نقول عندئذ: لماذا فرقت بين هذا الطالب وهذا الطالب؟ يا أخي، هذا من هذه المجموعة، وهذا من هذه المجموعة، فإذا لم تفرق خلطت بينهم؛ فهذا من مجموعة تحضر اليوم، وهذا من مجموعة تحضر غدا، وهذا من مجموعة تحضر الصباح، وهذا من مجموعة المساء. يأتيك أي واحد في أي وقت، فتقول له: اخرج! فيقول الناس السائرون في الشوارع: ظلمته، أخرجته، هذا طالب علم! يا أخي، هذا من مجموعة أخرى، وكذلك الرجز. حينما نجد "إبراهيم أنيس" في كتابه موسيقى الشعر يستغرب كيف نفرق بين "مستفع لن" و"مستفعلن"، لا نوافقه على هذا، وهو أستاذ كبير، رائد الدراسات اللغوية الحديثة، أول من ذهب إلى أوربا، ورجع، وعرض على الناس ما استفاده من أوربا. كنا قديما ندرس على طريقتنا -وهي طريقة قوية جديرة بكل التقدير- ثم نمنا طبعًا، ووثقنا بحضارتنا -وهي حضارة عظيمة بلا ريب- ولم يكن ينبغي لنا أن ننام هكذا، وننقطع عن مسيرة العالم؛ فحدثت بين ماضينا وحاضرنا هُوَّة واضحة، خلالها استطاع الغرب أن ينهضوا نهضتهم بناءً على نهضتنا. والآن ينكرون حضاراتنا أساسا -ولا حول ولا قوة إلا بالله!-  وكلما قلت لهم شيئا يقولون: لا، خطأ، كل هذا غير مقبول!  حينما تذهب -إن شاء الله!- إلى دراسة الدكتوراة في أي مكان في العالم ستعرف حقيقة ما قلت. يقولون: هذا كلام تقولونه في بلادكم! تقول: هذا اختراعنا! لا، لا، هذا كلام فارغ، هذا اختراعنا نحن، وهم يفعلون هذا أصلًا بين بعضهم وبعض، كما تجدون هذا في كتاب "التفكير العلمي" -تدرسونه متطلبَ كلية- وفيه بيان كيف ينكر بعضهم على بعض، يدعي الروس أنهم مخترعو كذا، ويدعي الادعاء نفسه الألمان والفرنسيون والإنجليز؛ ما هذا الاختراع، أين بدأ؟ أمة ينكر بعضها بعضًا، تنتظرون أن تثبت لنا الأولية، مستحيل! عاد إبراهيم أنيس من أوربا، وصار يتكلم بطريقة الأوربيين، وصار كل حين يقدم كتابًا، حتى قدم كتاب "موسيقى الشعر" -هذا اسمه!- الذي حاول فيه أن يستفيد مما حصله من طريقة الغربيين في عرض المعلومات ونقدها. ولم ينتبه إلى أن الخليل بنى بنيانًا نظريًّا عبقريًّا اسمه "الدوائر"، استطاع به أن يكشف صلات بعض الأبحر ببعض، وجعل الأبحر المتصلة في مجموعة، لينتقل إلى متصلة أخرى في مجموعة أخرى، حتى وضع خمس دوائر: الأولى دائرة المختلف، والثانية دائرة المؤتلف، والثالثة دائرة المجتلب، والرابعة دائرة المشتبه، والخامسة دائرة المتفق. في الدائرة الأولى الطويل والمديد والبسيط، وفي الدائرة الثانية الوافر والكامل، وفي الدائرة الثالثة الهزج والرجز والرمل، وفي الدائرة الرابعة الخفيف والمجتث والمضارع وكل ما ندرسه الآن؛ ففي هذه الرابعة تسعة أبحر، ستة مُعملة وثلاثة مُهملة، على طريقته في تقليب المواد المعجمية، يقول لك: من اللام والميم والعين مثلا يخرج كذا وكذا وكذا وكذا وكذا وكذا؛ فهذا منها معمل، وهذا مهمل، تأملوا العبقرية! أنا أدعي أن هذه الإعدادات التي أعدها الخليل نافعة لنا جدًّا هذه الأيام، نستطيع أن نُعمل المهمل في التعبير عن المعاني الحديثة التي تتوالى علينا كل يوم، انفجار المعلومات، آلاف المعلومات كل يوم، كيف نعبر بالمنتاهي عن غير المنتاهي كما يقول الفلاسفة، كيف نعبر بالأصوات والحروف المتناهية عن المعلومات غير المتناهية! أصوات العربية وحروفها متناهية، فكيف! هذه حيلة من الحيل، أن نستفيد من المهمل في كل شيء، وهنا في بحور الدوائر مثلًا بعض هذا المهمل، لكن دعوه الآن إلى حين! اكتشف الخليل أن المجتث أخو الخفيف؛ ذكروني: كيف كان الخفيف؟

مفاعيلن...

لا، بل "فاعلاتن مستفع لن فاعلاتن فاعلاتن مستفع لن فعلاتن". كان البيت من الخفيف مسدسًا، وهذا المجتث أخوه! إذا قالوا لك: فلان أخو فلان، أو قيل لك: عندنا اختلاف في المجموعة، وهو أخو فلان؛ فقدرت أن يكون مثل أخيه طبعًا، طويلًا كأخيه، أو قصيرا، أو سمينا كأخيه، أو نحيفا كأخيه، أو كريما كأخيه، أو بخيلًا كأخيه، أو صالحا كأخيه، أو فاسدًا كأخيه، هذا العادي أن تقيس الأخ على أخيه، و"من أشبه أخاه فما ظلم"، على رغم أن المثل "مَنْ أَشْبَهَ أَبَاهُ فَمَا ظَلَمَ"!

وأمه كذلك!

نعم، وأمه كذلك -تُدخلنا في العصبية الجنسية!- والكلام عن الرجال كلام عن النساء كذلك، وفي المثل: "إِنَّ النِّسَاءَ شَقَائِقُ الْأَقْوَامِ"، حينما يتكلمون يقصدون هذا كله، "وَمَنْ يُشَابِهْ أَبَهُ فَمَا ظَلَمْ"، غيّرها ابن مالك أو بعض الرجاز قليلًا، والمثل في الأصل "مَنْ أَشْبَهَ أَبَاهُ فَمَا ظَلَمَ"، وأمه كذلك كما تقول ريان، لكن هذا داخل في ذاك، وربما كانوا يتحرجون من ذكر الأم، على أنه ربما كانت الأم أشهر فنسبوا إليها الابن، كعمرو بن هند -وكان من ملوك العرب!- والسُّلَيْك بن السُّلَكة -وهو صعلوك!- ويزيد بن الطَّثْرِيّة -وهو شاعر- والشاعر الذي بنينا على بيتيه بطاقة التخريج العروضي سويد بن كراعَ، وغيرهم! نعود، هذا بيت الخفيف "فاعلاتن مستفع لن فاعلاتن فاعلاتن مستفع لن فاعلاتن"؛ إذا قلبنا تفعيلاته خرج "فاعلاتن فاعلاتن مستفع لن فاعلاتن فاعلاتن مستفع لن" -وهو مهمل- و" مستفع لن فاعلاتن فاعلاتن مستفع لن فاعلاتن فاعلاتن"، وهو بحرنا المجتث! ونعم؛ هذا تنظير دَوَائِرِيّ عقلي، وبيت المُجتَث في الواقع مُربَّع "مُستَفْعِ لن فَاعِلَاتن مُستَفْعِ لن فَاعِلَاتن"، هكذا تسير الأمور، كما رأيتم: "أَنْتُمْ فُرُو| ضِي وَنَفْلِي| أَنْتُمْ حَدِيـ| ـثِي وَشُغْلِي" -طيب!- فماذا يفعل الخليل في تحرير اختلاف التنظير والتطبيق؟ قد ورَّط نفسه باختراع نظام الدوائر، جمع البحور، واستدل ببعضها على بعض، فخالف الواقع، فماذا يفعل، كيف يعالج هذه المشكلة؟ كيف كان يعالجها مثلها؟

كان يقول: هذا مجزوء.

