استخدام القوة في السياسة الدولية

صالح خريسات

 ربما كان الشرق الأوسط، المنطقة الوحيدة في العالم، الأكثر عرضة لتدويل قضاياه. فكل الدول الكبرى تسعى للتدخل في شؤونه، بطريقة مباشرة وغير مباشرة.

 وفي المقابل، لم يظهر في المنطقة نظام إقليمي ثابت، يواجه هذا التدخل غير المشروع. وقد جرت محاولات لإنشاء هذا النظام، على أساس

 الوحدة الدينية" الإسلام"، ثم على أساس القومية العربية، إلا أن مثل هذه المحاولات، لم يكتب لها النجاح.

 ولم تنشأ في الشرق الأوسط دولة كبرى، منذ أن غدت الإمبراطورية العثمانية، رجل أوروبا المريض، التي امتدت إلى سنة 1923م. سنة إعلان الجمهورية التركية، وما يتبع ذلك من مظاهر تقسيم المنطقة، ووضعها تحت الاحتلال الأجنبي، لتبدأ رحلة الكفاح من أجل الاستقلال، وليس من أجل الوحدة.

 وكانت محاولة الرئيس المصري الراحل، جمال عبد الناصر "1952-1970"، أحدث محاولة جرت في التاريخ المعاصر، لتنظيم الشرق الأوسط على أساس البعد القومي. وقد اعترضت هذه المحاولة، حكومة إسرائيل، التي بحثت لها عن ذريعة لإسقاط نظام الرئيس جمال عبد الناصر، الذي بدا وكأنه يمثل دولة مستقلة ذات سيادة. وكان قرار التأميم 1956، نقطة البداية التي ارتكزت عليها إسرائيل، في سياستها الرامية إلى تحقيق السيطرة الإقليمية، بالتحالف مع دولة عظمى خارجية.

 وبدأ العدوان الثلاثي على مصر، بعملية قادش الإسرائيلية، يوم29/10/1956، والتي تلتها عملية موسكتير يوم 31/10/1956م، بقيام القوات البريطانية والفرنسية بضرب المطارات المصرية، وبعد ثمان وأربعين ساعة، تمت عملية إنزال بحرية للقوات الإنجليزية، والفرنسية في بورسعيد. ووجهت بريطانيا وفرنسا إنذاراً إلى الرئيس جمال عبد الناصر، باحتلال المدن الواقعة على القناة، ولم يقبل الرئيس عبد الناصر الإنذار، واتخذ قراراً جريئاً، يقضي بأن ينسحب الجيش المصري إلى الضفة الإفريقية من القناة، في خطوة لم تكن محسوبة لقوى التحالف، وأعلن الرئيس المصري، بأن المعركة أصبحت سياسية دولية، بسبب انضمام بريطانيا، وفرنسا، إلى جانب إسرائيل، وطلب من الاتحاد السوفيتي آنذاك، مؤازرته في هذه المعركة. فوجه الرئيس بولفان إلى رؤوساء وزارات بريطانيا، وفرنسا،وإسرائيل، رسائل ثلاث يتهددها بالتدخل السريع، إذا لم تنسحب قواتها فوراً. وتتوقف عن عدوانها على مصر.

 وقدر العرب للاتحاد السوفيتي، موقفه من العدوان الثلاثي على مصر، واعتبروا تهديداته على محمل النصرة للعرب، ضد إسرائيل في ساعة المحنة. ثم تعاقبت الحوادث التاريخية، ووقفت أميركا ضد حليفتيها الطبيعيتين، فرنسا وبريطانيا، وانتصرت لمصر في الأمم المتحدة، وقدم مندوبها اقتراحاً لإنهاء القتال،وجلاء جيوش العدوان عن مصر، فنال هذا الاقتراح أكثرية ساحقة، لأنه يحمل رغبة أميركا.

 ومهما يكن من أمر، فإن قرار التأميم لم يكن هو السبب الحقيقي للعدوان الثلاثي، بقدر ما كان ذريعة للتدخل العسكري، لإسقاط نظام الرئيس المصري جمال عبد الناصر، وإلغاء فكرة تنظيم الإقليم، على أساس قومي في مواجهة إسرائيل. فقد حظي الرئيس عبد الناصر، بتأييد لم ينله زعيم في التاريخ الحديث، وحقق لنفسه زعامة على الصعيد العربي، لم يعرفها غيره.

 فقد كان الرئيس جمال عبد الناصر، خطيب الجماهير العربية، على امتداد مساحة الوطن الكبير، وكان يملك من الثقافة الواسعة، والدراية بهموم الشعب العربي وتطلعاته، ما مكنه من الاستيلاء على قلوبهم، وتحريك مشاعرهم في الاتجاه الذي يميل إليه، ولعل المصطلحات الجديدة، مثل القومية، والرجعية، والرأسمالية، والاستعمار، التي كانت تظهر في خطاباته، عبر إذاعة صوت العرب من القاهرة، تلهب الجماهير العربية، وتمدها بقوة ساحرة لم تعهدها من قبل.

 وحين كانت الإذاعة المصرية، تبث خطاب الرئيس جمال عبد الناصر، كانت الشوارع في المدن العربية، تبدو خالية تماماً من المارة، والناس يتحلقون حول المذياع، للاستماع إلى ما يقوله الرئيس القومي، الذي يسب الرجعية علناً، ويتهم الرأسمالية بالاستيلاء على حقوق الشعب، ويطالب بالحرية والديمقراطية، وكلها مصطلحات جديدة، كأن المواطن العربي يسمعها لأول مرة. وساعد على ذلك أيضاً، صموده للإنذار الفرنسي البريطاني، ورفضه الدخول في مناطق النفوذ، ومقاومته حلف بغداد، ومعركة تحرير قناة السويس، واتفاقية الجلاء، ومعركة عدم الانحياز، وخطواته الجريئة في مقاومة الإقطاع والاستغلال، ومعركة كسر احتكار السلاح، وعقد الاتفاقية الأولى مع تشيكوسلوفاكيا.

