سيّدة الأوراس
إلى المجاهدة فاطمة انسومر مرة أخرى
الصوت المجدّد عهد الملاحم الأولى
إلى شهرزاد العربية وأخواتها
وهنّ يصارعن ظلمات الغرب
القطار
كمرِّ السَّحابِ
كمَر القطار
يذرَع الأرض نهباً
كعمر السَّنابل
وجهَ النهار
ويلهَث آخره في انبهار
يمدُّ روَاقا على خَافقين
ويغفُو قَليلا كَطفل غرير
ويلقي إلى ما ورَاء المرُوج
خيوطاً كبيض الأمَاني التي فَنيت قبلَ موعدها،
يشهَق الشعر في جفن سنبلَةٍ
كالضياء البَهيج
ثمَّ تذوي المسافَاتُ في لحظَتين اثنتينِ
ويمحُو الظلامُ
سراجَ النهَارْ!
عُد بنا يا قطَار
عُد بنا
لمرابع تبهجها الصَّلواتْ
لمواسم أيقظَ أيامَها الغَافياتْ
في الدَّياجي ابنُ باديس
واخترمَتها سُيُوف الغُزَاةْ
الغزاة الذين أتوا من ورَاء البحَارْ
عُد بنا يا قطَارْ
عُد بنا
لمدائنَ خضرَاء
يحجُبها الدَّم عنا
ويرهقَ حرَّاسها الانتظارْ
يا قطارْ
لجسُورٍ معلَّقةٍ
تتزيَّن منها قسنطينةٌ
ألقُ الشّعْرِ، والرَّمْيِ،
والأمَل المتدفِّقِ مثلَ انهمَار الرُّعودْ
ولسريانةٍ ظلُّها المتمدّدُ
من نبضَات الشَّهيدْ
إلى نبض آخر طفلٍ شَريدْ
ولنَا نحَن بين الأنَام
لَنا همُّنا
ولَنا حُلْمُنا
وشموخُ نبوءتنا
قادماً من عيون الصِّغارْ
رَغمَ نار الحصار ْ
رغمَ حزْنٍ تناسَل في كلِّ قلْبٍ
وفي كُل أيقونة وجدارْ
يا أخي، يا ابنَ أمّي،
إلام ترى يتزاور عنَّا النَّهارْ؟
يا أخي، يا ابنَ أمّي،
أفي كُل دار قتيلُ؟
أفي كُل منعطَفٍ
شاردٌ تتولى سَناه السُّيُولُ؟
أفي كُلِّ زاويَةٍ شَهقةٌ وعَويلُ؟
يئنُّ القَتيلُ
ويجأرُ: يا قاتلي، يا ابنَ أمي !
كلُّ شيء يَزولُ
تمتَّع إذاً بدمائي
تشعُّ كزهْرة ماءِ
تمتَّع بما شِئتَ من حُزننا
ومن حَسرةٍ تستحِمُّ
بأحدَاق آبائنا المكرمين
وقَد قاتَلوا في سَبيل الوطنْ
وقد قُتلوا في سَبيل الوطنْ
وبين الجوانحِ أمنيةٌ كَنسيمِ الصَّباح
سنحيى جميعاً سواسيةً
تحتَ سقفِ الوَطَن
(نموتُ، نموتُ، ويحيى الوطن!)
ستبكي المنازلُ رُوَّادها
وتبكي المساجدُ عُبَّادها
سنمضي...وتمضي...
سترحلُ حتى البلابلُ
حتى السنابلُ
سيرحلُ حتى الشذى والهديلُ
وترحلُ حتى الطُّلُولُ
وتبقى ربوعُ بلادي شامخة الرَّأسِ
يحرسُها مُصحفٌ وصقيلُ
تقولُ لي الأرض: لا عُذر لكْ
قد اغتصبُوني
قد اغتسلُوا بدمائي
وغاصُوا إلى الرُّكبتين
وقد لوَّحوا بي
إلى أن تصَدَّع هذا الفلَكْ
وأنتَ هُنا كالجدار
تنامُ قريرا، وما من قرار
وإخوتُك المتعبُون
ب(ركاَّن) أو (بربروس)
وما الفرقُ؟
ما زال علجٌ شقيٌّ
يظاهرُه الأقربُون البُغاةُ
على أن أظلَّ هُنا في العراءِ
مجرَّدة من ثيابي
ومن مُصحفي وقرابي
ومن كبريائي التي لم يعد لي سواها
من عمامة الأوراسِ
تطلُعُ سيِّدةٌ
تتزيَّنُ بالكلمِ النَّبويِّ
وبالشَّجر الباتنيِّ وبالبندقيَّةْ
تزلزلُ، باسم المهيمن، كلَّ القلاع العصيَّةْ
تقولُ: انهضوا !
منْ دمانا الزَّكيَّةِ تُشرق شمسُ الصَّباح
تقولُ انفُضوا
عن محاجرِكم عجزَكم واركُضوا
واصنعُوا من عزائمِكم
شفراتِ الرِّماح!
من عمامة الأوراس
تطلُع سيِّدة
ما أشدَّ مهابتها!
ما أجلَّ عزيمتها الماضية!