أحسنت، كان يستعمل حيلة القول بالجزء، فيقول في المجتث وما أشبهه مَثَلًا: "وَلَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا مَجْزُوءًا"؛ فيستغرب ناس كإبراهيم أنيس: سبحان الله! تكلفنا خيالاتك، وتفرضها علينا! لكن إبراهيم أنيس في هذا الكلام يقلل من قيمة الفائدة العظيمة التي أفادنا إياها الخليل، والتي يصغر في جوارها كل شيء، كأن تبني قصرًا عظيمًا، وتَكْفِي، وتوفي، وتفعل كل شيء، وتنسى شيئًا هينًا، فيغتفر لك بجوار هذا. لا أنكر أن ادعاء أن بيت المجتث "مستفع لن فاعلاتن فاعلاتن مستفع لن فاعلاتن فاعلاتن"، خيالات لا واقع لها، لكن اكتشاف أنه أخو الخفيف في أسرة واحدة شيء هائل مدهش، وإفضاؤه إلى أن أصل المجتث "مستفع لن فاعلاتن فاعلاتن مستفع لن فاعلاتن فاعلاتن"، وأن الواقع مغير عن أصل مهمل، كلام أحبه ولا أستنكره مثلما استنكره إبراهيم أنيس، لأننا نرى في اللغة أسماء لا نعرف لها أفعالا، وأفعالا لا نعرف لها أسماء، فنقول: هناك نقص هُجر على مدار الزمان،  حتى إن مجمع اللغة العربية -وهو جهة الفتوى اللغوية المعاصرة- حكم بجواز إكمال المواد الناقصة. عندنا مثلا "يَدَعُ (يترك)، دَعْ"، وليس عندنا "وَدْعٌ، وَدَعَ"، ومقتضى قرار المجمع أن نزيدهما، ولاسيما أن الماضي في قراءة عروة بن الزبير آية "مَا وَدَعَكَ رَبُّكَ"، ويؤكد ذلك قول ابن جني في وَيْح ووَيْل ووَيْب: إنها مصادر مماتة الأفعال، ولو حَيَّتْ لكانت على مثل "وَاحَ، يَوِيحُ"؛ فبمقتضى قرار المجمع يجوز لك أن تقول: وَاحَ يَوِيحُ، وَالَ يَوِيلُ، وَابَ يَوِيبُ". وهنا كذلك الفكرة نفسها؛ فنحن نكمل المواد الناقصة، وبهذا يرد على إبراهيم أنيس نفسه، وكان هو نفسه عضوا بمجمع اللغة العربية الذي قضى بإكمال المواد الناقصة! يا أخي، طبق هذا هنا، وهذه الموسيقى موسيقى لغوية، نحن في عروض، والعروض موسيقى كلمات، لا موسيقى آلات! فأَجْرِ على هذا ما أجريتَه على ذاك! طيب! يا جماعة، سماه الخليل بحر "المجتث"، لأنه يبدو في الظاهر مجتثا من الخفيف، تأملوا بيت المجتث المستعمل واقعيا "مستفع لن فاعلاتن مستفع لن فاعلاتن"، وقيسوه على بيت الخفيف المستعمل واقعيا "فاعلاتن مستفع لن فاعلاتن فاعلاتن مستفع لن فاعلاتن"، لتفهموا كيف يبدو الشاعر لكم كأنما اقتطع من بيت الخفيف أربع تفعيلات دون اثنتين!

نعم.

ألا نستطيع أن نقول إن بيت المجتث صورة خفيفيّة مجزوءة؟ لا، لماذا؟ لأن الجزء علة شديدة، فيها تحذف تفعيلة من آخر كل شطر، لا من أوله، فهمتم؟ إذن ما الجزء؟ علة شديدة، فيها تحذف تفعيلة من آخر كل شطر من شطري البيت، لا من أوله، وماذا نقول في هذا؟ حذفت منه تفعيلة من أول كلا شطري بيت الخفيف؛ فلهذا جعله بيت بحر جديد، سماه المجتث، ودل بتسميته على تلك العلاقة! مريم!

نعم.

شردت بعيدا، ها، معي، يا جماعة! ما الاجتثاث عندكم في اللغة؟ "اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ".

