هكذا تكلم جورج بوش
هكذا تكلم جورج بوش:
عما قليل يتنصَّر المسلمون جميعا، ويختفى الإسلام إلى الأبد!
د. إبراهيم عوض
جورج بوش (1796- 1859م) الذى نتكلم عنه الآن هو أحد أجداد الرئيس الحالىّ للولايات المتحدة الأمريكية، وكان واعظا قسيسا، وأستاذا للغة العبرية والآداب الشرقية بجامعة نيويورك، وترك وراءه عددا من الدراسات التى تدور حول أسفار العهد القديم، إلى جانب الكتاب الذى وضعه فى سيرة سيد الأنبياء والمرسلين بعنوان "The Life of Mohammed; Founder of the Religion of Islam, and of the Empire of the Saracens"، وهو الكتاب الذى نتناوله هنا بالدراسة، والطبعة التى فى يدى هى طبعة "Harper and Brothers, New York,1844". ويحتوى هذا الكتاب على سردٍ لأحداث السيرة النبوية وتحليل لشخصية النبى صلى الله عليه وسلم من وجهة نظر عدائية ترى فيه عليه السلام دجّالاً دعيًّا وإنسانًا خاطئًا أثيمًا وهرطيقًا نصرانيًّا هيأ الله له الظهور وعبَّد له سبيل الدعوة إلى دين جديد يُضِلّ به النصارى الذين انحرفوا عن سواء السبيل كى ينتقم سبحانه منهم إلى أن يَفِيئوا لسابق عهدهم، وعندئذ يتفكك المسلمون من الداخل ويسقطون من عليائهم ويتركون دينهم ليلتحقوا بدين الصليب الذى يؤلِّه عيسى عليه السلام! وقد ألحق المؤلف بكتابه عدة فصول عن الكعبة والقرآن الكريم ومبادئ الإسلام، إلى جانب تفسيره لنبوءة دانيال ورؤيا يوحنا اللتين يرى فيهما إشارة رمزية إلى الإسلام ورسوله وأتباعه بالمعنى الذى سلفت الإشارة إليه، وكذلك ألوان الأذى التى أَوْقَعَها ولا يزال يُوقِعها دينُ محمد بالكنيسة ورجالها ورعاياها حَسْبَ زعمه الكاذب...إلى أن يقدِّر الله لها أن تعود عن ضلالها الذى ارتكستْ فيه، وساعتَها يتم سقوط المسلمين من الداخل ويهجرون دينهم ويدخلون دين الثالوث، ولا يعود ثمة إسلام ولا يحزنون بعد أن أدى المهمة التى أوجده الله من أجلها. وسوف يكون كلامى هنا عن النبوءة الدانياليّة والرؤيا اليوحانيّة والطريقة التى أوَّلهما بها الكاتب. ومعروف أن كل شىء فى الكتاب المقدس يحيط به شك كبير: بدءا من شخصية كاتب السِّفْر، ومرورًا بالتاريخ الذى كُتِب فيه، وصحة نصه ووثاقته، واللغة التى أُلِّفَ بها، بالإضافة إلى تحديد المعانى التى يتضمنها فى غير قليل من الأحيان...إلخ. ولسنا نحن وحدنا الذين نقول هذا، بل يقوله علماؤهم وباحثوهم وكثير من رجال دينهم. ولن نذهب بعيدا فى التدليل على كلامنا هذا، فالناظر مثلا فى التمهيدات التى تُفْتَتَح بها أسفار الكتاب المقدس فى الترجمة الكاثوليكية، وكذلك التعليقات المثبتة فى آخر كل من العهدين القديم والجديد، يجد مصداق ما نقول. ورغم ذلك، ورغم ما تتصف به نبوءات الكتاب المقدس عموما، وهاتان النبوءتان على وجه الخصوص، من غموضٍ مُرْهِقٍ وعموميةٍ فضفاضةٍ تجعلهما تقبلان أى تفسير يميل إليه هوى المفسِّر، فإن الكاتب يتناول النبوءتين المذكورتين بجِدٍّ دونه كل جِدّ بغض النظر عما تتسم به الطريقة التى يتبعها فى التأويل من سذاجةٍ وطفوليةٍ وتناقضٍ مضحكٍ ونزعةٍ عاميّةٍ خرافيةٍ تُدَابِر العلمَ ومنطقَ العقل، فضلاً عن عدم جَرْيه فى هذا التأويل على وتيرة واحدة، إذ تارةً ما يأخذ الكلامَ فى النص على الحقيقة، وتارةً ينظر إليه على أنه مجاز.
وسوف أبدأ بنبوءة دانيال، وهى النبوءة التى يشتمل عليها الإصحاح الثامن من السفر المسمَّى باسمه. ولكن قبل ذلك يستحسن أن أسوق نبوءة أخرى لذلك الرجل تعطينا فكرة عن طبيعة السِّفْر وما يسوده من غموض وعَثْكَلة وصعوبة فادحة ينوء فى مواجهتها العقل. وهى تغطِّى الفصل السابع من ذلك السِّفْر، وهذا نَصّها: "فِي السَّنَةِ الأُولَى لِبَيْلْشَاصَّرَ مَلِكِ بَابِلَ رَأَى دَانِيالُ حُلْماً وَرُؤَى رَأْسِهِ عَلَى فِرَاشِهِ. حِينَئِذٍ كَتَبَ الْحُلْمَ وَأَخْبَرَ بِرَأْسِ الْكَلاَمِ* قَالَ دَانِيالُ: كُنْتُ أَرَى فِى رُؤْيَاىَ لَيْلاً، وَإِذَا بِأَرْبَعِ رِيَاحِ السَّمَاءِ هَجَمَتْ عَلَى الْبَحْرِ الْكَبِيرِ* وَصَعِدَ مِنَ الْبَحْرِ أَرْبَعَةُ حَيَوَاناتٍ عَظِيمَةٍ، هَذَا مُخَالِفٌ ذَاكَ* الأَوَّلُ كَالأَسَدِ وَلَهُ جَنَاحَا نَسْرٍ. وَكُنْتُ أَنْظُرُ حَتَّى انْتَتَفَ جَنَاحَاهُ وَانْتَصَبَ عَنِ الأرض وَأُوقِفَ عَلَى رِجْلَيْنِ كَإِنْسَانٍ وَأُعْطِىَ قَلْبَ إِنْسَانٍ* وَإِذَا بِحَيَوَانٍ آخَرَ ثَانٍ شَبِيهٍ بِـالدُّبِّ فَارْتَفَعَ عَلَى جَنْبٍ وَاحِدٍ وَفِي فَمِهِ ثَلاَثُ أَضْلُعٍ بَيْنَ أَسْنَانِهِ، فَقَالُوا لَهُ: قُمْ كُلْ لَحْمًا كَثِيرًا* وَبَعْدَ هَذَا كُنْتُ أَرَى، وَإِذَا بِآخَرَ مِثْلِ النَّمِرِ وَلَهُ عَلَى ظَهْرِهِ أَرْبَعَةُ أَجْنِحَةِ طَائِرٍ. وَكَانَ لِلْحَيَوَانِ أَرْبَعَةُ رُؤُوسٍ وَأُعْطِىَ سُلْطَانا* بَعْدَ هَذَا كُنْتُ أَرَى فِى رُؤَى اللَّيْلِ وَإِذَا بِحَيَوَانٍ رَابِعٍ هَائِلٍ وَقَوِىٍّ وَشَدِيدٍ جِدًّا، وَلَهُ أَسْنَانٌ مِنْ حَدِيدٍ كَبِيرَةٌ. أَكَلَ وَسَحَقَ وَدَاسَ الْبَاقِىَ بِرِجْلَيْهِ. وَكَانَ مُخَالِفًا لِكُلِّ الْحَيَوَاناتِ الَّذِينَ قَبْلَهُ. وَلَهُ عَشَرَةُ قُرُونٍ* كُنْتُ مُتَأَمِّلاً بِـالْقُرُون،ِ وَإِذَا بِقَرْنٍ آخَرَ صَغِيرٍ طَلَعَ بَيْنَهَا وَقُلِعَتْ ثَلاَثَةٌ مِنَ الْقُرُونِ الأُولَى مِنْ قُدَّامِهِ، وَإِذَا بِعُيُونٍ كَعُيُونِ الإِنْسَانِ فِي هَذَا الْقَرْنِ وَفَمٍ مُتَكَلِّمٍ بِعَظَائِمَ* كُنْتُ أَرَى أَنَّهُ وُضِعَتْ عُرُوشٌ وَجَلَسَ الْقَدِيمُ الأَيَّامِ. لِبَاسُهُ أَبْيَضُ كَالثَّلْج،ِ وَشَعْرُ رَأْسِهِ كَالصُّوفِ النَّقِىِّ، وَعَرْشُهُ لَهِيبُ نَار،ٍ وَبَكَرَاتُهُ نَارٌ مُتَّقِدَة* َنهْرُ نَارٍ جَرَى وَخَرَجَ مِنْ قُدَّامِهِ. أُلُوفُ أُلُوفٍ تَخْدِمُهُ، وَرَبَوَاتُ رَبَوَاتٍ وُقُوفٌ قُدَّامَهُ. فَجَلَسَ الدِّينُ وَفُتِحَتِ الأَسْفَارُ* كُنْتُ أَنْظُرُ حِينَئِذٍ مِنْ أَجْلِ صَوْتِ الْكَلِمَاتِ الْعَظِيمَةِ الَّتِى تَكَلَّمَ بِهَا الْقَرْنُ. كُنْتُ أَرَى إِلَى أَنْ قُتِلَ الْحَيَوَانُ وَهَلَكَ جِسْمُهُ وَدُفِعَ لِوَقِيدِ النَّارِ* أَمَّا بَاقِى الْحَيَوَاناتِ فَنُزِعَ عَنْهُمْ سُلْطَانُهُمْ، وَلَكِنْ أُعْطُوا طُولَ حَيَاةٍ إِلَى زَمَانٍ وَوَقْتٍ* كُنْتُ أَرَى فِى رُؤَى اللَّيْل، وَإِذَا مَعَ سُحُبِ السَّمَاءِ مِثْلُ ابْنِ إِنْسَانٍ أَتَى وَجَاءَ إِلَى الْقَدِيمِ الأَيَّامِ فَقَرَّبُوهُ قُدَّامَهُ* فَأُعْطِىَ سُلْطَانًا وَمَجْدًا وَمَلَكُوتًا لِتَتَعَبَّدَ لَهُ كُلُّ الشُّعُوبِ وَالأُمَمِ وَالأَلْسِنَةِ. سُلْطَانُهُ سُلْطَانٌ أَبَدِىٌّ مَا لَنْ يَزُولَ، وَمَلَكُوتُهُ مَا لاَ يَنْقَرِضُ* أَمَّا أنا دَانِيالَ فَحَزِنَتْ رُوحِى فِي وَسَطِ جِسْمِى وَأَفْزَعَتْنِى رُؤَى رَأْسِى* فَاقْتَرَبْتُ إِلَى وَاحِدٍ مِنَ الْوُقُوفِ وَطَلَبْتُ مِنْهُ الْحَقِيقَةَ فِي كُلِّ هَذَا، فَأَخْبَرَنى وَعَرَّفَنى تَفْسِيرَ الأُمُورِ:* هَؤُلاَءِ الْحَيَوَاناتُ الْعَظِيمَةُ الَّتِى هِىَ أَرْبَعَةٌ هِىَ أَرْبَعَةُ مُلُوكٍ يَقُومُونَ عَلَى الأرض* أَمَّا قِدِّيسُو الْعَلِىِّ فَيَأْخُذُونَ الْمَمْلَكَةَ وَيَمْتَلِكُونَ الْمَمْلَكَةَ إِلَى الأَبَدِ وَإِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ* حِينَئِذٍ رُمْتُ الْحَقِيقَةَ مِنْ جِهَةِ الْحَيَوَانِ الرَّابِعِ الَّذِي كَانَ مُخَالِفًا لِكُلِّهَا وَهَائِلاً جِدًّا، وَأَسْنَانُهُ مِنْ حَدِيد،ٍ وَأَظْفَارُهُ مِنْ نُحَاسٍ، وَقَدْ أَكَلَ وَسَحَقَ وَدَاسَ الْبَاقِىَ بِرِجْلَيْهِ* وَعَنِ الْقُرُونِ الْعَشَرَةِ الَّتِي بِرَأْسِهِ، وَعَنِ الآخَرِ الَّذِى طَلَعَ فَسَقَطَتْ قُدَّامَهُ ثَلاَثَةٌ. وَهَذَا الْقَرْنُ لَهُ عُيُونٌ وَفَمٌ مُتَكَلِّمٌ بِعَظَائِمَ، وَمَنْظَرُهُ أَشَدُّ مِنْ رُفَقَائِهِ* وَكُنْتُ أَنْظُرُ، وَإِذَا هَذَا الْقَرْنُ يُحَارِبُ الْقِدِّيسِينَ فَغَلَبَهُمْ* حَتَّى جَاءَ الْقَدِيمُ الأَيَّامِ وَأُعْطِىَ الدِّينُ لِقِدِّيسِىِ الْعَلِىِّ، وَبَلَغَ الْوَقْتُ فَامْتَلَكَ الْقِدِّيسُونَ الْمَمْلَكَةَ* فَقَالَ: أَمَّا الْحَيَوَانُ الرَّابِعُ فَتَكُونُ مَمْلَكَةٌ رَابِعَةٌ عَلَى الأرض مُخَالِفَةٌ لِسَائِرِ الْمَمَالِكِ فَتَأْكُلُ الأرضَ كُلَّهَا وَتَدُوسُهَا وَتَسْحَقُهَا* وَالْقُرُونُ الْعَشَرَةُ مِنْ هَذِهِ الْمَمْلَكَةِ هِىَ عَشَرَةُ مُلُوكٍ يَقُومُونَ، وَيَقُومُ بَعْدَهُمْ آخَرُ، وَهُوَ مُخَالِفٌ الأَوَّلِينَ وَيُذِلُّ ثَلاَثَةَ مُلُوكٍ* وَيَتَكَلَّمُ بِكَلاَمٍ ضِدَّ الْعَلِىِّ وَيُبْلِى قِدِّيسى الْعَلِىِّ وَيَظُنُّ أَنَّهُ يُغَيِّرُ الأَوْقَاتَ وَالسُّنَّةَ، وَيُسَلَّمُونَ لِيَدِهِ إِلَى زَمَانٍ وَأَزْمِنَةٍ وَنِصْفِ زَمَانٍ* فَيَجْلِسُ الدِّينُ وَيَنْزِعُونَ عَنْهُ سُلْطَانَهُ لِيَفْنَوْا وَيَبِيدُوا إِلَى الْمُنْتَهَى* وَالْمَمْلَكَةُ وَالسُّلْطَانُ وَعَظَمَةُ الْمَمْلَكَةِ تَحْتَ كُلِّ السَّمَاءِ تُعْطَى لِشَعْبِ قِدِّيسى الْعَلِىِّ. مَلَكُوتُهُ مَلَكُوتٌ أَبَدِىٌّ وَجَمِيعُ السَّلاَطِينِ إِيَّاهُ يَعْبُدُونَ وَيُطِيعُونَ* إِلَى هُنَا نِهَايَةُ الأَمْرِ. أَمَّا أنا دَانِيالَ فَأَفْكَارِى أَفْزَعَتْنِى كَثِيرًا، وَتَغَيَّرَتْ عَلَىَّ هَيْئَتِى، وَحَفِظْتُ الأَمْرَ فِي قَلْبِى".
هذه نبوءة دانيال الأولى. وهى، كما يرى القارئ، كثيرة التفاصيل متداخلة الأحداث غير واضحة المعالم بحيث يمكن أن يفسرها كل إنسان حسبما يحلو له: فمثلا من هو القديم الأيام ذلك الذى لِبَاسُهُ أَبْيَضُ كَالثَّلْجِ، وَشَعْرُ رَأْسِهِ كَالصُّوفِ النَّقِىّ، وَعَرْشُهُ لَهِيبُ نَار،ٍ وَبَكَرَاتُهُ نَارٌ مُتَّقِدَةٌ، وجَرَى وَخَرَجَ نَهْرُ نَارٍ مِنْ قُدَّامِهِ، وتَخْدِمُهُ أُلُوفُ أُلُوفٍ، وَرَبَوَاتُ رَبَوَاتٍ وُقُوفٌ قُدَّامَهُ؟ وماذا كان يفعل هناك؟ وما تلك الحيوانات الأربعة؟ وما معنى تخالُفها ما بين أسد ودب ونمر ورابع لم تحدَّد هويته بين أصناف الحيوانات؟ ثم من هم الملوك الذين ترمز إليهم القرون العشرة؟ ومن هم قدّيسو العلىّ؟ وكيف يغلبهم القرن الصغير رغم ما قيل من أنهم "َيَأْخُذُونَ الْمَمْلَكَةَ وَيَمْتَلِكُونَ الْمَمْلَكَةَ إِلَى الأَبَدِ وَإِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ"؟ وأين ومتى وكيف تمت هذه الغلبة يا ترى؟ ثم كيف لنا أن نصدق ما قيل مرة أخرى عن ملكوت الشعب التابع لقِدِّيسِى العلىّ وكيف أنه سيكون مَلَكُوتًا أَبَدِيًّا، وَجَمِيعُ السَّلاَطِينِ إِيَّاهُ يَعْبُدُونَ وَيُطِيعُونَ ما دام الحبر الذى كُنِبَتْ به النبوءة السابقة الكاذبة عن قِدِّيسِى العَلِىّ أنفسهم ودوام مملكتهم إلى الأبد لم يجفّ بعد؟وهل عرف التاريخ يوما مَمْلَكَةً مُخَالِفَةً لِسَائِرِ الْمَمَالِكِ َأكلت الأرض كُلَّهَا وداستها وسحقتها؟ فما هذه المملكة يا ترى؟ ليُخْبِرْنا المؤرخون والجغرافيون بما عندهم من علم فى هذا السبيل، ولن يفعلوا، لأن مثل هذه المملكة لم يكن لها يوما وجود! وعلى أية حال فهذه الرؤيا الغامضة بتفاصيلها الكثيرة المتداخلة تقبل، كما سبق القول، أى تفسير يعنّ لأى إنسان، فهى كسَمَادِير السُّكارَى التى تتراءى لهم فى خُمَارهم دون أن يكون لها معنى، ومن ثم لا يمكن لعاقل أن يأخذها مأخذ الجِدّ! وينبغى أن نكون على ذكْر من أن كاتب هذا الكلام شخص مجهول حسبما ورد فى التمهيد الذى كتبه للسفر المذكور مترجمو النسخة الكاثوليكية من الكتاب المقدس، وإن كان هؤلاء المترجمون أنفسهم (ويا للعجب العاجب!) قد وصفوه بـ"المؤلف المُلْهَم" مرة، وبـ"المؤلف المقدَّس" مرة أخرى. ترى كيف تُوَاتِى بعضَ الناس نفوسُهم على الثقة بشخص مجهول والنظر إلى هذا الهراء الذى يقوله على أنه وحى مقدس وتنبؤ صادق بالغيب؟ وفى نهاية الكلام يثور السؤال التالى: لماذا يقول دانيال إن أَفْكَاره قد أَفْزَعَتْه كَثِيرًا وَتَغَيَّرَتْ عَلَيه هَيْئَته ما دام السلطان قد رجع كرة أخرى وإلى الأبد لشعبِ قِدِّيسِى العَلِىّ؟ ترى هل فى شىء من هذا ما يُفْزِع القلب ويغيِّر الهيئة؟ أتراه كان يؤثر أن تنهزم شعوب قِدّيسِى العلىّ؟ فهذه هى النبوءة التى يحاول القوم أن يوهمونا بأنها تفسر تاريخ البشرية إلى يوم القيامة. ترى أمن الممكن أن نصدق بوجود مثل هذه النبوءة؟ إن كاتب مادة "Daniel, Book of" فى "JewishEncyclopedia.com" يرى من المحتمل جدا أن يكون كاتب السفر قد استقى هذه الرؤيا من رؤى الأنبياء السابقين، الذين يؤكد أنه لم يكن نبيا مثلهم بل مجرد تلميذ من تلاميذهم ليس إلا، ثم جعلها إطارا لما كان يعرفه قبلا من حوادث تاريخية وقعت بالفعل.