الجِباه انحنَتْ تحتَ عصفِ الرِّياح
وهي سيفٌ توقَّدَ عند سُرادق سعدٍ
يشقُّ الصُّفوفَ
لينهلَ من كبد الطَّاغية
لفاطمة ٍكلُّ هذا الجَمالْ
وهذا الجَلالْ
لفاطمةٍ كلُّ هذا البهاء العَصيِّ
الذي تتفيَّأ في خافقيه الظِّلالْ
لفاطمةٍ كلُّ هذا الشُّموخ
الذي أخطأته، زمَان الجفاف، الرِّجالْ
وهذا الصُّمُود الذي تستحمُّ على ضفّتيه الجبالْ
أعد يا قطارْ
إلى دمنا اللَّحظاتِ الجميلَةَ:
عروة (1) يوقظُ أشواقَهُ
وبريقٌ بعينيه ينبئُ عن زمَن الانتصار
والأميريُّ يسكُبُ نجواه شعرا
والغماريُّ يكتُب بالنَّار :
(خضراءُ تشرقُ …)
يلهبُ حمر المدائن جمرا
ويهدي حدائقَ فرعون قبرا
وعيسى يُدمدمُ كالرِّيح،
يدعُو إلى وحدة تصنعُ المعجزاتْ
وساعي يحدِّثُ عن قريةٍ
في زمان التقحُّم تأكُل لحمَ بنيها
وتبيعُ بكأسٍ من الخمرِ نخوتَها
ودُروعاً من العَاديات تقيها
وصوتُ خليفةَ نهرٌ بعيد القرار
يبشِّر في صَخَب الصَّمت بالعاصفة
وأنا أتأمَّلُ وجهَ زماني:
أوَّلُ الغيثِ قطرٌ
فما آخرُ الغيث؟
قل إنها الرَّاجفة!
ومأمون واليوسُفان يمدُّون للغدِ حبلا
من الكَلمات الوضيئةْ
وأبو راتبٍ يتأوَّه والترمِذيُّ
وأنشودةٌ أرسلتها الدِّماء البريئةْ
تتحدَّى الطُّغاةَ الصغارْ
والطًّغاةَ الكبارْ
عُد بنا يا قطارْ
لافترار النهار
وأعد يا قطارْ
إلى دمنا الشَّجرَ الأخضرا
والمواعيدَ والأملَ الأكبرا
يُزلزلُ إيوانَ كسرى
ويُلجم إسكندرا
أعدْ يا قطار
إلى يومنا الأمسَ
واستبْق للغدِ بعضا
من الأُمنيات الجميلَة:
مملكةً للمساكينِ،
ترنيمةً للبساتينِ،
عُنقودَ حبٍّ ترقرقَ
قافلةً للسَّلام، وديوانَ شعْرٍ
يؤسِّس من صبوات الطُّفولةِ عَرشَ الضِّياء العتيدا
من جراحة الأوراس
تنشرُ سيِّدةٌ للرياح مواعيدَها
ويلوِّحُ منديلُها بيدٍ
ويدٌ، كالحرير، تفُلُّ الحَديدا
وتفتحُ عصراً جديدا
إيلوار والمنديل
لإيلوار أن يُعلن الموتَ أو أن يغنِّي
له أن يؤبِّن (كافروش)
أو أن يُواسيَ (فونتين)
أو أن يُخلِّد (جان دارك) في لوحة من رُخامِ
أو قصيدٍ يُلوِّنُ أسراره (السِّين)
أو يصطفيه جناحُ الحَمامِ
له أن يهنِّئ (دانتون) بالمقصلة
ويُبارك غضبتَه المرْسلة
كَالصَّواعق، من أجلِ فَتح الطَّريقْ
أمام قوافل ذاهلة مُتعبةْ
لهُ أن يردِّد ما جاءَ في (السَّنة المُرْعبة) :
"الرعَاع هناك بمهوى سَحيقْ
ولكنَّ شعبك في ذروة شمسُها لا تزول "
لإيلوار أن يكتُب اسمك
على أذْنِ كلبٍ أليفٍ،
على فروة القطّ،
فوقَ محيَّا الأصِيل،
لهُ أن يدوِّنه فوق جذع صنوبرْ
على وجه دِفترْ
وفوقَ مقاعِد مدرسة مُهملةْ
لهُ أن يخطَّ اسمَكِ المخمليَّ
على خُطوات الجُنود بقلب الظَّلامِ
على رعشَة الثلجِ،
أو فوقَ لسع الضّرامِ
على جبل الحُزن، فوقَ مرايا كثيب مهيلْ
على نبض أرمَلةٍ من بلادي
على حمحماتِ جِيادي
على صَهَوات الصَّهيلْ
على أنَّةٍ في صُدور النخيلْ
وفوقَ ضفائر سُنبُلةٍ وهبت لي جُنوني
وأينع ما بين غضبتها ورضاها رَشادي
له أن يُردّد ما شَاء من كلمَات النِّضالْ
وأن تتكسَّر فوق النِّصال النصالْ
له أن يُنَصِّبَ في ساحة النَّصر ذكرى قتيلْ
يُقاتل من أجلنا، معشرَ البُسطاء
يُقاتل ضدَّ الرَّدَى والضَّياع
وضدَّ عُروش الطُّغاة
ذراعاهُ ممدودتان معاً للحياة
وللزَّهَرات الوضيئةْ
لإيلوار أن يكتُب اسمكْ
على هدب محبُوبة تتحدَّى الرَّصاص
وتبعثُ منديلها القرمزيّ
على ذبذبات المساء
إلى شاعرٍ سامر الحُزنَ، فالبابُ مغلقْ
وبين الأحبَّة والفجرِ حُلْمