وحدة وطنية؟!
وحدة وطنية؟!
صلاح حميدة
( وحدة وطنية) تعبر هذه الكلمات عن ما يطمح إليه شعبياً، من رغبة في توحد الكلمة والموقف بين كافة القوى على الساحة الفلسطينية، لم يتوقف الحوار والاتصال بين الفصائل الفلسطينية في أي يوم من الأيام، حتى في أوج الصراعات بينها، وكانت تجد الفصائل في أغلب الأحيان مخرجاً للصراعات، وإن لم تتفق هادنت بعضها البعض.
كل الصراعات الداخلية الفلسطينية، أو لنقل أغلبها كانت تدور حول آليات إدارة الصراع مع الاحتلال ومن يدعمه من العالم الاستعماري الغربي، ومن أنظمة النفاق العربية، التي كانت تسعى دوما لتطويع المقاومة الفلسطينية، وتدجينها حتى تصبح على المقاس الغربي والاسرائيلي، وكانت تتم بسبب ذلك انشقاقات في التنظيمات، وإغراق أو منع مالي، وحروب إعلامية، ومنع من دخول دول، وتهميش قيادات معينة، وتقريب أخرى، وأحياناً كان يتم تغييب قيادات معينة في سبيل تبوء قيادات أخرى مرتبطة بأجهزة استخبارات دولية وإقليمية لمكان القيادات المغيبة، وغير ذلك الكثير من الأساليب.
لم تكن( الوحدة الوطنية الفلسطينية) تقع على رأس أولويات النظام الرسمي العربي، إلا في حالة واحدة، وهي توحد الفلسطينيين في التنازل عن حقوقهم الثابتة والاعتراف ب(إسرائيل).. منذ بروز حركة حماس على الساحة الفلسطينية، أعلن الصهاينة ومن يدعمونهم من العجم والعرب، أن هؤلاء لا يمكن التفاوض ولا الاتفاق معهم، وكان أول من قال بذلك، شمعون بيريس رئيس الكيان الصهيوني الحالي، ودعا للاتفاق بين الصهاينة اليهود مع الصهاينة من العرب وبعض القوى الدولية، واعتبر أن التحالف بين كل هذه القوى ضد( الاسلام السياسي) أو( الأصولية الاسلامية) هو المقدمة لما أسماه( الشرق الأوسط الجديد).
في تلك الفترة كان من المستهجن أن يقال هذا الكلام عن تحالفات بين هذه الأطراف، ولكن ما تم هذه الأيام، وخاصة أثناء (معركة الفرقان) في غزة، بين هذا التحالف بصورة جلية واضحة للعيان، وتحققت الوحدة التي أرادها شمعون بيريس، فهل تجسدت الوحدة التي أرادها جمهور العرب والمسلمين والفلسطينيين على وجه التحديد؟.
دار الكثير من الحديث واللقاآت الداخلية عن الوحدة الوطنية الفلسطينية، ولكنها لم تتحقق أبداً، حتى جاءت (انتفاضة الأقصى) عام 2000م بعد اقتحام المجرم أرئيل شارون للمسجد الأقصى المبارك، في ظلال تلك الانتفاضة، ظهر أول تشكيل وحدوي فلسطيني بين القوى التي شاركت في الانتفاضة، وسمي حينها( لجنة المتابعة العليا للقوى الوطنية والاسلامية الفلسطينية) ولإضافة كلمة (والاسلامية) قصة، فقد رفضت بعض القوى الفلسطينية أن تعتبر حركتي حماس والجهاد الاسلامي قوى وطنية، وأصرت على تسميتهما بالقوى الاسلامية، وتم لها ذلك، كما حرصت تلك القوى في بداية الانتفاضة على منع حركة حماس من رفع رايات التوحيد، وكانت تصر على رفع العلم الفلسطيني فقط، وهذا يعود - حسب تقديري - لسببين:-
1-رفض تلك الأطراف لأي مظهر يبين أي دور لحركة حماس في الانتفاضة، وحرصها على تمييع وطمس أي دور لحماس.
2- كانت هذه الأطراف تعلم علم اليقين أن حركة حماس إذا ظهرت بحجمها الطبيعي، فإن تلك القوى لن تظهر إلا بالمجهر الالكتروني.
استمرت الانتفاضة، وثبتت حركة حماس نفسها في الساحة الفلسطينية، بريادتها في المقاومة، وأصبحت القوة الرئيسية في الميدان، فيما كانت بعض القوى الفلسطينية المنقرضة تلفظ أنفاسها الأخيرة، وكانت حركة فتح تغرق بصراعاتها الداخلية، التي تطورت إلى صراعات مسلحة بين أجنحتها المختلفة، ووجدت هذه الصراعات ذروتها بعد موت ياسر عرفات الذي كان الشيء الوحيد الذي يجمع عليه غالبية عناصر حركة فتح.