والآن مع النبوءة التى أوردها المؤلف فى كتابه واعتمد عليها (هى و"رؤيا يوحنا") فى الادعاء بأن الكتاب المقدس قد تنبأ بمجىء محمد عليه الصلاة والسلام، ولكن بمعنى غير المعنى الذى يقصده المسلمون: فالمسلمون يقولون، حسبما جاء فى القرآن الكريم، إن الكتاب المقدس قد تنبأ بنبوة الرسول الكريم، أما بوش فيزعم أن النبوءة التى وردت فى ذلك الكتاب إنما تنبأت بمجىء محمد الكاذب المدَّعِى الذى يسخِّره الشيطان فى أغراضه الشريرة ويُضِلّ الله به النصارى ويعاقبهم على يديه جزاءً على ضلالهم وانحرافهم عن دينهم الذى ارتضاه لهم. لقد أورد المؤلفُ هذه الرؤيا كى يوهم قرّاءه السُّذّج أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم ولعن من يفترى عليه الكذب ويحاول التطاول عليه والإساءة إليه كفرا وبهتانا وإجراما، ليس هو الرحمة المهداة للبشرية جمعاء، بل النقمة التى قدّرها الله ليبلو بها النصرانية ثم يقضى عليها بعد أن تؤدى دورها هذا المؤذى وتغيب بعدها إلى الأبد. وهذا نَصّ الرؤيا المذكورة: "فى السنة الثالثة من ملك بيلشاصر الملك ظهرت لى أنا دانيال رؤيا بعد التى ظهرت لى فى الابتداء* فرأيت فى الرؤيا، وكان فى رؤياى وأنا في شوشن القصر الذي فى ولاية عيلام. ورأيت في الرؤيا وأنا عند نهر أولاى* فرفعت عينىّ ورأيت، وإذا بكبشٍ واقفٍ عند النهر، وله قرنان، والقرنان عاليان، والواحد أعلى من الآخر، والأعلى طالعٌ أخيرا* رأيت الكبش ينطح غربا وشمالا وجنوبا فلم يقف حيوان قدامه، ولا منقذ من يده، وفعل كمرضاته وعَظُم* وبينما كنت متأملا إذا بتيسٍ من المعز جاء من المغرب على وجه كل الأرض ولم يمسّ الأرض، وللتيس قرنٌ معتبَرٌ بين عينيه* وجاء إلى الكبش صاحبُ القرنين الذي رأيته واقفا عند النهر وركض إليه بشدة قوته* ورأيته قد وصل إلى جانب الكبش، فاستشاط عليه وضرب الكبش وكسر قرنيه، فلم تكن للكبش قوة على الوقوف أمامه، وطرحه على الأرض وداسه، ولم يكن للكبش منقذ من يده* فتعظَّم تيس المعز جدا. ولما اعتزّ انكسر القرن العظيم وطلع عوضا عنه أربعة قرون معتبرة نحو رياح السماء الأربع* ومن واحد منها خرج قرن صغير وعَظُمَ جدا نحو الجنوب ونحو الشرق ونحو فخر الأراضى* وتعظَّم حتى إلى جند السماوات وطرح بعضا من الجند والنجوم إلى الأرض وداسهم* وحتى إلى رئيس الجند تعظّم، وبه أُبْطِلَتْ المحرقة الدائمة وهُدِم مسكن مقدسه* وجُعِل جُنْدٌ على المحرقة الدائمة بالمعصية، فطرح الحق على الأرض وفعل ونجح* فسمعت قُدّوسا واحدا يتكلم، فقال قدوس واحد لفلان المتكلم: إلى متى الرؤيا من جهة المحرقة الدائمة ومعصية الخراب لبذل القدس والجند مَدُوسِين؟* فقال لى: إلى ألفين وثلاثمائة صباح ومساء، فيتبرأ القدس* وكان لما رأيت أنا دانيال الرؤيا وطلبت المعنى إذا بشبه إنسان واقف قبالتى* وسمعت صوت إنسان بين أولاى فنادى وقال: يا جبرائيل، فَهِّم هذا الرجلَ الرؤيا* فجاء إلى حيث وقفت. ولما جاء خفتُ وخَرَرْتُ على وجهى، فقال لى: افهم يا ابن آدم أن الرؤيا لوقت المنتهى* وإذ كان يتكلم معى كنت مسبِّخا على وجهى إلى الأرض، فلمسنى وأوقفنى على مقامى* وقال: هأنذا أعرّفك ما يكون فى آخر السخط لأن لميعادٍ الانتهاء* أما الكبش الذى رأيته ذا القرنين فهو ملوك مادى وفارس* والتيس العافى ملك اليونان، والقرن العظيم الذي بين عينيه هو الملك الأول* وإذا انكسر وقام أربعة عوضا عنه فستقوم أربع ممالك من الأمّة، ولكن ليس فى قوته* وفى آخر مملكتهم عند تمام المعاصى يقوم ملكٌ جافى الوجه وفاهم الحيل* وتَعْظُم قوّته، ولكن ليس بقوته. يهلك عجبا وينجح ويفعل ويبيد العظماء وشعب القديسين* وبحذاقته ينجح أيضا المكر فى يده ويتعظم بقلبه، وفى الاطمئنان يُهْلِك كثيرين ويقوم على رئيس الرؤساء، وبلا يدٍ ينكسر* فرؤيا المساء والصباح التى قيلت هى حق، أما أنت فاكتم الرؤيا لأنها إلى أيام كثيرة* وأنا دانيال ضَعُفْتُ ونَحَلْتُ أياما، ثم قمتُ وباشرتُ أعمال الملك، وكنتُ متحيّرا من الرؤيا، ولا فاهم".
وبعد أن قرأنا هذا السِّفْر نلاحظ أن ما رأيناه هناك فى الرؤيا السابقة هو نفسه فى روحه وفى خطوطه العامة ما نراه هنا: فالغموض هو الغموض، والعموميات هى العموميات، وكثافة الأحداث والرموز هى هى، فضلا عن أن فى هذه النبوءة ما لا يمكن تصوره، وإلا فكيف يستطيع عقل عاقل أن يقتنع بما جاء فيها من أن القرن الصغير قد "تعظَّم حتى إلى جند السماوات وطرح بعضا من الجند والنجوم إلى الأرض وداسهم* وحتى إلى رئيس الجند تعظَّم وبه أُبْطِلَت المحرقة الدائمة وهُدِم مسكن مقدسه* وجُعِل جند على المحرقة الدائمة بالمعصية فطرح الحق على الأرض وفعل ونجح"؟ إن جند السماء، حسبما يتبادر إلى الذهن، وبخاصة مع اقترانهم بالنجوم، هم الملائكة لا شعب الله المختار كما يقول باطلاً التعليقُ الموجود فى آخر العهد القديم، ذلك الشعبُ الذى تُدَمْدِم أسفارُ الأنبياء، بما فيها سِفْر دانيال، باللعنات والتهديدات الإلهية المنصبّة على رأسه من السماء بحيث لا يمكن أن يكون هو المقصود بـ"جند السماوات"، أما رئيس جند السماوات فهو الله نفسه لا أحد سواه كما يقول مترجمو النسخة الكاثوليكية من الكتاب المقدس فى تعليقاتهم على هذا الإصحاح! فهل ُيْعْقَل أن يتصور مؤمن أن قرنا من القرون بل أن القرون جميعا يمكن أن تتعظم على الله سبحانه وعلى ملائكته؟ إن هذا كلام قد غاب عنه العقل والإيمان تماما فليس إلا هلوسات، أو إن شئت: فتجديفات! إن مثل هذه النبوءة فى عموميتها وإمكان انطباقها على أى شىء وعلى كل شىء لتُذَكِّرنى بما قاله العقاد عن رجل كان يدّعى الإلهام فى أسوان على أيام تلمذته قد حثَّه على أن يهتم اهتماما خاصا بإحدى مواد الدراسة مما دفع الحاضرين إلى حثّ التلميذ الصغير على وجوب تخصيص هذه المادة بمزيد من الاهتمام ما دام الرجل الملهم قد نبهه إلى هذا. لكن الصبىّ الذكىّ أجابهم بأنه أيًّا ما تكن الدرجة التى سيحصل عليها فى امتحان هذه المادة فإن الرجل سوف يستغلها فى الادعاء بأنه كان على حق يوم أن نبهه إلى وجوب إعطائها مزيدا من العناية: لأنه إن نجح فيها بدرجة عالية فسيقول إن هذا راجع إلى تنبيهه إياه إلى أهميتها، وإن كانت الأخرى فسيقول إن الطالب البليد لم يأخذ بنصيحته فلم يهتم بما طلب منه الاهتمام به...وهكذا. والسبب هو أن النبوءة، فيما عدا ما نصَّتْ عليه نصًّا بالاسم، قد صيغت صياغة عامة مبهمة تحتمل، كما قلت، أى شىء وكل شىء!
وأنا لن أقف فى هذه النبوءة إلا عند ما له صلة بديننا لأنه هو الذى يهمنا هنا. إن بوش يزعم أن القرن الصغير هو الإسلام، ودليله على هذا الزعم هو أن الإسلام بدأ صغيرا. أرأيتم تفسيرا تافها وساذجا وأحمق كهذا التفسير؟ ألا يَصْدُق هذا الكلام على أى شىء فى الوجود؟ ألا تبدأ كل المخلوقات من حيوان وإنس ونبات وجماد وفِكْر صغيرةً ضعيفةً ثم تقوى مع الأيام؟ ثم ألا ينطبق هذا على اليهودية والنصرانية أيضا؟ إذن فلم إفراد الإسلام بهذا الكلام كأنه لا يشاركه فيه شىء أو أحد آخر؟ فما رأى القراء لو قلت لهم إن مترجمى الكتاب المقدس الكاثوليك، فى تعليقهم على هذا الإصحاح فى آخر العهد القديم، يفسرون القرن الصغير هنا بأنه أنطيوخس الشهير الذى تولى الحكم فيمن تولَّوْه بعد انقسام مملكة الإسكندر الأكبر عقب وفاته، والذى حارب مصر جنوبا، وفارس شرقا، وغزا فَخْر الأراضى، وهى البلاد اليهودية فى اعتقادهم، كما تنبأ دانيال. وهو نفسه ما جاء فى مادة " Daniel, Book of" فى"JewishEncyclopedia.com"، لكن مؤلفنا الضلالىّ يدّعى أن القرن الصغير هو الإسلام، مع أن الإسلام لم يتوسع جنوبا البتة لأنه لا شىء فى جنوب بلاد العرب إلا المحيط الهندى! أما إن قلنا مع المؤلف إن المقصود بالجنوب هو جنوب بلاد العرب على أساس أن نقطة انطلاق الإسلام هى المدينة وحدها (P. 183) لا بلاد العرب كلها، فلا يمكن فى هذه الحالة أن نصف توسع الإسلام جنوبا بــ"العظيم" حسبما جاء فى النبوءة لأن مجال انتشاره فى جنوب بلاد العرب هو من الضِّيق بمكانٍ كما لا يخفى على أحد. وفضلا عن ذلك فالإسلام لم يقتصر انتشاره وتوسعه على الجنوب والشرق كما جاء فى النبوءة، بل ضمَّ الشمال والغرب أيضا حسبما يعرف كل إنسان: الشمال متمثلا فى الشام وفلسطين وتركيا، ثم شرق أوربا بعد ذلك، والغرب متمثلا فى مصر وبلاد المغرب، ودعنا الآن من شبه جزيرة أيبريا. ومعنى هذا أن تلك النبوءة، إن صدَّقْنا أصلا أنها نبوءة حقيقية، لا يمكن أن تنطبق على الدين الذى أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم.
ثم إن الإسلام هو الدين الوحيد الذى لا يمكن اتهامه بالتعظّم على الله أو على الملائكة، وهذا من الوضوح بحيث لا أظننى محتاجا إلى التدليل عليه، إذ لم يبلغ دين من الأديان هذا المدى الذى بلغه الإسلام وحافظ عليه فى مجال التوحيد وتمجيد العلىّ القدير وإفراده بالعبادة والابتهال، واحترام الملائكة والإيمان بأنهم معصومون لا يخطئون، ولا يمكن أن يعصوا ربهم بل يفعلون كل ما يؤمرون. وهذا من جهة العقيدة، أما من الناحية الشخصية فقد كان الرسول يعرف حدوده تماما مع ربه، إذ كان يستغفر فى اليوم الواحد مائة مرة، وكان كثيرا ما يصوم النهار، ويقوم الليل ويظل فى ابتهالٍ وتسبيحٍ وحَمْدٍ هزيعًا طويلا، كما كان يصف نفسه بأنه يمارس حياته كما يمارسها أى عبد من عباد الله المتواضعين لا ممارسة الملوك المستبدين أو الجبابرة المتألهين، وبأنه ليس إلا ابنًا لامرأة كانت تأكل القديد بمكة. وفى القرآن نقرأ قوله تعالى: "قل: ما كنتُ بِدْعًا من الرسل، وما أدرى ما يُفْعَل بى ولا بكم"، "أفأنت تُكْرِه الناس حتى يكونوا مؤمنين؟"، "لستَ عليهم بمسيطر* إلا من تولَّى وكفَر* فيعذِّبه اللهُ العذابَ الأكبر* إنّ إلينا إيابَهم* ثم إنّ علينا حِسابَهم"، "ليس لك من الأمر شىء أو يتوبَ عليهم أو يعذِّبَهم، فإنهم ظالمون"، "استغفِرْ لهم أو لا تستغفرْ لهم. إن تستغفرْ لهم سبعين مرةً فلن يغفر الله لهم"، "ولو كنتَ فَظًّا غليظَ القلب لانفضُّوا مِنْ حولِك، فاعفُ عنهم، واستغفرْ لهم، وشاورْهم فى الأمر"، "قل: سبحان ربىّ هل كنتُ إلا بشرًا رسولا؟"، "ولو تقوَّل علينا بعضَ الأقاويل* لأخذْنا منه باليمين* ثم لقطعْنا منه الوَتِين* فما منكم من أحدٍ عنه حاجزين". وحتى لو أخذنا بتفسير الكاتب لـ"جُنْد السماء" بأنهم رجال الدين (وبطبيعة الحال فجُنْد السماء لا يمكن أن يكونوا إلا ناسا صالحين أتقياء أنقياء)، فكيف يتسق معه القول بأن الله إنما دَبَّرَ ظهورَ محمد وانتشارَ دينه للانتقام من الكنيسة ورجالها جَرّاءَ انحرافهم عن طريقه المستقيم؟ إن الله عَزَّ وجَلَّ لا ينتقم من الصالحين، حاشاه سبحانه! على أن بلايا كاتبنا الجهول لا تقف عند هذا الحد، إذ إن رجال الدين، كما يفهم من كلامه فى هذا السياق عن بنى إسرائيل وعن مدينة القدس التى سماها: "تاج الجمال وإكليل البهاء لشعب إسرائيل"، هم رجال الدين اليهود (PP. 183- 184)، فأى مصيبة هذه؟ ترى كيف يجرؤ نصرانى أن يقول عن هؤلاء الذين تولَّوْا كِبْر الكفر بعيسى واضطهدوه وصلبوه حسبما يؤمن الكاتب وأمثاله: إنهم "جند السماء"؟ إن هذه وحدها لَلطَّامّة الكبرى! ومع ذلك فقد عاد فتحدث عن الرعاة الروحيين لكنيسة الرب بما يفيد أن المقصود هم رجال الدين النصارى (PP. 184-185)، فيا له من تخبطٍ أعمى! ثم كيف يمكن القول بأن المقصود بلقب "جند السماء" التشريفى هذا هم رجال الدين النصارى الذين يأفك هذا المخرِّف واصفا الرسول الكريم بأنه ليس أكثر من نقمة سلَّطها الله عليهم بما يقتضى أنهم ضالون منحرفون، ومن ثم لا يستحقون أبدا أن يلقَّبوا بذلك اللقب؟
ليس ذلك فحسب، بل إن الكاتب يمضى فيزعم أن "رئيس جند السماء" هو السيد المسيح قائلا إن المسلمين قد تطاولوا عليه وتعظَّموا حسبما تقول النبوءة. يقصد أن الإسلام قد نزل بالمسيح من مرتبة الألوهية إلى مرتبة النبوة التى يحتلّ فيها النبى محمد موقع الزعامة (P. 185). لكن الواقع الذى يفقأ عين كل مكابرٍ دجّال هو أن الرسول والمسلمين لم يحدث أن تطاولوا على السيد المسيح، والقول بخلاف هذا هو كَذِبٌ بَوَاح، إذ الإسلام هو الدين الوحيد الذى دافع عن المسيح عليه السلام وفنّد ما تقوّله اليهود عليه وعلى أمه الطاهرة الشريفة كما يعلمه القاصى والدانى. أما النزول به عليه السلام من مرتبة الألوهية إلى مرتبة النبوة فهو، فى الحقيقة، تبرئة له من تهمة التعظّم على الله سبحانه التى تتحدث عنها الرؤيا والتى لا يمكن أبدا أن تصدق على رسولنا الطاهر الكريم بل على الصورة التى يعتقدها غالبية النصارى فى المسيح عليه السلام، وما هو إلا بشرٌ. أما الله فلا يمكن أن يتجسَّد أو يموت لا على الصليب ولا على غير الصليب، تعالى الله القوىّ الغنىّ الأزلى الأبدى الذى لا يتعب ولا يموت والذى لا أول له ولا آخر عن أن يتجسّد وينحصر فى حيّزٍ محدودٍ من الجسمية والمكانية، أو يعتريه التعب والإرهاق والمرض والفناء، أو يحتاج إلى التعلّم والرضاع والنوم والأكل والشرب والتبول والتغوط، أو تجرى عليه قوانين النموّ والتطور...إلى آخر ما لا يليق بالقادر القاهر سبحانه ولا يمكن أن يطوله شىء منه، وإن ناسب البشر المخلوقين الضعفاء الفانين! ونَصّ تبرئة السيد المسيح من تهمة التطاول على مقام الألوهية موجود فى قوله تعالى: "وإذ قال الله: يا عيسى بن مريم، أأنت قلتَ للناس: اتخِذونى وأُمِّىَ إلهين من دون الله؟ قال: سبحانك! مايكون لى أن أقول ما ليس لى بحق! إن كنتُ قلتُه فقد علمتَه. تعلم ما فى نفسى، ولا أعلم ما فى نفسك! إنك أنت علام الغيوب* ما قلتُ لهم إلا ما أمرتَنى به أَنِ: اعبدوا الله ربى وربَّكم. وكنتُ عليهم شهيدا ما دُمْتُ فيهم. فلما تَوَفَّيْتَنى كنتَ أنت الرقيبَ عليهم، وأنت على كل شىء شهيد* إنْ تُعَذِّبْهم فإنهم عبادك، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم" (المائدة/ 116- 118). وهكذا يتبين أن الطرق مسدودة فى وجه هذا الأفّاق الأفّاك الذى ينفخ الشيطان فى أنفه مُسَوِّلا له أنه يستطيع التطاول على رسول الله صلى الله عليه وسلم والإفلات بجريمته النكراء دون أن يعقّب أحد عليه ويفضح زيفه وإجرامه.
أما قول المؤلف إن الإسلام قد أبطل المحرقة الدائمة فلا أدرى ماذا يريد من ورائه، فليس فى النصرانية محارق كما نعرف. وعلى أية حال فتقديم الأضاحى جزء من شريعة الإسلام فى الحج والعيد الأكبر، لكنها لا تُذْبَح لمجرد إحراقها إرضاءً للذة الشم لدى الله كما يقول العهد القديم (تكوين/ 8/ 21، و17/ 7)، وكأنه سبحانه وتعالى إلهٌ وثنىٌّ مغرمٌ بالدماء والحرائق، بل لإطعام الفقراء والمساكين وبرّ الأصدقاء والأقارب: "لن ينال اللهَ لحومُها ولا دماؤها، ولكن يناله التقوى منكم" (الحج/ 37). وأما هدم مسكن قدس الله فأمر مضحك، إذ إن عبادة الله فى الإسلام هى أنفى عبادة له سبحانه وأنآها عن الشرك والوثنيات وأشدها إخلاصًا لما يليق بجلاله وعظمته، فكيف إذن يزعم هذا الكذاب أن الإسلام قد هدم مسكن قدس الله، وهذه المساجد فى كل مكان لا تتوقف فيها الصلوات والأدعية لحظة من ليل أو نهار؟ بل إن "المسجد" فى الإسلام (أو "مكان قدس الله" بتعبير الرؤيا الدانيالية التى يعض عليها بنواجذه الشيطانية مؤلفُنا الأمريكى المتطاول لغرضٍ شِرّيرٍ حقيرٍ فى نفسه) لا ينحصر فى المعنى الشائع لهذه الكلمة، بل الأرض كلها مسجد حسبما ورد فى كلام سيد البشر عليه الصلاة والسلام، ومن ثم فالمسلم يؤدى صلواته وابتهالاته فى كل زمان وفى كل مكان. أى أن "مكان قدس الله" فى دين محمد عليه الصلاة والسلام مفتوح لا ينغلق أبدا مهما تكن الظروف. وحتى على المعنى الذى يقصده المؤلف الهجّام فإننا نتساءل: هل هُدِمت كنائس النصارى ومعابد اليهود فى بلاد الإسلام؟ كلا، فهذه هى الكنائس والمعابد لا تزال قائمة فى بلاد الإسلام لم يتوقف تجديد القديم منها ولا بناء الجديد الذى لم يكن له وجود من قبل. أى أن الادعاء بأن الإسلام قد "هدم مسكن قدس الله" حتى بهذا المعنى هو ادعاء كاذب خاطئ أيضا.
ثم إن النبوءة التى لا تقنع حتى الأطفال تنصّ على أن العدوان المزعوم على جند السماء ومسكن قدس الله ومحارقه لن يزيد عن ألفين وثلاثمائة يوم من أيامنا هذه العاديّة المكونة من صباح ومساء كما جاء فى الكلام المنسوب لدانيال. ومعنى ذلك أن العدوان المزعوم، حتى لو أخذنا بما يقوله المؤلف وأمثاله بعد أن نعصر عليه عشر ليمونات، قد انتهى منذ دهور طويلة ولم يعد قائما الآن البتّة. وعلى هذا الأساس يفسر مؤلفُ مادة " Daniel, Book of" فى " JewishEncyclopedia.com " الأمرَ قائلاً إن أنطيوخس إبيفانِس قد نجّس هيكل بيت المقدس واستبدل بالمذبح الذى تقدَّم عليه القرابين إلى الله مذبحًا آخر فضّيًّا لتقديم القرابين الوثنية، وهو نفسه ما قاله كاتب مادة "Book of Daniel" فى "The Catholic Encyclopedia" (على موقع "New Advent")، مع تحديد المدة التى استغرقها هذا التعدّى بثلاث سنوات ونصف. كذلك تقول النبوءة إن الملك الجافى الوجه (الذى يفسره بوش على أنه هو الأمة الإسلامية جمعاء) عند تمام مملكته سوف ينكسر بلا يد، وهو ما يؤوِّله الكاتب بما معناه أن أمة الإسلام فى آخر المطاف (أى عندما يؤدِّى الإسلام مهمته الانتقامية التى لم يُخْلَق إلا لها ويتم تأديب الكنيسة فترجع عن انحرافها وتعود لدين الله كرة أخرى ولا يبقى له دور يؤديه) سوف تنهزم وتختفى من تلقاء نفسها دون أن تمتد إليها يد من أعدائها بالتدمير، وإن هذا سيكون عند ابتداء الألفية النصرانية (أى على رأس أحد آلاف السنين من مجىء السيد المسيح) عن طريق دخول المسلمين كلهم فى دين النصارى واعتناقهم الإنجيل (P. 194). ومن الواضح أن هذا أيضا لا حقيقة له، فها هى ذى الصليبية الدولية بالتعاون الأثيم مع الصهيونية العالمية لا تترك أمة الإسلام تنهزم وتختفى من تلقاء نفسها دون أن تمتد إليها يد من أعدائها بالتدمير، بل تخطّط وتدبّر وتعتدى على ديار المسلمين وأعراضهم وثرواتهم وتعمل بكل سبيل على تدمير حاضرهم ومستقبلهم وإنسائهم ماضيهم ومَحْوه من ذاكرتهم، وإشاعة الاضطراب فى مفاهيمهم، وتشكيكهم فى عقائدهم وقِيَمهم، وإفقادهم ثقتهم بأنفسهم. فكيف يراد لنا أن نصدق هذا الكلام، وهو مثل غيره من كلام النبوءة المخرِّفة، لا ينطبق فى قليل أو كثير على أوضاع المسلمين، لا منذ الآن فقط، بل منذ بدأت الحروب الصليبية، بل قبل أن تبدأ الحروب الصليبية؟ ولعل إشارة بوش إلى بداية الألفية التى تتزامن وتدميرُ أمة الإسلام واختفاؤها من على مسرح التاريخ البشرى تساعدنا على فهم ما يجرى فى منطقتنا الآن عند مفتتح الألفية الثالثة بعد ظهور عيسى عليه السلام، وإعلان البابا أن القرن الجديد سيكون قرن النصرانية، وهجوم الصليبية الوحشىّ المدمِّر على بلاد المسلمين. أى أنه لن يكون هناك إسلام بعد الآن فيما يؤمّلون ويخططون، والمسلمون رغم ذلك فى مياه المجارى نائمون! وأخيرا لا ينبغى أن يفوتنا مغزى قول دانيال، بعد أن أوقفه جبريل قبالته وأخذ يشرح له رموز الرؤيا ويفهِّمه إياها، إنه رغم ذلك كله كان يشعر بالحيرة ولا يفهم من الأمر شيئا. وهنا أقول له بملء فمى وبأعلى صوتى: صدقت يا رجل، فهذه ليست إلا أضغاثَ أحلام، وكل ما يحتاجه الإنسان معها هو أن يتغطى جيدا ويعاود الشخير!
ومن هذا كله يتبين لكل ذى عقل أن هذه النبوءة لا تتصل بالإسلام من قريب أو بعيد، ولكن ماذا نفعل مع غُلْف القلوب والعقول الذين ما إن يأتى ذكر الإسلام أمامهم حتى يركبهم ألف عفريت فلا يفهمون شيئا ولا يهتدون سبيلا؟ نعوذ بالله من العفاريت والشياطين ومن كل من له صلة بالشياطين والعفاريت! لكننى أود من القارئ أن يتوقف هنا لحظة ليقارن بين ما نؤمن به نحن المسلمين من أن الله تعالى قد أسس الدنيا على سنّة الاختلاف بين البشر حتى فى الأديان حسبما أكد القرآن الكريم فى قوله تعالى: "ولو شاء ربُّكَ لجعل الناسَ أُمَّةً واحدةً. ولا يزالون مختلفين* إلا مَنْ رحمَ ربُّكّ، ولذلك خلقهم" (هود/ 118- 119)، وقوله سبحانه مخاطبا رسوله الكريم: "ولو شاء ربُّكَ لآمن مَنْ فى الأرض كلُّهم جميعا. أفأنت تُكْرِه الناسَ حتى يكونوا مؤمنين؟" (يونس/ 99)، على حين أن أعداءنا الذين يتهموننا بالإرهاب والعدوان، ونحن منه بَرَاءٌ كبراءة الذئب من دم يوسف، يعملون بكل ما فى مستطاعهم على تدميرنا وإخراجنا من ديننا ظنًّا إجراميًّا منهم أن البشر لا بدّ أن يكونوا كلهم على دين واحد هو دين النصرانية. فهذا هو الفرق بيننا وبينهم: فنحن متسامحون، أما هم فأصحاب تعصب بغيض لا يرى للآخر حقا فى الوجود والحرية، ومع ذلك تراهم يلصقون بنا عيوبهم ودنَسهم. وعلى رأى المثل: "رَمَتْنِى بدائها وانسلّتِ"!
والآن مع رؤيا يوحنا الملقب بـ"اللاهوتى"، وهى رؤيا متناوحة الطول تمتد على مدار اثنين وعشرين إصحاحا كاملا وتجلب الصداع والدوار لمن يسوقه حظه التعيس البئيس إلى قراءتها وتخرجه عن عقله وانضباط فكره لأنها أشبه بالهلاوس منها بأى شىء آخر، إلا أن جورج بوش قد اجتزأ منها بعدة فقرات تَوَهَّم أنها يمكن أن توصله إلى غرضه من الإساءة الدنيئة إلى سيده وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذه هى الرؤيا كلها، وهى تغطى الإصحاح التاسع من السفر المسمى بـ"رؤيا يوحنا اللاهوتى": "ثم بوَّق الملاكُ الخامس فرأيتُ كوكبا قد سقط من السماء إلى الأرض وأُعْطِىَ مفتاح بئر الهاوية* ففُتِح بئر الهاوية فصعد دخان من البئر كدخان أتونٍ عظيم فأظلمت الشمس والجو من دخان البئر* ومن الدخان خرج جراد على الأرض فأُعْطِىَ سلطانا كما لعقارب الأرض سلطان* وقيل له أن لا يضر عُشْبَ الأرض ولا شيئًا أخضرَ ولا شجرةً ما إلا الناس فقط الذين ليس لهم خَتْم الله على جباههم* وأُعْطِىَ ألا يقتلهم بل أن يتعذبوا خمسة أشهر. وعذابه كعذاب عقرب إذا لدغ إنسانا* وفي تلك الأيام سيطلب الناسُ الموتَ ولا يجدونه، ويرغبون أن يموتوا فيهرب الموت منهم* وشَكْل الجراد شِبْه خيلٍ مهيّأة للحرب، وعلى رؤوسها كأكاليلَ شِبْه الذهب ووجوهها كوجوه الناس* وكان لها شعر كشعر النساء وكانت أسنانها كأسنان الأسود* وكان لها دروع كدروع من حديد وصوت أجنحتها كصوت مَرْكَبات خيل كثيرة تجرى إلى قتال* ولها أذنابٌ شِبْه العقارب، وكانت في أذنابها حُمَاتٌ، وسلطانها أن تؤذي الناس خمسة اشهر* ولها مَلاَك الهاوية مَلِكًا عليها. اسمه بالعبرانية أبدّون وله باليونانية اسم أبوليون* الوَيْل الواحد مضى. هو ذا يأتى وَيْْلاَنِ أيضا بعد هذا* ثم بوّق الملاك السادس فسمعتُ صوتا واحدا من أربعة قرون مذبح الذهب الذي أمام الله* قائلا للملاك السادس الذي معه البُوق: فُكّ الأربعة الملائكة المقيدين عند النهر العظيم الفرات* فانفك الأربعة الملائكة المُعَدّون للساعة واليوم والشهر والسنة لكى يقتلوا ثلث الناس* وعدد جيوش الفرسان مئتا ألفِ ألفٍ، وأنا سمعت عددهم* وهكذا رأيتُ الخيل في الرؤيا والجالسين عليها لهم دروعٌ ناريةٌ وأسمانجونيةٌ وكبريتيةٌ، ورؤوسُ الخيل كرؤوس الأسود، ومن أفواهها يخرج نار ودخان وكبريت* من هذه الثلاثة قُتِل ثلث الناس من النار والدخان والكبريت الخارجة من أفواهها، فإن سلطانها هو فى أفواهها وفى أذنابها لأن أذنابها شِبْه الحيّات، ولها رؤوس، وبها تضرّ* وأما بقية الناس الذين لم يُقْتَلوا بهذه الضربات فلم يتوبوا عن أعمال أيديهم حتى لا يسجدوا للشياطين وأصنام الذهب والفضة والنحاس والحجر والخشب التى لا تستطيع أن تُبْصِر ولا تسمع ولا تمشى، ولا تابوا عن قتلهم ولا عن سِحْرهم ولا عن زناهم ولا عن سرقتهم".
وواضح أن هذا الكلام هو أيضًا من العمومية والضبابية بحيث يقبل التأويل على ما يهوى كل إنسان، وقد أوَّله بوش قَسْرًا على أن المقصود به سيد الأنبياء والمرسلين. ولكن قبل أن ندخل فى السخافات والتفاهات التى أمطرنا بها ألفت انتباه القارئ إلى وصفه هو نفسه لكلام يوحنا هنا بقوله إن "الآلية الشعرية التى وراء تلك الرؤيا يُفْتَرَض أنها مأخوذة من كهوف العِرَافة المقدسة عند الوثنيين القدماء، تلك الكهوف التى كان يُظَنّ أنها متصلة بالبحر أو بالهاوية العظيمة والتى كانت تحظى بتقديرٍ خاصٍّ حين تنفث (كما هو الحال فى دلفى) أبخرة مُسْكِرة" (P. 197). وفى هذا الكلام الكفاية بل ما هو أكثر من الكفاية فى التعريف بطبيعة تلك الرؤى وقيمتها، إذ يربطها المؤلف نفسه لا سواه بممارسات الوثنية والأبخرة المُسْكِرة التى تنبعث من مغاور الكهوف، والعياذ بالله. وأول شىء نقف عنده فى هذا التأويل هو قوله إن الشارحين لهذه الرؤيا فى العصر الحديث مجمعون كلهم تقريبا على أن نفخ البوق هنا إشارة إلى ظهور الدجال العربى ودينه الزائف وأتباعه الأفاقين، وأن المقصود بالكوكب الذى هوى من السماء هو محمد نفسه رغم أن ذلك الرمز الأخير إنما يعنى عادةً المعلّمين النصارى المرتدين، وهو ما ينبغى أن يُفْهَم منه أن الإسلام ليس فى الواقع إلا ثمرة لإحدى الهرطقات النصرانية كبدعة آريوس وأمثاله من المنحرفين عن طريق الحق كما زعم (P. 196). ولمن لا يعرف من القراء نذكر له أن آريوس هذا هو من رجال الدين النصارى الأوائل الأطهار الأنقياء الموحِّدين الذين كانوا يرفضون تأليه السيد المسيح ولا يرون فيه أكثر من أنه نبى، ولهذا وصفه المؤلف بأنه مبتدع مرتد! وواضح أن المؤلف يتخبط فى كلامه ويوجه النص على هواه، يساعده فى ذلك أن عبارات النص فضفاضة واسعة تسمح بدخول أى شىء فيها وخروج أى شىء منها، وهو ما يذكِّرنا بضاربات الودع حين تقول الواحدة منهن للمرأة التى تستفتيها فى أمر مستقبلها: "أمامك، يا شابّة، سكة سفر تحقق لك السعادة التى تتطلعين إليها فى خلال نقطتين". وعلى المستمعة الحائرة المسكينة أن تفسر "سكة السفر" بما يعنّ لها ويتوافق وظروفها (وهل يخلو الواحد منا أن تكون أمامه "سِكّة سَفَر" بأى معنى من معانى السِّكَك والسَّفَر؟)، وأن تحدِّد "النقطتين" بدقيقتين أو ساعتين أو يومين أو أسبوعين أو قل: بشهرين أو عامين أو عِقْدين أو قرنين أو دهرين! ومُتْ يا حمار حتى يأتيك العَلِيق! ولماذا لا نقول إن المقصود بالنفخ فى البوق هو ظهور بوش وشيعته ممن يتهجمون على سيد الأنبياء والمرسلين، وإن الكوكب الهاوى فى البئر هو كتابه هذا المفعم بالضلالات والتخريفات والتجديفات، أو إن المراد هو هجوم أمريكا الإجرامى على العالم الإسلامى وانفضاح مزاعمها الكاذبة عن رغبتها فى نشر الحرية فى بلاد العرب والمسلمين وتطهير العالم من مخاطر أسلحة الدمار الشامل الموجودة كذبًا وبهتانًا فى أرض الرافدين؟ وأستطيع أن أستمر من هنا للصبح فى تفسير تلك العبارة دون أن أَكِلّ أو أَمَل،ّ وأن أُورِد كلامًا أَوْجَهَ من كلام جورج بوش بمراحل وأكثر إقناعا من ضلالاته هذه التى لا تدخل عقل عاقل ما دام تفسير النبوءات التى يقال إنها وحى من الله هو من الهوان إلى هذه الدرجة!