 وإذا كان لمثل هذه المواقف الشجاعة، صداها في قلوب الجماهير العربية، المتعطشة إلى الحرية، والديمقراطية، ومظاهر القوة، والنصر، فقد كانت إسرائيل، والدول الغربية، تنظر إلى هذه المواقف، بعين الترقب، والحذر من انتشار الحركات الوطنية، والمد القومي القادم من مصر، فظهرت فكرة احتواء هذا المد، والبحث عن ذريعة لإنهائه. وكانت الدول العظمى الثلاث، بريطانيا، وفرنسا، وأميركا، قد وقعت اتفاقاً بينها عام 1950م، تعهدت فيه بالعمل المشترك، ضد أي محاولة لاحتلال الأرض في المنطقة، باستخدام القوة، على أن تظل إسرائيل محتفظة بالتفوق العسكري، ضد القوى العربية. واتفقت الدول الثلاث على التشاور المستمر، للتأكد من أن شحنات الأسلحة التي تصل إلى الدول المعنية، لا تخل بالتوازن القائم، وكان الأمل أن يتحقق ذلك بصفة مستمرة، عن طريق مصادر السلاح الغربية، والحيلولة دون اقتراب هذه الدول من المعسكر الشرقي. فكانت صفقة السلاح التي وقعتها مصر مع تشيكوسلوفاكيا، قد قلبت الموازين، وغيرت من توازن القوى في المنطقة، لصالح الدول العربية، بزعامة مصر.

 وأعلنت أميركا، أن هذه الصفقة زادت من خطر انتشار أعمال العنف في المنطقة، وأنه يجب التصدي لها بكل حزم. وقالت بريطانيا أن الروس وجدوا طريقاً لاختراق المنطقة، واختاروا أشد المقاومين للشيوعية ليؤيدوه. وكتب رئيس هيئة الدفاع البريطاني، تقريراً عن المنطقة في الشرق الأوسط، وأن الاتحاد السوفيتي قفز فوق حلف بغداد، وهذا المثل يغري الكثير من الدول العربية، بأن تسلك الطريق نفسه، مما يؤدي إلى سباق تسلح غير منظور، ولا يستبعد أن تقوم إسرائيل في الهجوم على مصر، قبل أن يتمكن الجيش المصري من استيعاب أسلحته الجديدة، إذ كان يلزمه التدريب من قبل الخبراء في دول المعسكر الشرقي، وهذا يحتاج إلى بعض الوقت.

 أما إسرائيل، فإن موشيه دايان، رئيس هيئة الأركان آنذاك، أعلن بأن صفقة الأسلحة، قربت من احتمال مهاجمة الجيش المصري، كوسيلة للدفاع عن أمن إسرائيل. ولم يبق في الواقع غير الذريعة، فكان قرار التأميم هو الذريعة للعدوان الثلاثي على مصر، وإن الهدف غير المعلن، هو ضمان تفوق إسرائيل كمحمية غربية في المنطقة.

 ويرى المحللون السياسيون، أن قرار التأميم لم يكن يشكل في حد ذاته، سبباً كافياً لإعلان هذه الحرب، وكان بمقدور الدول المتضررة، أن تراجع مصر، وتجلس على طاولة المفاوضات، بحيث تعمل الأطراف على الوصول إلى حلول وسط، لحل الخلافات القائمة. فالحوار المستمر يضيق من الفجوات الموجودة، وغالباً ما يؤدي إلى تفاهم، يحقق الرغبات الأساسية للأطراف، إذا توافرت لديها النوايا الطيبة،.. ولعل قراءة سريعة في ظاهرة استخدام القوة في ممارسة السياسة الدولية، تظهر أن الأسباب الموجبة لإعلان حالة الحرب، ليس بالضرورة أن تكون كافية، بالنسبة إلى الدول العظمى.

 كما حدث حينما استخدمت بريطانيا قواتها، لاحتلال جزر الفوكلند، وكما استخدمت الولايات المتحدة، قواتها العسكرية في عملية جرينادا، وفي عملية إنزال قواتها على سواحل لبنان. بل إن الحرب العالمية الأولى، لم تكن لها أسباب تذكر، سوى حادثة مقتل ولي عهد النمسا عام 1914م، على يد طالب صربي.

 ومع إسقاط جميع الفوارق بين العمليات، فمن الممكن أن تضيف إليها حروب 1948، 1956، 1967، وحادثة ضرب المفاعل النووي العراقي، وضم مرتفعات الجولان، ومواصلة إنشاء المستوطنات في الضفة الغربية، وغزو لبنان عام 1982م، ثم غزو العراق، واحتلاله بذريعة القضاء على الإرهاب.

 إن جميع هذه العمليات، تشكل في ذاتها ظاهرة واحدة، وهي جنوح الدول العظمى إلى استخدام القوة، في ممارسة السياسة الدولية مع الدول الضعيفة، أو الأقل قوة، على عكس ذلك فيما يحدث بينها من حل مشكلاتها، عن طريق التفاوض، والجلوس على طاولة المحادثات. الأمر الذي يجعلنا أن نتوقع أسوأ من ذلك التدخل، وممارسة القوة في المستقبل، وفي منطقتنا بالذات.