وجد رئيس حركة فتح الجديد(محمود عباس) نفسه في وضع لا يحسد عليه، خاصة بعد محاولة قتله في عزاء ياسر عرفات في غزة،وقتل حينها عدد من حراسه، ولذلك شرع في مفاوضات جادة مع التنظيمات الفلسطينية مجتمعة وعلى رأسها حركة حماس، أكثر التنظيمات قوة وتماسكاً، وجرت كل تلك المفاوضات والاتصالات والحوارات برعاية ورقابة حثيثة من المخابرات المصرية، فقد كان النظام المصري يرقب بحذر وخوف شديد هذا المارد الاخواني الذي ينمو ويقوى ويشتد ساعده على حدوده الشمالية الشرقية، وكان يريد بأي طريقة تحجيم حركة حماس، تمهيداً للقضاء عليها، وتقوية حركة فتح وتجميع صفوفها، لأن حركة - فتح على مشاكلها- تعتبر خيار النظام المصري الوحيد، لأنه أحرق ورقة حركة حماس، ولا يعتبرها (حماس) إلا عدواً يستسيغ التحالف مع إسرائيل ضدها، لأن هذا النظام يعتبر أن أمنه هو الأمن القومي لمصر، ولذلك رأى بإسرائيل حليفاً ضد حركة حماس، وعمل على ترميم وتجميع حركة فتح بأي طريقة لتقف في وجهها وتقضي عليها.
استمرت الحوارات في القاهرة حتى وصل الجميع إلى ما عرف ب(تفاهمات القاهرة) والتي تتلخص ب:-
1-إعادة ترتيب منظمة التحرير الفلسطينية، بحيث تكون ممثلة لكل الطيف الفلسطيني.
2-إجراء انتخابات بلدية وتشريعية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وعلى ضوء النتائج يتم أخذ الحصص التمثيلية في منظمة التحرير الفلسطينية بكل مؤسساتها.
كانت جميع استطلاعات الرأي تظهر أن حركة حماس لن تفوز في الانتخابات، وأن حركة فتح ستكتسحها، ولذلك كان المصريون مطمئنين لفوز حركة فتح، وعملوا على توحيد قائمتي حركة فتح في الانتخابات التشريعية، حتى تحصد فتح فوزاً كاسحاً، فيما خلف الكواليس كان يتم شيء آخر، كانت تعد الخطط للقضاء على المقاومة الفلسطينية بعد الانتخابات، وتصفية القضية الفلسطينية، وهو ما أعلن عنه بالوثائق في مجلة (فانتي فير) وما ثبت بالممارسة على أرض الواقع.
شكل الفوز الساحق لحركة حماس في الانتخابات صدمة لكل الأطراف الدولية والاقليمية والمحلية، ووضعها أمام فرملة كل مشروعاتها التصفوية، ونالت المقاومة الفلسطينية شرعية الارادة الشعبية، وهزم جناح التسوية شر هزيمة، وجرى ما جرى من مشاكل ومشاغبات حتى تم تشكيل ما عرف حينها ب(حكومة الوحدة الوطنية) التي كانت نتاجاً لاتفاق مكة، ولكن هذا الاتفاق لم يكن لينجح، لا هو ولا الحكومة التي تشكلت بناءً عليه، لأن القوى الدولية والاقليمية لم تكن تريده، ولكنها كانت تريد حكومة توافق على الآتي:-
1- الاعتراف باسرائيل.
2- الاعتراف بكافة الاتفاقيات التي وقعتها منظمة التحرير الفلسطينية، وبضمنها اتفاقية أوسلو المشؤومة.
3- نبذ المقاومة( الارهاب).
أي بالمختصر المفيد، استسلام كامل للارادة الاسرائيلية مقابل لا شيء؟!.
انفجرت الاشتباكات الداخلية، وأفضت إلى الوضع الذي عاشته الضفة وغزة، واستمر الحديث عن الوحدة والحوار طوال تلك الفترة، ولكن ذلك كان يصطدم دوماً بالشروط السابقة الذكر، مضافاً إليها رأس حماس على الطاولة.
بعد (معركة الفرقان) التي جرت على أرض غزة، حصل شيء غريب، فقد أصبح مطلب (حكومة الوحدة) مطلباً دولياً وإقليمياً ومن نفس الأطراف التي كانت تقاتل في سبيل منع ذلك، ولكن بعد التمحيص في تفاصيل هذه الدعوات، يلحظ المراقب أن هذه الدعوات ملغومة، وتتركز في عدة محاور:-
1- كل هذه الدعوات والجهود، تهدف إلى استيعاب التداعيات السياسية التي نتجت عن صمود المقاومة الفلسطينية وعلى رأسها حركة حماس.
2- تهدف هذه الجهود إلى منع حماس من قطف ثمار النصر بتمييعه، والادعاء انها لم تكن وحدها في الميدان، وجعلها سواء مع من أطلق طلقتين، أو حتى لم يطلقهما، ومع من طعن المقاومة في ظهرها أثناء المعركة، وهذا يتضح من ما يتم في القاهرة هذه الأيام.