ثم من قال له إن دين محمد عليه الصلاة والسلام مأخوذ مما يسميه "هرطقات نصرانية"؟ أعنده برهان بهذا؟ لقد مرَّ حتى الآن أكثر من أربعة عشر قرنا، ولم يستطع أى دعىٍّ أفاكٍ أن يُخْرِج لنا دليلا ولو تافها على أن الرسول الكريم قد تعلم على يد أى من أهل الكتاب أو من غير أهل الكتاب، وإلا فلماذا لم يتكلم أحد من هؤلاء الذين قيل زورا وبهتانا إنهم علَّموه فيقول: "نعم، أنا الشخص الذى تعلم محمدٌ على يدىّ وأخذ منى دينه"، أو يظهر على الأقل أىٌّ من أقاربهم أو من معارفهم ليحدثنا عن هذا التعليم المزعوم؟ لقد قيل كلام عن ورقة وجَبْر ويسار وسلمان الفارسى، بَيْدَ أن التاريخ قد كذّب القائلين بهذا وصكّهم فى وجوههم وأفواههم حين أخبرنا بلسانه الطلق الفصيح أن هؤلاء الأشخاص قد صدّقوا بمحمد وآمنوا به! فإذا كانوا هم أنفسهم قد تبعوه، فكيف يتنطَّع بعض الناس بجعل التابع متبوعًا، والتلميذ أستاذا؟ كما قيل شىء من ذلك عن الراهب بحيرا الذى تذكر "بعض" الروايات أنه عليه السلام قد قابله فى صباه الأول مرة يتيمة فى صحبة عمه أبى طالب والقافلة التى كانا فيها سَفْرَتَهم إلى الشام، فلم يا ترى خَرِس بحيرا وأقارب بحيرا وزملاء بحيرا والذين نفضوا بحيرا والذين رَأَوْا محمدا وهو يتعلم على يد بحيرا فلم يتحدثوا بشىء من ذلك؟ وهذا إن كان لنا أن نصدق هذه الرواية التى يشك فيها حتى نفرٌ من المستشرقين أنفسهم وأن نقتنع بإمكان تلقين صبى صغير لا يتجاوز الثانية عشرة من عمره أصول دين ومعالمه وتشريعاته وآدابه بهذه البساطة وفى دقائق معدودات على طريقة "كيف تتعلم الإنجليزية فى ثلاثة أيام بدون معلِّم؟"؟ (راجع المسألة كلها بالتفصيل فى كتابى: "مصدر القرآن- دراسة فى شبهات المستشرقين والمبشرين حول الوحى المحمدى/ مكتبة زهراء الشرق/ 1417هـ- 1997م/ 104- 127). لو أن الأقراص المدمجة كانت معروفة آنذاك لقلنا إن الراهب الطيب قد زوّد تلميذه الصغير بقُرْصٍ منها ودسَّه فى جيبه على حين غفلة من الموجودين ناصحًا إياه أن يعكف على سماعه براحته فى خلواته وأوقات فراغه بعيدا عن أعين المتلصّصين حتى يعى ما فيه جيدا ويحفظه ويستطيع أن يخترع بنفسه من ثم دينًا جديدا! لكن للأسف الشديد لم تكن مثل تلك الأقراص قد اختُرِعت بعد! يا حرام! لكنْ "خيرها فى غيرها، والجائيات أكثر من الرائحات" كما كان يقول الكابتن لطيف رحمه الله! وعلى أية حال لماذا لم يفضح محمدًا بذلك أىٌّ من أفراد القافلة الذين تأخروا فى الدخول فى دينه وحاربوه فى بداءة أمره؟ لماذا لم يستغلَّ تلك الواقعةَ أبو سفيان أو أبو لهب أو أبو جهل وأمثالهم من زعماء المعارضة الوثنية؟ أو لماذا لم يحرجه بهذا عمُّه أبو طالب نفسه، على الأقل حين اشتدت عليه الضغوط من زعماء قريشٍ مطالبة إياه بالتخلية بينهم وبين ابن أخيه يَرَوْنَ فيه رأيهم ويتخذون من الإجراءات ما يحمى عقائدهم وتقاليدهم التى كانوا يخافون عليها المخاوف من جرّاء دعوته الجديدة؟ أم كيف غاب ذلك عن اليهود الذين كانوا يتربصون بمحمد وبدينه الدوائر ويخططون المؤامرات للإيقاع به فطلبوا من المكيين (الذين ذهبوا يستعينون بهم بغية إحراجه صلى الله عليه وسلم) أن يسألوه عن فتية الكهف والعبد الصالح وذى القرنين ما دام معروفا عنه أنه يتعلم على يد هذا الشخص أو ذاك من أهل الكتاب، ومن ثم فهو حقيقٌ أن يكون عنده علمٌ بهذه المسائل الكتابية ولن تشكِّل له من ثَمَّ أى قدر من الإحراج؟ بل لماذا ذهب المكِّيُّون أصلا للاستعانة بهم وهم يعرفون عنه هذا؟ ثم كيف يا ترى سوَّل الشيطان لجورج بوش أن بمستطاعه إقناعَنا زورًا وضلالاً بأن توحيد محمد النقىّ الكريم هو من مبتدَعات الهراطقة، وأن تثليثه هو وأمثاله إنما هو الحق الذى لا يرضى الله سبحانه وتعالى بشىءٍ سواه؟ إن ذلك قلبٌ تامٌّ للموازين لا يقول به إلا من أضلّه الله على علم، وختم على قلبه وعقله، وجعل على بصره غشاوة! لقد كان الأحرى به أن يعرف أن هذه الرؤيا، إذا لم يكن بد من تصديقها أوّلاً ثم تفسيرها فى ضوء المقارنة بين النصرانية والإسلام ثانيًا، إنما تنطبق، لا على دين محمد التوحيدى الأصيل، بل على دينه هو بتثليثه الذى لا يمكن أبدا أن يكون من وحى السماء. وأخيرا فالذى تَعَلَّمَ الكتب السماوية السابقة ليس هو محمدا بل عيسى عليه السلام، الذى كان يسمع أحبار اليهود فى الهيكل ويسألهم كما حكى ذلك لوقا فى الإصحاح الثانى من إنجيله. فلنتأمل!
وبالمناسبة فهناك من رجال الدين النصارى أنفسهم من يشكِّكون فى أن يكون يوحنا هو صاحب السِّفْر الذى وردت فيه هذه الرؤيا، بل هناك تيار قوى من علمائهم يرفض أصلا أن يكون ذلك السفر إلهامًا سماويًّا. ويمكن الرجوع، فى "The Catholic Encyclopedia"، إلى مادة "Apocalypse" التى جاء فيها أيضا أن الرؤيا كثيرًا ما اتُّخِذَتْ مُتَّكَأً للتنفيس عن التعصب العرقى والكراهية الدينية، ومن ثم وجد فيها كل قوم ما يريدون أن يجدوه: فبعضهم قال إنها تتحدث عن الإمبراطورية الرومانية أو بالأحرى: قيصر، وبعضٌ ثانٍ زعم أن الكلام فيها عن الرسول محمد، وبعضهم قال إن المقصود هو البابا وكرادلته، وبعضٌ أكّذ أن المراد هو نابليون...وهكذا. كذلك نقرأ فى مادة "Revelation of John" من "The International Standard Bible Encyclopedia" على موقع "SearchGodsWord"أن طبيعة "رؤيا يوحنا" وعلاقاتها المتشابكة تجعل منها أصعب كتب العهد الجديد استعصاءً على التفسير المُرْضِى، فَضْلاً عما نجده فى هذا المقال من استعراض للنظريات المختلفة التى تعاورت تفسير هذه الرؤيا. ومن هذا كله يتبين لنا ما يمتلئ به التأويل الذى قدمه بوش لتلك النبوءة من سخف وتحكم وتفاهة. كذلك فالكواكب التى تهوى من السماء إنما هى الكواكب التى فى طريقها إلى الانطفاء والانتهاء، وهو ما ينسف الفكرة الشيطانية التى يريد بوش أن يوهم بها قراءه من أساسها، إذ إن محمدا ودينه حسب تفسيره يمثلان القوة الجديدة فى بدء ظهورها لا القوة المولِّية فى انهزامها وإدبارها، فكان أخلق بالرمز الذى يومئ إليها أن يكون كوكبًا يطلع بازغًا فى أفق السماء لا كوكبًا ساقطًا فى الهاوية من أعالى الفضاء!
ويستمر الكاتب المسكين فى تخرّصاته وتُرّهاته فيزعم أن الجراد المنتشر فى النبوءة رمز إلى أتباع النبى العربى الذين اكتسحوا العالم. وحجته، أو بالأحرى: شبهته، هو أن الجراد يكثر فى شبه جزيرة العرب، كما أنه قد ورد ذكره فى إحدى الحكايات العربية القديمة بوصفه شعارا وطنيا للإسماعيليين، يقصد العرب والمسلمين (PP. 197- 198). وهذا كله خَبْطٌ لا عقل له ولا فهم ولا منطق: فالجراد ليس مقصورا على بلاد العرب، بل هو آفة يمكن أن تصيب أى إقليم تقريبا. ومنذ أشهر معدودات كانت أسرابه تهجم هجوما كاسحا على وادى النيل آتية من شمال إفريقيا بعد أن بَعُدَ عهدنا به منذ عقود، إذ كنا ونحن أطفال صغار نراه بكثرة فى الحقول، وبخاصة بين حطب القطن، وكنا نمسك به آنذاك ونلعب به فرحين، ومصر ليست من بلاد العرب. أما ورود ذكره فى إحدى الحكايات بوصفه شعارا على العرب فلست أدرى من أين أتى الرجل بهذا الكلام، ولا كيف خطر له هذا التفسير بفرض صحة كلامه. إن هذا، والحق يقال، ليس أكثر من كلام مرسل لا يساوى شيئا، فهو لم يذكر اسم هذه الحكاية ولا أورد النص المشار إليه، والعِلْم لا يعرف مثل هذه البهلوانيات. وحتى لو كان ما يقوله عن تلك الحكاية المجهولة حقيقيا، فهل يصح الاعتماد على شاهد واحد فى تقرير مثل هذه الفكرة الخطيرة؟
وعلى أية حال فهل يصح وصف الرسول الكريم وأتباعه بالجراد المدمِّر؟ صحيحٌ أنه قد عقَّب بأن ذلك الجراد لا يأكل العشب ولا الشجر، لكنْ صحيحٌ أيضا أنه، حسبما قال، يفعل ما هو أسوأ من ذلك كثيرا، إذ يقع أذاه على البشر. لقد جاء الإسلام ليصحح للناس عقائدهم الفاسدة، وينقلهم من الشرك إلى الإيمان الصافى النقى، ويشرع لهم القوانين العادلة، ويأمرهم بمكارم الأخلاق، ويحضهم على فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والتعاون على البر والتقوى، وينهاهم عن الظلم والزنا والسرقة والقتل والكذب والنفاق. فكيف يُوصَف الرسول الذى أتى بهذا الدين المجيد هو وأتباعه بأنهم جرادٌ مدمِّرٌ للبشر؟ الحق أنه قد جاء ليحيى العباد ولينير لهم طريقهم حتى يكونوا على بينة من أمرهم لا ليدمّرهم أو يُعَمِّىَ عليهم. ثم إنه لم يكن يَمَسّ أحدا بأذى لا ممن "ليس فى جباههم ختم الله" كما جاء فى النبوءة ولا ممن فى جباههم هذا الختم، ما داموا لم يبدأوه بعدوان كما هو معروف من تعاليم القرآن الكريم وسنّة النبى العظيم وما أُثِر من الوصايا السياسية والحربية عن خلفائه النبلاء الراشدين حسبما هو معروف.
وتمضى النبوءة أو الرؤيا فتقول إنه قد "أبيح للجراد لا أن يقتلهم بل أن يعذبهم خمسة أشهر، وتعذيبه كتعذيب عقرب إذا لدغت إنسانا". ويفسر بوش هذا المقطع قائلا إن "اليوم" فى النبوءات يساوى عاما، وعلى هذا فخمسة أشهر تساوى مائة وخمسين عاما، على أساس أن الشهر ثلاثون يوما. وهذه الشهور الخمسة هى أقصى مدة تستغرقها كارثة الجراد، وهى تناظر المائة والخمسين عاما الإسلامية التى استغرقتها الفتوح الرئيسية من لدن ظهور محمد حتى بناء بغداد(P. 200). وللمرة التى لا أدرى كم نرى الكاتب يتخبط كتخبطات من به مس من جنون: فأولاً أنَّى له بحقّ السماء بأن "اليوم" فى النبوءات يساوى عاما؟ وأين دليله إذن على هذا؟ وأية مصادفة عجيبة يا ترى تلك التى جعلت الفتوح الإسلامية تتوقف عند بناء بغداد بالضبط؟ فأين نضع مثلا الفتوح التى قام بها الغزنويون فى الهند أثناء القرن الحادى عشر الميلادى ثم السلاجقة بعدهم فى القرن الذى يليه، وكذلك الفتوح التى أحرزها العثمانيون فى شرق أوربا فى القرنين الرابع عشر والخامس عشر وأضافوا خلالها الدُّرّة القسطنطينية إلى تاج الإسلام المتلألئ، بالإضافة إلى فتوح نادر شاه الصفوى بعد ذلك فى شبه القارة الهندية؟ وهذا فضلاً عن انتشار الإسلام عن طريق الكلمة والموعظة الحسنة والسلوك النظيف فى مناطق كثيرة جدا من العالم حين لم يفرض عليه أحد خوض المعارك والحروب مما لا يزال جاريا حتى الآن فى أجزاء كثيرة من الكرة الأرضية بما فيها أوربا الغربية وأمريكا نفسها. ثم كيف يتجاهل المؤلف أن الشهر ليس دائما ثلاثين يوما؟ إن نصف شهور السنة ثلاثون، ونصفها الآخر واحدٌ وثلاثون؟ ودَعْنا من شهر فبراير، الذى يكون عادة ثمانيةً وعشرين، ومرةً كلَّ أربع سنوات تسعةً وعشرين. وهذا كله معروف لأجهل إنسان، فكيف بالله تجاهله الكاتب بهذه البساطة؟ وفوق ذلك فهو يحسب المعارك الإسلامية من بداية البعثة المحمدية، على حين أنها لم تبدأ فى الواقع إلا بعد هذا ببضعة عشر عاما كما هو معروف، لأن أولى الغزوات (وهى غزوة بدر) قد وقعت فى العام الثانى للهجرة، والهجرة لم تتم إلا بعد أن مضى على بعثة الرسول الكريم ثلاثة عشر عاما. فانظر أيها القارئ إلى ذلك الألمعىّ وما اقترفه من تدليسات حسابية للوصول بها، فيما يتوهم، إلى إقناعنا بقدرة "يوحنّاه" على التنبؤ بالغيب على مدى آلاف السنين، وربما إلى أبد الآبدين!
ثم إن النبوءة تقول إن مدة العذاب التى كتبها الله على الناس سوف تكون خمسة أشهر، وهذا أيضا خطأ فى خطإ، إذ إن حكم المسلمين للأمم التى كانت يوما ما نصرانية ثم دخلت فى الإسلام لم يتوقف بعد الخمسة الأشهر المزعومة، بل ما زال مستمرا حتى الآن، وسوف يستمر مدة أخرى لا يدرى مداها إلا الله سبحانه، وربما تمكث إلى الأبد. فما القول فى هذا أيضا؟ كما أن تفسيره لما جاء فى الرؤيا من أن عذاب الجراد الإسلامى للبشر يشبه لدغ العقارب بأن ذلك رمز إلى ما فعله المسلمون بالأمم التى حكموها إنما هو افتراء وضلال، فحُكْم المسلمين رغم كل ما يمكن أن يوجَّه إليه من انتقاد هو أحسن حكم فى التاريخ، فهم لم يعرفوا إكراه أحد على دينهم كما فعل الغرب ببعض الشعوب التى احتل بلادها، ولا مارسوا الإبادة الجماعية التى أنزلها الغرب بعدد من الأمم التى ساقها قضاؤها للوقوع تحت سلطانه، ولا نزحوا ثروات البلاد التى حكموها كما صنع الغرب بثروات البلاد التى تولَّى أمرها، بل انصهروا فى تلك الأمم وعاش الفريقان معا على الحلوة والمرّة. أما زعم الكاتب بأن قول صاحب المنام إنه "فى تلك الأيام سيطلب الناسُ الموتَ ولا يجدونه، ويرغبون أن يموتوا فيهرب الموت منهم" من الممكن أن يكون المقصود به المسلمين الذين كتب الله لهم النصر السريع السهل على أعدائهم لدرجة أن كثيرا منهم يتمنَّوْن الشهادة فلا يجدونها، وأن هذا هو معنى قوله تعالى للمسلمين عقب غزوة بدر، التى كان كثير منهم يتطلعون إلى نيل شرف الشهادة فيها، لكنهم لم ينالوا ما يبتغون للسبب الآنف ذكره (PP. 200- 201)، فهو ضَرْبٌ فى بَيْداء الوهم والجهل، فالآية المذكورة ليس لها أية صلة بغزوة بدر، بل نزلت عقب غزوة أُحُد، كما أنها تدل على نقيض المعنى الذى فهمه جورج بوش، إذ هى تشير إلى ما وقع بالمسلمين فى تلك الغزوة من هزيمةٍ وانكسارٍ وسقوطِ عددٍ كبيرٍ من القتلى فى صفوفهم، فنزل القرآن يعاتبهم ويبين لهم أنهم كانوا من فرط حماستهم قبل ذلك يتمنَّوْن الموت (أى الشهادة)، لكنهم حين جاءهم الموت الذى كانوا يتمنَّوْنَه غلبتهم على أنفسهم الحيرة والأحزان. أى أنهم قد لَقُوا الموت على عكس ما فهم كاتبنا اللوذعى، بل إنهم ما زالوا يتمَنَّوْنَ الشهادة ويجدونها فى كل مكان من ديارهم يدنّسه الأعداء الأنجاس بقوات احتلالهم كما هو الحال فى فلسطين وكشمير وأفغانستان والعراق وغيرها، حتى لقد بلغوا فى هذا المضمار أَوْجًا سامقًا لم تعرفه أمة من الأمم يتمثل فى العمليات الاستشهادية التى يحاول الغربيون عبثا، عن طريق فتاوى المذلّة والضلال، إيهامهم بأنها عمليات انتحارية كى يبثوا روح التخذيل فى نفوسهم وينزعوا من أيديهم هذا السلاح العبقرى الذى لا قِبَلَ لهم ولا لأمثالهم به ممن يحبون الحياة حُبًّا جمًّا! وعلى أية حال فإشارة الرؤيا إلى تمنِّى الناس الموت وعدم لقائهم إياه مع ذلك إنما تعنى أنهم قد وصلوا من اليأس إلى درجة بعيدة لا يعودون يطيقون معها الحياة، لكن الأقدار تضنّ عليهم حتى بالموت.
والملاحظ أن كاتبنا، على طريقته البهلوانية فى التأويل، قد فسَّر ما جاء فى "رؤيا يوحنا" عن مشابهة الجراد للخيول بأن المراد بذلك هم العرب، لأن قوتهم فى الخيل والفروسية حسبما يقول، كما أوَّل "الأكاليل" فى العبارة التى تقول إنه كان "على رؤوسها كأكاليلَ شِبْه الذهب" بــ"العمائم" (PP. 201- 202 ). وهذا هو نص الكلام: " وشَكْل الجراد شِبْه خيلٍ مهيّأة للحرب، وعلى رؤوسها كأكاليلَ شِبْه الذهب ووجوهها كوجوه الناس* وكان لها شعر كشعر النساء وكانت أسنانها كأسنان الأسود". وقد رأينا كيف فسَّر هو الجراد بأنه العرب، فضلا عن أنه قد ذكر أنهم كانوا أصحاب شعورٍ منسابةٍ أو مضفورةٍ مثل شعور النساء كما يشير هذا الكلام المنسوب إلى يوحنا (P. 202)، ومن ثم فليس للنص من معنى إلا أن العرب أنفسهم هم الذين يشبهون الخيول، لا أنهم بارعون فى الفروسية وركوب الحصان. كذلك فليس هناك مشابهة بين العمائم والأكاليل حتى يصحّ تأويلها بها كما فعل، إذ أين هذه من تلك؟ أى أن تفسيره هنا هو أيضا كلام لا معنى له ولا منطق فيه كسائر ما يقول. وفوق هذا فلم يعرف العرب الملَكية فى الإسلام كى يقال إنهم هم المقصودون بالعبارة التالية فى الرؤيا المتعثكلة الغامضة التى لا يستطيع الإنسان العاقل أن يميز لها رأسًا من ذَنَب: "ولها مَلاَك الهاوية مَلِكًا عليها. اسمه بالعبرانية أبدّون، وله باليونانية اسم أبوليون" حسبما ادَّعَى صاحبنا (P. 203)، فضلا عن أن يكون اسم ملِكهم المزعوم "أبدّون" أو "أبوليون" (أى "المدمِّر" كما يقول)، لا على سبيل الحقيقة ولا على سبيل المجاز.
ومرة أخرى نجد الكاتب يخلط بين الرمز والمرموز إليه، فبينما رأيناه يؤوّل الخيول بأنها العرب والمسلمون أنفسهم إذا به يأخذ الخيول بمعناها الحرفى فى النص التالى دون تأويل: "ورؤوسُ الخيل كرؤوس الأسود، ومن أفواهها يخرج نار ودخان وكبريت* من هذه الثلاثة قُتِل ثلث الناس من النار والدخان والكبريت الخارجة من أفواهها، فإن سلطانها هو فى أفواهها وفى أذنابها لأن أذنابها شِبْه الحيّات، ولها رؤوس، وبها تضرّ"، إذ يقول إن الترك قد استخدموا المدفعية بكثافة وقوة رهيبة لم تُعْرَف من قبل ضد القسطنطينية، وكانت خيولهم، وهى تتشمَّم سُحُب الدخان الخارجة من فوهات المدافع برائحتها الكبريتية على حدّ وصفه، تبدو وكأنها تنفث النار والدخان والكبريت من أفواهها كما جاء فى النص. أى أن الخيول هنا هى فعلا خيول حقيقية لا تُؤَوَّل بالعرب والمسلمين، مما يدل على أن الرجل لا يلتزم منهجا مفهوما فى تأويل هذه الرؤيا العجيبة غير المفهومة! ويؤكد ذلك أنه يأخذ وصفَ أذناب هذه الخيول الواردَ فى النبوءة على ظاهره أيضا، إذ يقول إن الإشارة إلى التشابه بين هذه الذيول وبين الحيّات يرجع إلى أن الأتراك كانوا يعقدون أذناب خيولهم فى الحرب فتبدو وكأنها حيّات، ورؤوسها هى هذه العُقَد ذاتها (PP. 206- 207)، وذلك بغض النظر عن مدى صحة المعلومة الخاصة بعادة الأتراك فى عقد أذناب خيولهم عند المعارك أَوْ لا، وكذلك عن المبالغة المقيتة فى تحديد عدد من قُتِلوا فى هذه الحروب بثلث الناس مما لا يمكن للعقل أن يهضمه، فإن الحربين العالميتين أنفسهما، على ما هو معروف من شناعتهما وقوة تدميرهما الفظيعة غير المسبوقة، لم تُفْنِيا من الأوربيين (الأوربيين وحدهم) هذه النسبة قط!
وبالمناسبة فبوش يرتكب خطأً تاريخيًّا عندما يزعم أن الأوربيين هم الذين اخترعوا البارود، إذ من المعروف أن البارود اختراع صينى لا أوربى، وأن المسلمين قد سبقوا الأوربيين على الأقل إلى استخدامه فى الحروب. وإلى القارئ هذه السطور التى تؤكد ما أقول، وهى مستقاة من موقع "الإسلام" على المشباك تحت عنوان "البارود": "البارود اسم أطلقه المسلمون على مادة متفجرة تتكون من نترات البوتاسيم أو الصوديم (ملح البارود) والفحم والكبريت. وكان الصينيون والهنود والفرس يستخدمونه في الألعاب النارية فى المناسبات العامة، وكذلك فى مداواة بعض الأمراض. وقد استخدمه المسلمون فى تلك الأغراض أيضا، ولكنهم كانوا أول مَنِ استخدموه في الحرب. وكان المسلمون هم أول مَن أطلق على هذه المادة اسم البارود، وعن طريقهم عرفه الغرب في بلاد البلقان وغربى أوربا. وقد ابتكر المسلمون استخدام هذه المادة في الحروب كقوة دافعة للمقذوفات النارية في القرن السابع الهجرى / الثالث عشر الميلادى. وقد جاء ذكر البارود في المغرب في كتب الكيمياء العربية وفي كتب التاريخ، وتحدث عنه ابن خلدون في تاريخه وهو يتحدث عن حصار السلطان أبى يوسف المرينى لمدينة سجلماسه عام 672 هـ /1274 م . وتحدث عنه الرَّمّاح الطرابلسى في كتاب "الفروسية"، ويعنى به المادة المتفجرة التي يُحْشَى بها المدفع، وذكر تركيبه الكيميائي واصفا إياه بدقة: فهو يتكون من عشرة أجزاء من البارود وجزأين من الفحم وجزء ونصف جزء من الكبريت. وقد تردد ذكر البارود بصفة خاصة فى تاريخ المغرب وفى حروب المسلمين مع الأسبان، كما جاء ذكره فى حروب بابر في الهند. وقد نُسِبَ خطأً استخدامُ ملح البارود إلى الراهب الألمانى برتولد شفاتزر حول عام 755 هـ /1354 م، ثم اكتشف أحد مؤرخى العلوم الغربيين كِتَاب الرَّمّاح، فاعترفوا بفضل المسلمين في ابتكار استخدام مادة البارود في أسلحة المقذوفات النارية قبل الغرب بنحو قرن من الزمــان. ومن المتفق عليه علميا أن البارود عُرِف في الصين، واستخدم في الحروب عند العرب في القرن السابع الهجرى / الثالث عشر الميلادى، ثم نقله الغرب عنهم. كما أكد ذلك في إحدى مخطوطاته العالِمُ الغربىُّ روجر بيكون، الذي وصف البارود وكيفية استخدام العرب له في المدافع. وقد طوَّر الغربُ صناعته في القرن الثانى عشر الهجرى / الثامن عشر الميلادى على يد كل من لافوازييه وإلوينير إيرينيه مما غيَّر أساليب الحروب وأدى إلى تطورها. والبارود في تركيبه الكيميائى المستخدم حديثا يتكون من نيترات البوتاسيوم بنسبة 75 %، والكبريت بنسبة 10 %، والكربون بنسبة 15 %، وهو مزيج سريع الاشتعال لزيادة نسبة البوتاسيوم فيه". وهو نفسه ما نجده فى خطوطه العامة فى مادة "Gun and Gunpowder" فى موقع "silk_road.com"، وكذلك فى مادة "Gunpowder" فى "encyclopedia.com". ويمكن الرجوع أيضا فى هذا الموضوع إلى مقال " صفحة من تاريخ العلوم: البارود والمدافع في الحضارة الإسلامية" لخالد عزب فى موقع "الإسلام أون لاين".
من هذا كله يتضح بأجلى بيان أن جورج بوش قد ضلَّ ضلالا بعيدا فى محاولته التهجم على سيد الرسل والتنقص من مكانته العظيمة التى رفعه الله إليها، وأنه قد ارتكب فى سبيل ذلك كثيرا من التناقضات الفِجّة العارية، وردَّد قدرا كبيرا من الأفكار العاميّة الخرافية والأكاذيب التافهة السخيفة سُخْف عقله وفهمه، ووقع فى عددٍ غير قليل من الأخطاء العلمية والتاريخية، وظن أنه يستطيع إيهامنا بأن هذا الكلام الغامض المضحك العجيب الذى يَعِجّ به النصّان اللذان تناولهما بالتأويل هو وحى إلهى صادق فى التنبؤ بالغيب لأدهارٍ طوال. ويهمنى أن أقف قليلا إزاء تطلعه الشيطانى إلى اختفاء الإسلام من الوجود وتنصُّر المسلمين وهجرانهم التوحيد الذى هداهم الله إليه على يد نبيهم الكريم والتحول عنه إلى ما حاربه قرآنهم وحديث نبيهم من تثليثٍ ترفضه العقول والضمائر وتراه أمرا لا يليق أبدا بجلال الله وعظمته. وهذا التطلع الشيطانى الذى أدار ذلك الرجل كتابه عليه من شأنه أن يفسر لنا الجهد المحموم الذى تمارسه أمريكا وغيرها من دول الغرب فى محاربة الإسلام بقيادة حفيده وسَمِيّه جورج بوش. إنهم يَسْعَوْن إلى تحقيق تأويلهم الشيطانى لــ"رؤيا يوحنا"، ويعملون بكل قواهم وخبثهم وغفلتنا وخيانة الخائنين منا على تقويض ديننا أو على أقل تقدير: إفراغه من مضمونه آملين أن يأتى عليه يوم يسقط من تلقاء نفسه ويصبح أثرا بعد عَيْن وذِكْرَى (مجرد ذِكْرَى) تُرْوَى! إن الخونة منبثّون من حولنا فى كل مكان: ومنهم الحكام الذين يُعِينُون أعداء الإسلام على ضربه ويرددون ما يقوله المستعمرون عن المقاومين الشرفاء الشجعان الذين احتسبوا حياتهم ومالهم وراحة بالهم فى سبيل الله وسبيل الدين والأوطان من أنهم إرهابيون شريرون يعادون الحضارة والحياة ويعشقون الدمار والتقتيل، وما الإرهابيون المدمّرون إلا هؤلاء الشياطين الذين يرسمون المؤامرات ويعملون على تنفيذها مرحلةً بعد مرحلة لإخماد صوت التوحيد. ومنهم أيضا الكتّاب والصحفيون الذين خرجوا من جحورهم وأوكارهم وكشفوا عما تكنّه قلوبهم النجسة الدنسة من غِلٍّ أسود تجاه الإسلام ونبيه ورجاله وتاريخه وحضارته زاعمين أنه فكرٌ بدوىٌّ متخلف، ومشكّكين فى تميزه عن الأديان الأخرى وتفوقه عليها، ومتهمين كل من يهبّ من المسلمين للدفاع عن دينه ضد من يتطاول عليه بأنه يثير الفتن، وما مثيرو الفتن إلا هم، عليهم لعائن الله! ومنهم كذلك المخذّلون الذين يعملون على بث اليأس فى قلوبنا وتثبيط العزائم منا وإقناعنا أن هزيمتنا من أعداء ديننا وأوطاننا أمرٌ مفروغٌ منه ولا مَعْدَى عنه إلى سواه، وأن الحكمة والسلامة فى الاستسلام لأولئك الأعداء والانبطاح أمامهم دون رجولة أو كرامة، والزعم بأنهم إنما جاؤوا إلى بلادنا كى ينشروا فينا الحرية والإصلاح وقيم الحضارة والتنوير ويُخْرِجونا من حالة التخلف المزمنة التى نحن فيها! ومنهم...، ومنهم... مما هو مُشاهَدٌ حولنا بكل قبحه وعُرْيه وفجاجته ودون أن يكلّف أحدٌ نفسَه شيئًا من الاستتار أو التجمل!
وأخيرا فإذا ما أردنا أن نقارن بين النبوءات الكتابية ونظيرتها فى القرآن والحديث راعنا أن النبوءات الإسلامية، على العكس مما جاء عند أهل الكتاب، تتسم بالوضوح والتحديد والتخصيص فلا تتناول كثيرا من التفاصيل المتداخلة المربكة، بل تشير إلى المقصود منها بما لا يقبل الجدال، اللهم إلا فى تعيين الوقت على وجه الدقة: خذ مثلا قوله تعالى: "ألم* غُلِبَت الروم فى أدنى الأرض، وهم من بعد غَلَبهم سيَغْلِبون* فى بِضْع سنين" (الروم/ 1- 4). ترى هل فى هذا الكلام أية عمومية أو ضبابية أو غموض وعثكلة كالذى فى النبوءتين المنسوبتين لدانيال ويوحنا؟ وهل فيه هذا التشابك بين الأحداث أو هذا الطمع فى تفسير التاريخ كله إلى يوم يبعثون؟ كلا، ليس هناك شىء من ذلك. وقس عليه قوله سبحانه فى مراحل الدعوة المبكرة عن الكافرين وتخطيطهم لكسر الإسلام والقضاء عليه فى مهده: "أم يقولون: نحن جميعٌ منتصِر؟* سيُهْزَم الجمعُ ويُوَلُّون الدُّبُر" (القمر/ 44- 45)، وقوله تعالى عن الموضوع ذاته فى بداية المرحلة المدنية: "إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصُدّوا عن سبيل الله، فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرةً ثم يُغْلَبون. والذين كفروا إلى جَهَنّمَ يُحْشَرون" (الأنفال/ 36)، وقوله عز شأنه: "لقد صَدَق اللهُ رسولَه الرؤيا بالحقّ لتَدْخُلُنّ المسجدَ الحرامَ إن شاء الله آمنين محلِّقين رؤوسَكم ومقصِّرين لا تخافون" (الفتح/ 27)، وقوله جَلّ جَلالُه: "هو الذى أَرْسَل رسولَه بالهُدَى ودِينِ الحق ليُظْهِره على الدِّين كله" (التوبة/ 33، والصفّ/ 9)، وقوله عزّ من قائل لرسوله الكريم: "والله يعصمك من الناس"، وتنبؤ الرسول صلى الله عليه وسلم بشيوع الأمن والأمان فى بلاد العرب حتى لا يجد الراعى ما يخشاه على غنمه من المخلوقات سوى الذئب، بعد أن كانت تلك البلاد مشهورة فى الجاهلية بانتشار الفوضى وقطع الطريق، وتبشيره عليه السلام للمسلمين باستيلائهم على كنوز كسرى وقيصر، وفتحهم للقسطنطينية، وبلوغ دينهم ما بلغ الليلُ والنهار، ثم تحذيره لهم بعد ذلك بأن الزمن سيدور دورته فتصيب الذلّة والتفاهة نفوسهم ويصيرون غُثَاءً يشبه غثاء السيل رغم كثرتهم الكاثرة، وحينها سوف تتكالب الأمم عليهم وتتداعى إلى نهشهم كما يتداعى الآكلون على قَصْعة الطعام...وغير ذلك، وهو كثير جِدُّ كثير مما تحقَّقَ كله دون أدنى تخلّف ودون أن يُحْوِج المتأولين إلى ركوب متن البهلوانيات وشطط التناقضات وفجاجة الخرافات! فاعتبروا يا أولى الألباب!