التمرد الطائفي .. والوطنية المظلومة
أ.د. حلمي محمد القاعود
كان تشييع جنازة المخرج السينمائي والممثل " يوسف شاهين " ، الكاثوليكي الديانة في آخر يوليه 2008م ، ذا دلالة مهمة على شيئين ، الأول دحض ما زعمه غلام يعمل بالصحافة الحكومية وصعد بالتقارير الأمنية من أن الإخوان المسلمين شمتوا في وفاة المخرج الراحل ، ولم يهتموا بها ، مما يعنى ضمنياً أن شعب مصر المسلم متعصب ويكره غير المسلمين ، فالمذكور لا يستطيع أن يُصرّح بذلك ، فمن يريد الإساءة إلى الإسلام أو المسلمين عادة ؛ يمتطى حائط الإخوان المسلمين ، ويفعل ما بدا له .. ولكن شاء ربك أن يخرج قرابة ثلاثة آلاف مشيع أغلبيتهم الساحقة من المسلمين ، وتكتظ بهم الكنيسة الكاثوليكية الأم في قلب القاهرة ، والشوارع المحيطة ، ويضطر جهاز الأمن إلى تكثيف وجوده حفاظاً على مشهد الجنازة المهيب .
الأمر الآخر أن تشييع يوسف شاهين – مهما كان الجدل حوله والخلاف عليه – أثبت أن الشعب المصري المسلم ؛ يمتلك سماحة لا تتوفر لغيره من الشعوب ، وطيبة لا حدود لها ، لدرجة أن البعض يطمع فيه ويمارس سلوكه المنحرف بالادعاء الباطل أو التخطيط الإجرامي ، وهو ما يرد على المرتزقة العملاء الذين يشيعون في العالم أن غير المسلمين مضطهدون في مصر ، ومقموعون ، وبلا حقوق ، ويتم التمييز بينهم في الإدارة والمعاملات والعلاقات الاجتماعية .
لقد زعم أحدهم بصفاقة يُحسد عليها أن غير المسلمين يُعاقبون لوطنيتهم ، وكأن المسلمين لا وطنية عندهم ، وكان وجه العقاب عند المذكور أن الاضطهاد الذي يقع على غير المسلمين ليس اضطهاداً واحداً ولكنه اثنان الأول التهميش والعزل الإجباري على يد النظام ومؤسساته وأجهزته ، والآخر محاولة التذويب في المشروع الإسلامي (!) على يد التيارات الإسلامية التي صنعها النظام (!) واستخدمها ضدهم .
ثم إنه يرى أن جمع توقيعات لإدانة الكاهن المتمرد الأنبا توماس من قبل إسلاميين تمثل عقوبة لوطنيته ! ( وهو كذاب لأن الذي سارع بذلك هو الأستاذ " جمال أسعد عبدا لملاك " المسيحي المصري الذي يرفض التمرد الطائفي ويحاربه ) ويستغرب المذكور إنذار قيادة الكنيسة بوساطة بعض المحامين لمعاقبة الكاهن المتمرد الذي أساء إلى وطنه واحتقره واتهم العرب بأنهم غزاة لهم ثقافة مختلفة عن ثقافة المتمردين الطائفيين .
هذا الصفيق الكذاب – الذي يُدمن الكذب والبذاءة – لا يمكن أن يكون متبعاً لتعاليم المسيح عليه السلام ولا أخلاقه ، لأن المسيح كما قلنا مرارا وتكرارا يدعو إلى المحبة والتسامح – كما يدعو إليها أخوه محمد - صلى الله عليه وسلم – ونحن المسلمين لا يكتمل إيماننا ولا إسلامنا إلا إذا آمنا بالمسيح عليه السلام والإنجيل الذي أُنزل عليه ..
ومن الوصايا العشر في الكتاب المقدس " لا تكذب " ، ولكن المذكور لا يجد في الكذب غضاضة طالما يُحقق أهدافه الخاصة وأهداف المتمردين ، في الحصول على التمويل الحرام ، وتفتيت الوطن وإشعاله بالنار لخدمة الممولين الأشرار .
وإني لأسأله أسئلة بسيطة ليعلم هو أولاً ، إذا كان هناك اضطهاد لغير المسلمين أو لا ..
هل يمكن أن يكون مضطهداً من صار أغنى أغنياء العالم في بلد تحاصره وتضعه بين التهميش والعزل الإجباري والأسلمة على يد التيارات الإسلامية الأصولية – كما يدعى المذكور – من ناحية أخرى ؟
هل يمكن أن تكون هناك فرصة لأقلية مضطهدة أن تمتلك 60 % من التجارة الداخلية ويمتلك 95 % يمثلون الأغلبية الساحقة بقية النسبة ؟
ماذا يعنى أن تهيمن الأقلية غير المسلمة ( 5 % ) على أهم النشاطات الاقتصادية والوظائف المهمة والمهن الممتازة بنسبة تتراوح بين 20 – 60 % ؟
[ 22.5 % شركات تأسست بين 1974 – 1995 ، 20 % شركات المقاولات ، 50 % مكاتب استشارية ، 60 % صيدليات ، و 45 % عيادات طبية ، و 35 % عضوية في غرفتي التجارة الأمريكية والألمانية ، و 60 % عضوية في غرفة التجارة الفرنسية ، 20 % رجال أعمال ، 20 % مديرون بقطاعات النشاط الاقتصادي الحكومي ، 20 % وظائف وزارة المالية ، 25 % مهن ممتازة ( أطباء ، مهندسون ، صيادلة ، أساتذة جامعات .... ] ( لتفصيل أوسع يُراجع كتاب " في المسألة القبطية : حقائق وأوهام " للدكتور محمد عمارة – دار الشروق ) .
