جنازة مهيبة في غزة للشهيد المصري ياسر عكاشة

جنازة مهيبة في غزة

للشهيد المصري ياسر عكاشة

شارك الاف الفلسطينيين في غزة بتشييع الشهيد المصري ياسر عكاشة الذي تطوع للقتال ضد العدو الصهيوني وسقط شهيدا في معارك الاقتحام البري وعثر على جثته بعد ثلاثة اسابيع في الركام الذي خلفته الدبابات والطائرات الاسرائيلية على مشارف غزة حيث تبين ان الشهيد عكاشة كان في الصفوف الامامية مع مقاتلي حماس وكان معه مقاتل سعودي

جريدة العربي روت حكاية الشهيد المصري الذي تسلل الى غزة واشترك في القتال واستشهد على ارضها ... وفيما يلي رواية جريدة العربي المصرية

كان الغروب بدأ يكسو وجه القرية بمبانيها التى يغلب عليها طابع العشوائية وشوارعها غير الممهدة، كنا نسير فى شوارعها نتحسس موطئ القدم حتى لا تغوص أقدامنا فيما خلفه المطر كمعظم الشوارع فى مصر.. حتى وصلنا إلى ممر ضيق يتسع بالكاد لمرور اثنين جنبا بجنب. فى نهايته منزل مكسو باللون الأبيض مكون من طابقين وكأنه استعد فى ثوبه الجديد ليستقبل نبأ استشهاد صاحبه.. استعد ليطرق النبأ العظيم أبوابه ونوافذه وكل لبناته.. لينطق بفخر فى وقت خبت فيه القصور بزخرفها وانتكست فيه الأعلام وبقيت راية الجهاد صاحبة الفخر والعزة.. لينطق ويقول أنا الذى شيدتنى يدان كلتاهما فى الجنة مع النبيين والصديقين والشهداء.. هنا كان يسكن ياسر على عكاشة ابن الثلاثين ربيعا.. الشهيد فى عصر خارت فيه الهمم، وانكسرت العزائم.. وضاعت فيه الإرادة.. كان شقيقه الأصغر عطية فى انتظارنا ومعنا ابن عمه وصديقه عبدالعزيز لنلتقى بوالدته التى تعلل عطية فى بادئ الأمر أنها فى حاله نفسية سيئة!!

هى سيدة فى الخمسينات من عمرها ترتدى الخمار كمعظم السيدات المصريات خاصة فى الريف، وعلى عكس قول ابنها عطية بأنها فى حالة سيئة نكتشف بعد المقابلة أنها متماسكة قوية تقول بصوت مترابط بسلاسل من الإيمان والصبر.. أنا لست حزينة.. لكنى أشعر بأن ابنى لا يزال على قيد الحياة لأن الشهيد لا يموت.. وياسر استشهد وهو يدافع عن الإسلام ومقدساته وأرض المسلمين. كلمات تخرج من فمها وهى فى ثبات أم لم تفقد ابنها فلا دموع ولا قلب ينفطر رافضة أى كلمة لمواساتها بل تقول حتى الآن يخيل لى أنى سأجد ياسر يطرق الباب علينا ويدخل رغم ما أذاعته الفضائيات بخبر استشهاده.

لكن كيف كانت حياة ياسر قبل رحيله إلى غزة والانضمام إلى صفوف المجاهدين؟

تقول الأم: كان حنونا محبوبا من أهله ومن جيرانه لم ترتفع عينه على حرمة من حرمات أحد، ينشغل بأكل العيش، يتحرى الحلال والحرام، فاكتسب ثقة الناس من خلال أمانته وصدقه حتى نجح فى تكوين تجارته من خلال فرش متواضع لبيع الفاكهة عند موقف السيارات، بالإضافة إلى أنه قد استأجر محلا صغيرا فى مكان وسط أوغنيمة وانتهى من تجهيزه لكنه أغلقه قبل أن يرحل.. وتستدرك قائله: لم تمنعه تجارته عن أداء فروض الصلاة وصيام النوافل التى كانت فى أولوياته، بل وقيام الليل أحيانا كثيرة، كان يدخل البيت بعد العاشرة مساء وقبل الفجر يستيقظ للقيام وصلاة الفجر وبعدها يقصد باب الله بحثا عن الرزق..