3-بعد عزلة الأطراف التي حاربت المقاومة وانصاعت للمطالب الدولية، وفشل محاولة القضاء على حركة حماس، تسعى هذه الأطراف الدولية لانتشال حلفائها من خسارة كل شيء، وبالتالي تريد أن تلقي إليهم بطوق النجاة من خلال تشكيل هذه الحكومة.
4- تحاول هذه الاطراف ابتزاز حركة حماس من باب إعادة إعمار غزة، من خلال ربط ذلك بتشكيل حكومة وحدة، آملين أن تخضع حركة حماس أمام جوع وتشرد شعبها في القطاع، لأنهم يعلمون أن الورقة الشعبية هي أكثر ما يؤلم حركة حماس.
5-بعد نصر( معركة الفرقان) باتت هذه الأطراف الدولية والاقليمية، أمام خيارين، فإما ترك هذه المقاومة تعزز نموها بلا معوقات، أو محاولة فرملة هذا النمو من خلال مناورات سياسية متعددة، حتى تكسب الوقت من أجل المعركة القادمة، فهذه الأطراف تعتبر تهديد حماس تهديداً استراتيجياً لأمنها القومي، وما يدل على ذلك إرسال هذه الدول لقطع وفرقاطات وطائرات حربية إلى شواطىء غزة، وأخرى لمراقبة المياه الدولية ابتداء ً من الخليج العربي مروراً ببحر العرب إلى المحيط الهندي فالبحر الأحمر والبحر المتوسط، فضلاً عن الجهود المستميتة للنظام المصري لمنع التهريب بكافة أشكاله حتى ولو كان لعبة أطفال؟!.
6- في المحصلة برنامج هذه الحكومة المطروح تشكيلها على حركة حماس، هو في جوهره يخضع للشروط السابقة(شروط الرباعية الدولية).
7- في جيوب هذه الدعوات يلحظ أي مراقب أن الحديث فقط يدور عن طاع غزة، ولا يدور أي حديث عن الضفة، ولا عن منظمة التحرير الفلسطينية، وما يطرح عن قطاع غزة، في جوهره كله أمني، ويهدف لاعادة الأمور في القطاع إلى عام 1996م، الفترة التي كانت فيها المقاومة الفلسطينية في سجون السلطة، فالوحدة هي وحدة السجان والسجين على أرض الوطن؟!.
عند التمحيص في ظاهر الدعوة لحكومة( الوحدة الوطنية) تظهر عدة ألغام في هذه الدعوة، فهي أولاً تضلل السامع، بأن تتبع بجملة(توحيد شطري الوطن) طبعاً هنا يقصد بشطري الوطن الضفة الغربية وقطاع غزة، وهذا يدلل أن أولى خطوات الجمع والوحدة، ستكون على أساس التنازل عن أغلب الوطن، وهو فلسطين من بحرها إلى نهرها؟!.
فكيف نستطيع أن نطلق على هذه الوحدة - إن تمت- ب(الوطنية)؟ فهي تقوم أصلاً على بيع أغلب الوطن مجاناً، ثم المفاصلة بطريقة تجارية على الباقي؟!.
أما إذا اتفقنا على أن نسمي هذه (وحدة) فهي ستكون حقيقة وحدة، ولكنها وحدة الفلسطينيين في بيع أغلب وطنهم، ولذلك لا أعتقد أن هناك إمكانية حقيقية لقيام وحدة وطنية حقيقية، فأساس الوحدة المطلوبة، أساس غير وطني، بل أساس بيع للوطن، وحتى بعد ذلك المطلوب أيضاً قطع رأس المقاومة بعد حرقها جماهيرياً ووطنياً.
ولذلك فالمقاومة الفلسطينية، مدعوة إلى التكاتف والتنسيق بينها، وإقامة وحدة حقيقية فيما بينها، وأما ما يخص بعض القوى التي تضع أصبعاً مع المقاومة، وبقية جسدها في الجانب الآخر، فالمطلوب تخييرها نهائياً بين الخيارين، كما أن قوى المقاومة مطالبة بتوفير الدعم المالي لهذه الأطراف إن اختارت صف المقاومة، لأنها تخضع في تمويلها لسلطة الحكم الذاتي، ويتم ابتزازها من هذا الباب.
لذلك فإن أي طرح ظاهره الوحدة يعرض على المقاومة الفلسطينية، ليس جدياً، وكل الأطراف الدولية والاقليمية والمحلية المعادية للمقاومة، لن تقدم على إعطاء المقاومة حقها في التمثيل في المؤسسات الفلسطينية، وعلى رأسها منظمة التحرير الفلسطينية، لأن هذه الأطراف حسب ما يرى الكاتب الأردني ياسر الزعاترة، وصلت إلى اتفاق مع حليفهم الفلسطيني على تصفية القضية الفلسطينية، بطريقة لن يقبلها أي فلسطيني لا في الداخل ولا في الخارج، ولذلك لن تقبل هذه الأطراف إلا بقطع رأس المقاومة، أو بتوقيعها على بيع فلسطين، أو تخويلها لأحد ما ليقوم بهذا التوقيع.