هل تستطيع أقلية ضئيلة مضطهدة في أرقى الديمقراطيات العالمية أن تحصل على ذلك ؟
ولو قارنا الأقلية المسلمة في فرنسا – على سبيل المثال – بغير المسلمين في مصر ، من منهما أكثر أمانا ، وأقل تمييزا ؟ ( المرأة المسلمة في فرنسا محرومة بسبب الحجاب من الوظائف الحكومية والحصول على الجنسية وإدخال أولادها إلى المدارس الرسمية بقانون رسمي !! ) .
ما وجه أو وجوه الاضطهاد إذاً بالنسبة لغير المسلمين في مصر المسلمة ؟ هل هو عدم بناء كنائس وفقاً للخط الهمايوني ؟
أولاً : يقرر التقرير الاستراتيجي للأهرام عام 1999م أنه توجد كنيسة لكل 17 ألف مسيحي ويوجد مسجد لكل 18 ألف مسلم .. أي إن النسبة لصالح غير المسلمين !
وقد نجح الابتزاز الذي يمارسه التمرد الطائفي في الإعداد لإصدار ما يسمى قانون دور العبادة الموحد ، وتشي مسودته المقدمة إلى مجلس الشعب بأنه يعرقل بناء المساجد ، ويزرع مصر المسلمة بالكنائس .. فهل هذا عدل ؟ ( في اليونان كان هناك مرشح في الانتخابات النيابية يرفع شعارا يقول : أعطني صوتك أهدم مسجدا !) ( وسلم لي على المحبة ! ) .
ثانياً : الخط الهمايوني ، لم ينفذ بتاتاً ، وصدر لحماية الأرثوذكس من إرساليات التبشير الكاثوليكي البروتستانتي التي راحت تبنى كنائس عديدة في ظل التحرش الاستعماري ، بما يهدد صورة الأرثوذكسية في مصر ، وجاء صدور الخط الهمايوني من الباب العالي العثماني استجابة لمناشدات أرثوذكسية ووقف تمدّد الكنيستين الكاثوليكية والبروتستانتية .
إن اتهام الرئيس السادات والنظام الحالي ووسائل الإعلام المصرية بإدارة حملة ضد شنودة والكنيسة والتلويح بتحذير الدولة وأجهزتها بتحمل المسئولية الكاملة عن الرهبان المحاربين ، والتهديد بأن النصارى ليسوا ضعفاء ، أي أنهم سيقاتلون ، وسيحتمون بالخارج يمثل صفاقة وبجاحة تحتاج إلى حزم من الدولة الرخوة التي تحكم قبضتها على الأغلبية وتقمعها بلا هوادة ، وتقدمها إلى المحاكمات العسكرية ، وفى الوقت ذاته تتساهل مع المتمردين الطائفيين ، وتفتح لهم مجالات الدعاية والصحافة ونشر التعصب وتشويه الإسلام وعقيدته وقيمه ، وتزييف التاريخ وتفسيره على هواهم .
لقد بدأ التمرد مذ تولى شنودة قيادة الكنيسة ، وانطلق من ثقافة مدارس الأحد وتطلع إلى الخارج الاستعماري ، فانضم لمجلس الكنائس العالمي ، الذي لا يخافت بأهدافه التنصيرية الاستعمارية ، وفى سبيل ذلك أضاع استقلال الكنيسة المصرية التي ظلت أربعة عشر قرناً تمثل الوطنية وقيادة الأرثوذكس في العالم . وسأختم بفقرة ليست من كلامي ولكنها من كلام محكمة القضاء الإداري في 3/1/ 1982م حول التظلم الذي قدمه الأنبا شنودة ضد قرار رئيس الجمهورية بعزله من منصبه :
(( إن البابا شنودة خيب الآمال ، وتنكب الطريق المستقيم الذي تمليه عليه قوانين البلاد ، واتخذ من الدين ستارا يخفي أطماعا سياسية ، كل أقباط مصر براء منها ؛ وإذا به يجاهر بتلك الأطماع واضعا بديلا لها على حد تعبيره بحرا من الدماء تغرق فيه البلاد من أقصاها إلى أقصاها ، باذلا قصارى جهده في دفع عجلة الفتنة بأقصى سرعة ، وعلى غير هدى ، في كل أرجاء البلاد ، غير عابئ بوطن يأويه ، ودولة تحميه ، وبذلك يكون قد خرج عن ردائه الذي خلعه عليه أقباط مصر )) !
ماذا بقى للمتمرد الصفيق الذي يتمرغ في أموال الأعداء ؟
لقد ردّ عليه يوسف شاهين الذي خرج من أجله آلاف المسلمين وغير المسلمين !