وكان مستقرا فى حياته بل قام بخطبة إحدى الفتيات، كانت حياته ميسورة لا يوجد ما ينغصها فليس عاطلا أو محتاجا..

كان الحديث متقطعا من أهله وجيرانه وأصدقائه من الصعب أن تحصل معلومات منهم بسلاسة، تشعر بأن أمن الدولة قد سبقنا إليهم.. ليحذرهم من الحديث مع أحد وربما كان دوره أقرب إلى دور الأمن الإسرائيلى مع أهالى الشهداء فى غزة!! وربما طالبهم بأن يتبرأوا منه باعتباره كان فى صفوف المجاهدين مع حماس التنظيم الذى تكرهه الأنظمة العربية مع إسرائيل!!

لكن الخوف الذى كان يدب فى أواصر الغالبية لم يمنعنا من أن نجمع الشهادات لنضعها على الورق أمام القارئ ليعرف عن أول شهيد مصرى فى المقاومة الفلسطينية للدفاع عن مقدسات وشرف الأمة فى غزة.. ولنتعرف عن الجوانب الأخرى فى حياة الشهيد ياسر عكاشة.

لم يكن دخول ياسر إلى غزة قاصدا أن يفعل شيئا ايجابيا فى طريق الجهاد فى سبيل الله والوطن والمقدسات الإسلامية فى بيت المقدس هو البداية ولكن البداية ترجع إلى الصبا عندما كان يشاهد ويقرأ من خلال وسائل الإعلام والصحف عن المجازر التى يرتكبها الصهاينة ضد الفلسطينيين وضد المسلمين. تولد فى نفس الصبى حب الجهاد ورغبة نابعة من إيمانه بالله بالاستشهاد فى سبيل الله والوطن. كان يدون على كراساته وهو صبى فى خانة الاسم: الشهيد ياسر عكاشة، ومحل الإقامة إن شاء الله بيت المقدس.

كان يقرأ عما يفعله الصهاينة بالمقدسات الإسلامية وما يرتكبونه من مجازر ضد الفلسطينيين حتى بلغ إجمالى عدد الشهداء خلال السنوات الثمانى الماضية وبعد السلام المزعوم قد وصل إلى 5526 شهيدا منهم ما يزيد على ألف طفل و500 سيدة بينما يمزق الرصاص أجساد نحو 7500 مواطن فلسطينى نصفهم على الأقل يقف فى طابور المعاقين.. كانت أخبار المعتقلين المكدسين بالسجون الإسرائيلية والذين بلغ عددهم خلال تلك المدة 65 ألف معتقل تشبه الخنجر المنغرس فى قلبه. والقسوة التى أدت إلى استشهاد 76 أسيرا تفت فى عضده.. فالأراضى تنتهك حيث سلب اليهود 300 ألف دونم وزرعوا الجدار العازل باقتلاع 1.3 مليون شجرة وهدم 8300 منزل بعد طرد أصحابها.. كان يتابع أخبارا عن أكثر من 40 من الأجنة الذين سقطوا من أرحام أمهاتهن فوق الحواجز التى قطع بها اليهود أوصال الجزء اليسير المتبقى من الأراضى الفلسطينية والتى يصل عددها إلى 630 حاجزا يقبع فوقها الدنس الصهيونى. كانت تلك الأرقام آخر ما قرأه الفتى وتابع بعضه على الفضائيات وفى الصحف.. كان ينتظر أن تتحرك الجيوش لكن وجد نفسه واهما حتى لو ضاعت كل بلاد المسلمين فلن يتحرك أحد.. كانت أفكار الفتى تنفلت أحيانا إلى أصدقائه وذويه فى صورة غضب لكن يعقبه صمت وكأنه يتدبر شيئا.