الانتزاع.

اقتلعت، انتزعت، واقتطعت، وانتسفت بها الأرض انتسافا؛ لم يقدر الخليل أن يحكم عليه بالجزء، لأنه ليس بمجزوء على طريقة الجزء؛ فقال: مجتث. طيب! وبحر مجتث بحر لطيف جدًّا البيت منه لطيف كما ترون، يغني نفسه بنفسه، فلماذا لم يكثر في العصر الجاهلي ولا في العصر الإسلامي ولا في العصر الأموي؟ لماذا؟ كيف يغفل الناس عن هذه اللطافة، عن هذه الأناقة، كيف يغفلون عن هذا؟ أظن أن السر هو ما ترونه من حال الشِّيب عندكم -تسمونهم الشّيّاب- تجاه الغناء الحديث، عندك جَدُّك مثلا في البيت، إذا أحب أن يستمع أغنية -إذا كان ممن يستجيزون الاستماع إلى الغناء!- فإلى من سيستمع؟ إلى رابح صقر، على الرغم أنهم من العائلة -ههه!- لا، بل إلى رجل بدوي قديم، كان يسمعه في المجالس والمنتديات القديمة، ولا يحب هذه الأشياء. أتخيل أن القدماء استخفوا بهذا البحر إلى الطويل والبسيط والكامل والوافر، كأنه من سخافات الشباب، ينبغي ألا تكون له قيمة عندهم، هذا هو السر، أم ماذا ترون مع هذه اللطافة؟

كأن الخليل عندما أنشأ هذه البحور كان يعرف مستقبل الشعر؟

وبمناسبة كلام ليث، أشير إلى شيء: تأسيس الخليل للدوائر وترتيبها كان يقصد به التنبيه على درجة استعمالها؛ فبحور الدائرة الأولى أكثر البحور استعمالًا، وبحور الدائرة الثانية هي الثانية استعمالًا -سبحان الله!- رتب الدوائر كما نبَّهنا العروضيون، على حسب شيوع الأبحر، وهذا المجتث يأتي في الدائرة الرابعة طبعا، لا في الأولى، ولا في الثانية، ولا في الثالثة. طيب! الآن لا تحتاجون إلى أن تشدوا دساتين أعوادكم، ولا أن تحموا طبولكم ودفوفكم، ولا إلى أن تشربوا، ولا إلى أن تطربوا، ولا إلى أن تلتزموا ألا يتقدم عازف عازفا -فإن ظن أنه يحسن؛ فإنه يسيء!- ولا إلى أن تجعلوا النغمة أكثر زرقة؛ فهذه القصيدة يغني بعضها بعضا، لا تحتاج إلى شيء، ولكن مع هذا سنلاطفها، ونحللها جميعا معا في نفس واحد، سنعملها معا، ثم سنختار طالبا يؤديها كلها بضربة واحدة من الأول إلى الآخر، أو طالبة، سهلة -يا أخي!- لا تحتاج إلى عناء، معي، ها!

غيث رأس الفتنة، غيث رأس الفتنة بآلته الحادة -ههه!- أعيدوا!

تَدَلَّلْ تَدَلَّلْ، ادَّلَّلْ عِيني كما يقول العراقيون، ادَّلَّلْ عِيني، ههه!

الله! لحظةً يقلبوا الصفحة -ههه!- يا للعار!

خطأ!

عاشوا، عاشوا، فيكم طرب، وفيكم وناسة! طيب! نحتاج إلى التنبيه على بعض الأشياء قبل أن نترك القصيدة لمن يؤديها كلها. القصيدة كلها مبنية على اليائات، كلها ياءت.

نعم.

كلها ياءات متكلم، حتى لقد بنى القافية على اللام المكسورة، حتى يملأ الدنيا باليائات، أنا أنا أنا أنا، "أَنَا مَنْ أَهْوَى وَمَنْ أَهْوَى أَنَا"، شغلي شغلي وشغله واحد، فالقصيدة كلها ياءت: "فروضي، حديثي، شغلي، قبلتي، صلاتي، عيني، كلي" -يا ربي!- منتشرة هذه الياءات في القصيدة، لكي يملأ عليك الدنيا بما كان بينه و بين حبيبه من علاقات خاصة، جعلت الحبيب محبوبًا، والمحبوب حبيبًا. طيب! وياء المتكلم هذه يجوز في أصل لغتنا أن تسكن وأن تفتح.

