صدمة حرب غزة
هنادي نصر الله
أعترف بأنني أرتعش وأشعر بالتوتر يجري في شراييني، عندما تُكلفني إدارتي بعمل تقرير يشخص حالة مريضٍ ينزف في ظل حصارٍ قاسٍ ومتوحش، أشعر بالألم يعتصر قلبي، وأحاول الإعتذار عن عمله بطريقةٍ مباشرة أو ملتوية، ولكن هيهات، فإن استطعت ـ التحايل ـ على إدارتي وإقناعها بالسماح لي أن أنتقل لموضوعٍ آخر وأترك قصة المريض ليوم الغد، لن أجد مبررًا لي لتأجيله بعد ذلك!!.
لكن الرهبة والصدمة التي تجتاحني كبيرة، والضغط النفسي الذي أتعرض له أكبر من أن أصوره لكم أعزائي القراء، فقد تركتْ في أعصابي الحرب الأخيرة على قطاع غزة مأساة تُشعرني كثيرًا بالذهول والقلق..
عبثًا أحاول أن أحافظ على توازني النفسي والعاطفي وأنا وسط صديقاتي نتسامر، كثيرًا ما أكون جالسةً بينهن جسدًا لكن عقلي يبحث في أمورٍ أخرى!!، أُسائل نفسي الكئيبة " فيما لو تكررّ العدوان ماذا سأفعل؟ هل سأنهض وأتحمل مسئولياتي كما تحملتها أول مرة؟ في أول حربٍ أشهدها في بداية رحلتي الإعلامية التلفزيونية؟
كثيرًا ما أحلم بالقبور، يتطور حلمي في منامي لأتخيل الشهداء وهم يتساقطون تباعًا؛ فيدفنون في القبور جماعات، دون جنازات وداع، كثيرًا ما أستيقظ فأجد نفسي تحلق وتتفحص ملامح شهيدٍ مغوار سقط في حرب غزة الشرسة، أسرحُ أكثر وأبكي وأقول" يا هنادي ماذا دهاك؟"!!.
في أجمل اللحظات وخلال مأدبة غذاء، أجد كل من حولي سعيد، إلا أنا أفكر في غدٍ مجهول!، يا ليتني أعلم ماذا يخبأ لي الغد؟ ليتني أعلم وأريح نفسي من عناء البحث والتفكير، غزة تحترق ومعها تحترق أعصابي، غزة تموت ومعها تارةً تتجمد مشاعري من روع الصدمة، وتارة تثور كالبركان، لستُ أعلم أي مهمة إعلامية كُلفتُ بها في غزة الجريحة والمكلومة؟؟
لستُ أعلم هل يتأثر مجتمعنا الدولي لحالنا؟ أم أن الشقاء والبكاء كُتب لنا وحدنا؟ نبضات قلبي تتسارع، وفي حلقي أشعر باختناق، انقسامٌ مرير يذبحني، وتهديدات العدو الإسرائيلي، تحتم عليّ أن أكون أهلاً للمسئولية، لكنني أخشى شيئًا مجهولاً، وأستذكر ماضيًا قاسيًا عايشته في الحرب وقبل الحرب، عندما كنتُ طفلةً في الخامسة والنصف من عمري، مغادرةً المدرسة إلى البيت؛ وفجأة يصوب جنود الإحتلال فوهات بنادقه نحو رأسي، فيمتلأ زي الوكالة المدرسي بدمائي، وقتها لم أفق من صدمتي إلا بعد أسابيع طويلة، كرهتُ خلالها حي الزيتون الذي أسكنه، وحكم عليّ الأطباء أن أسكن طوال رحلتي مع العلاج في معسكر الشاطئ بغزة، حيث بيت جدي، لعلني أتناسى بشاعة الإصابة التي كانت تطاردني خلال نومي؛ فيصحو أهلي وجيراني على صرخاتي الدامية!!.
يتكرر المشهد هذه الأيام مع المئات بل الآلاف ممن تعرضوا للإصابة والقتل الممنهج من أبرياء شعبي المكلوم، من نسائه وأطفاله وشيوخه، فهل سنشهد مجزرةً أخرى بحق البراءة والأمومة هنا؟ أم سيقف المجتمع الدولي برجالاته ومؤسساته الحقوقية والبرلمانية التي زارت القطاع وتباكت عليه لتقول" لا تكرروا مأساة غزة"؟ هل سنشهد مثل تلك الوقفة؟ أم ستصبح غزة مجددًا مسرحًا للدماء النازفة التي تنقل على الهواء مباشرة دون أدنى مسئولية من العالم المتحضر؟!