كان كغيره من الصبيان والشباب وكل مصرى يشعر بالقهر والذل والهوان مع جرائم ترتكب على بعد بضعة من مئات الكيلومترات فى الأرض التى احتلها الصهاينة والمقدسات التى دنسوها ودماء الأطفال والنساء والشيوخ التى أهدروها.. كان شعوره بالهوان يرجع لكونه مكتوف الأيدى. لكن الفرق بين ياسر وبيننا جميعا أنه لم تشغله الدنيا كما تشغل الغالبية من الشباب رغم أنه لم ينس نصيبه منها. فكان يتابع وبعمق ما يجرى من مجازر ومذابح ترتكبها إسرائيل بأسلحتها والعالم بمباركته والعرب بخزيهم وخنوعهم.. وكانت الخطوة الأولى أن يضع لأسرته أسباب الرزق الحلال من تجارته الصغيرة التى كونها كفرش لبيع الفاكهة ولم يلتفت للبحث عن فرصة عمل بشهادته التى حصل عليها من مدرسة الصنايع وضم شقيقه الأصغر عطية الذى كان قد ترك التعليم بدوره بعد وفاة والده منذ الدراسة الابتدائية.. هكذا يقول شقيقه عطية وابن عمه وصديقه عبدالعزيز الذى لم يخصه ياسر بنيته كغيره من أهله قبل الرحيل.. المهم نجحت تجارته واستطاع أن يعول أسرته البسيطة فى رزقها.. الكبيرة فى عددها فهو شقيق أوسط لخمس بنات بجانب شقيقه الأصغر عطية. واستطاع بجهاده فى الدنيا أن يزوج ثلاثا منهن قبل أن يتخذ قرارا منفردا لأن يدخل قائمة المجاهدين لا بلسانه ولا بقلبه فقط بل بيده ودمه.

كان الزمان وقت أن اشتد الحصار حول غزة والتى تختنق من ضربات الصهاينة وغلق المعابر ومنها معبر رفح والموت الذى يحصد أرواح الأبرياء والأطفال التى جفت دروع أمهاتهم بعدما أصبح الخبز عزيزا.. قرر الفتى واختار أن يكون من فتية آمنوا بربهم فزادهم هدى.. وخرج من بلدته أبوغنيمة التى تتبع مركز سيدى سالم فى شمال محافظة كفر الشيخ.. قاصدا الأراضى المقدسة بيت المقدس أولى القبلتين وثانى الحرمين الشريفين قرر أن يكسر حصار خنوع الأنظمة العربية التى امتلأت كروشها بالملذات وقلوبها ونفوسها بحب الدنيا فسكنها الوهن.. قرر ياسر ابن الرابعة والعشرين أن يقول للعالم ليست مصر التى تبقى بينما المقدسات تنتهك والأطفال تذبح ومئذنة الجهاد محطمة من جراء غزو الوهن وحب الدنيا لقلوب وعقول العرب والمسلمين قبل الغزو بالآليات والدبابات والقواعد العسكرية التى حولت أراضى الأمة العربية إلى مناطق يسيطر عليها ويحتلها المستعمر.. بمباركة أنظمة انبطحت وعزائم انكسرت وقلوب تعلقت بالمناصب والكراسى حتى أصبحت قطعة منها متأثرة بها لا مؤثرة فيها.. خرج الفتى دون أن يبلغ أحدا من أهله أو جيرانه أو أصدقائه بعزمه.. قاصدا رفح المصرية.. وتمكن أن يعبر الحدود التى رسمها الاستعمار، بلا وثيقة أو جواز سفر طالبا أن ينضم إلى كتائب المجاهدين ولكن كانت الشروط التى تؤهله هى اختبار عزمه وإيمانه ومن خلال شرط أن يكون حافظا لكتاب الله وتمكن من أن يستكمل حفظه لباقى المصحف الشريف وتم تكريمه فى شهر رمضان الماضى ضمن 2000 حافظ لكتاب الله من جانب إسماعيل هنية رئيس الوزراء الشرعى كان حفظ القرآن الكريم هو جواز الدخول إلى تحقيق حلمه الذى راوده طويلا والذى عاش من أجله وقرر أن يتخلى عن الدنيا بأسرها من أجل أن يناله الجهاد فى سبيل الله ليقترب من الشهادة فى سبيل الله، أنها الأمنية التى تسكن قلوب المؤمنين وأخيرا وصل ياسر إلى هدفه لينضم رسميا إلى كتائب الشهيد عزالدين القسام الجناح العسكرى لحركة حماس ليبدأ تدريباته المكثفة وهو مؤمن بقوله تعالى "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم".. واستمر فى تدريبه بجلد وصبر.. كانت اتصالاته بأهله دائمة لم تنقطع رغم إنكار والدته لذلك، وكان كل كلامه أنه برفح المصرية يعمل فى تجارة الفاكهة وكان قد طلب من والدته بعد شهر واحد من سفره أن تعتذر لأهل خطيبته التى لم يكن قد مر على خطبته لها أكثر من شهرين حتى لا يطول انتظارها.. كان الفتى يعرف ماذا يريد وقد حدد الهدف.. أنبل هدف.. كانت الضربات الجوية لغزة بشكل مفاجئ ووسط الصمت المريب من بعض الأنظمة العربية قد شرخت قلوب الأمة بأسرها ولكن كان ياسر فى الصفوف الأولى مع بدء الهجوم البرى.. كان يشاركه فترة التدريب مجموعة من اثنين من المجاهدين أحدهما مصرى والآخر سعودى كانوا يرتبطون بنفس الهدف أن يبلوا بلاء حسنا وأن يلزموا التصدى لدبابات العدو ومجنزراته حتى ينالوا الشهادة فى سبيل الله.. وظل يتنقل فى المقاومة من موقع إلى آخر مع رفاقه وكانوا جميعهم يحزنون عندما ينجحون فى التصدى للعدو دون أن يستشهدوا حتى جاء يوم عاشوراء وكان صائما واتصل بأهله ليطمئنهم عليه واتصل ببعض أصدقائه أيضا وبعد العشاء كان ومجموعته يتصدى هو رفاقه لآليات صهيونية وظلوا يقاومون حتى جرح أحدهم فتم نقله داخل حديقة ليمون ومع تقدم قوات الصهاينة رفض ثالثهم الجريح أن يبقى ليضمد جراحه فلحق بهم فى المقاومة وهو ينزف وكانت مقاوماتهم بأسلحتهم الخفيفة ويواجهون بصدورهم نيران العدو ليسقط ياسر ورفيقه الجريح وكان الوقت بعد اندلاع الهجوم الصهيونى على غزة بثمانية أيام فقام البطل هو واثنان من زملائه أحدهما مصرى والآخر سعودى بقتل أربعة من الصهاينة وتفجير دبابة بكامل طاقمها ليستشهد زميله الجريح، إلا أن العدو قام بملاحقته هو وزملاؤه بالطيران الإسرائيلى مما أدى إلى استشهاد البطل ومن معه وتم العثور على جثته بعد 15 يوما كاملة دون أى تغيير وتم تشييع جنازته بغزة ودفن فى جباليا ليتم الاتصال بأهله وإبلاغهم بالخبر. الذى تناقلته الفضائيات لينال ياسر ورفاقه ما تمنوه بعد أيام طويلة من الجهاد المستمر دون توقف وكانت الضربات الصهيونية المكثفة من جانب والمقاومة مستمرة حتى تم وقف إطلاق النار ومع تجميع الجثث لدفنها وتحديدا حسب كلام أحد أفراد المقاومة من مجموعة ياسر بعد مرور 15 يوما على نيلهم الشهادة كانت جثته التى بقيت فى العراء كل هذه الأيام دون أن تتحلل بل كانت كما قال عدد من شهود عيان فى اتصال مع أهله وأصدقائه كانت دماؤه الطاهرة لا تزال ساخنة!

ليتم تشييعه ودفن جثمانه مع رفاقه فى جباليا ليسدل الستار على قصة بطل فضل الجهاد على القعود.