نعم.

فهاتان إمكانتان بين يديك، تختار منهما، حتى يضطرك العروض إلى أن تختار إحداهما؛ هنا مثلا "أَنْتُمْ فُرُوضِيَ وَنَفْلِي" تكسر الوزن، وكذلك "أَنْتُمْ حَدِيثِيَ"، و"في صلاتيَ"، ...، وهكذا، لكن هناك أحيان أخرى مثلا...

هداي.

أحسنت! "هداي" هذه يستحيل فيها التسكين أصلا، لكي لا يلتقي ساكنان الألف والياء.

ليالي.

هذا.

لماذا؟ يا فيلسوف! يقول منذر: هذا أرجح، الاختلاس والخبن أرجح من الإشباع والتسليم! لماذا؟ ألأنه أسهل؟ تتكلم عن السهولة، والسهولة والصعوبة فيهما نظر، لا، كنت أرجو أن تعتمد على شيء آخر. ومنذر له عناية بالدلالة، كان ينبغي أن يعتني بالدلالة؛ ألم أعلمك من قبل -وانتبه إلى هذا، وابنِ عليه كلامك!- أن السعيد كثير الحركة، والحزين بطيء الحركة؛ ومن ثم ينبغي أن تربط بالفرح تكثير الحركات، وبالحزن تقليلها وتكثير السكنات؛ فماذا ترى هنا؟ يقول الرجل: "فَالْمَوْتُ فِيهِ حَيَاتِي وَفِي حَيَاتِيَ قَتْلِي"، إما أن يحيا في الموت، وإما أن يموت في الحياة، أيهما الحزين، وأيهما السعيد؟ ها! حيرتنا، يا أستاذ! أيهما السعيد، وأيهما الحزين؟ الموت في الحياة أم الحياة في الموت؟

الحياة في الموت.

الموت في الحياة، أم الحياة في الموت؟ ماذا قال ابنُ الرَّعْلاء؟

"لَيْسَ مَنْ مَاتَ فَاسْتَرَاحَ بِمَيْتٍ إِنَّمَا الْمَيْتُ مَيِّتُ الْأَحْيَاءِ

إِنَّمَا الْمَيْتُ مَنْ يَعِيشُ ذَلِيلًا سَيِّئًا بَالُهُ قَلِيلَ الرَّجَاءِ"!

أيهما الحزن، وأيهما الفرح، الحياة في الموت، أم الموت في الحياة؟

الحياة في الموت.

سعيدة؟ هذا كلام صحيح؛ السعادة الحياة في الموت، أحسنت، بالله!

"لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا...

أحسنت، أكمل!

"بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقونُ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ".

الله أكبر، حتى الفرح مذكور، هات الآية من الأول!

"وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونُ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحزنون"؛ صدق الله العظيم!

بخمس درجات.

بخمس درجات! الدنيا خلاص، ما عاد فيها خير، خلاص! كله بالفلوس، مصالح، الدنيا مصالح! موافق، لكن بشرط: إذا هفا هفوة نقصنا خمس درجات، ولم نطرده!

ولا يدخل المحاضرة القادمة!

لا، لا، يكفي هذا، أن ننقص منه خمس درجات، يكفيني هذا، وسأكون به كثير الحركة من السعادة. موافق؛ فمن؟ لا أحد! دعوا عنكم هذا إذن، من يؤدي مجانا؟ من؟

هاجر.

هاجر، من الأول، لا وقت لدينا، أسرعي!

والله! هذه خمس درجات، أعيدي!

هكذا.

خطأ، عدنا، أعيدي! هذه خمس أخرى، عشر درجات -ها!- ستكون عليها لنا درجا في الآخر!

الله! لحظةً يقلبوا الصفحة -ههه!- يا للعار!

"تَدَنَّى"، ما شاء الله! هذه ينبغي أن يجمع عليها الطرد ونقص الدرجات! "تَدَنَّى" هذه، "تَدَنَّى"، أعيدي!

"مَا تَدَانَى"، خطأ كذلك! من هذا العربي الذي يقول: "تدانى ألميقات"، إلا إذا كان مذيعا من المذيعات الأحياء منهم والأموات، في القنوات العربية، إلا الجزيرة، ههه! من هذا، يا مسكينة!

أحسنت، يا هاجر، هذا جميل جدا، بارك الله فيك! طيب، ما قافية البيت الأول؟

شغلي.

ها، أكيد أكيد، آخر كلام، آخر كلام؟  

شغلي.

لماذا؟ اشتملت على مكوناتها: الساكن الأول الغين، والثاني الياء، وبينهما اللام المكسورة، وقبلهما الشين المضمومة؛ فهي إذن "شغلي"، فلتسيروا على هذا الإيقاع حذرين، لكي تتجنبوا المفاجآت، ها!

صلي.

كلي.

جلي.

أهلي.

علي.

قبلي.

وصلي.

شملي.

جلي.

مثلي.

كلي.

قتلي.

ذلي.

 جميل، ما أقوى المكررات؟

اللام.

اللام طبعا، اللام، وهو من أكثر الحروف المستعملة في القوافي على الإطلاق، وهو عند الخليل من حروف الذلاقة الغالبة على الحروف، ولا يخلو منها كلام: الراء، واللام، والميم، والنون. ها، طيب، ما حركة هذه اللام؟

الكسرة.

قبلها ألف أو واو أو ياء؟

لا.

لا ردف إذن. قبل الذي قبلها ألف.

لا.

لا تأسيس إذن؛ فالقافية مجردة. كسرة اللام مشبعة، أم بعدها شيء في مكان الإشباع؟

مشبعة.

مشبعة، لأنه يجوز أن يقول مثلا: شغله، شغلك، هذا وارد، وسترونه فيما بعد. من يقول إذن عبارة البيانات في نفس واحد، هكذا؟ من يقول هذا؟ روان، روان محترفة في هذا الأمر، نعطيها فرصة، لم تقرأ من قبل، ولم تعلق، وأنا أعرف أنها تتقن هذا. ها! قولي كل ما نريد في عبارة واحدة نضيفها إلى البطاقة الشخصية!

هذه القصيدة مجتثيّة الأبيات الوافية...

خطأ، ما كنت أتوقع أن تخطئ هذا الخطأ، حسدناها، العين، الحسد عندي فوري، لا رد له! وافية! هذه مجزوءة، يا مسكينة!

صح.

"صح"! بعد الاختبار تعرف الصواب، أعيدي!

هذه القصيدة مجتثيّة الأبيات المجزوءة الصحيحة العروض والضرب، لامية القوافي المكسورة المجردة الموصولة بالياء.

أحسنتِ، بارك الله فيك! أحب لنفسي ولكم طبعا، أن نتعلم الأداء العربي الفصيح الكامل، وأن ننفصل بين الكلام في مواطن الفصاحة، والكلام في تحرير المسائل. أنا أقول مثلا بفصاحة واضحة: هذه القصيدة مجتثية الأبيات المجزوءة الصحيحة العروض والضرب، لامية القوافي المكسورة المجردة الموصولة بالياء.  هكذا ننطق التعبير نفسه، نتأنق في صياغة تعبير التحليل كما نتأنق في نظم الشعر، وفي الخطابة بالنثر، وهكذا. طيب!

هل يمكن أن تعيد العبارة؟

نعيدها! قد فعلنا، ولكن لا بأس: هذه القصيدة الوافية مجتثية الأبيات المجزوءة الصحيحة العرض والضرب -صحيحة العروض والضرب طبعا، لأنها كانت ترجع لـ"فاعلاتن"، تخبن وترجع لـ"فاعلاتن"، وكل ما رجعنا عنه فلا اعتبار له- لامية القوافي المكسورة المجردة الموصولة بالياء، والياء هنا لا تكون إلا مدا أصلا. بارك الله فيكم، وشكر لكم، وأحسن إليكم، والسلام عليكم!

وسوم: العدد 1101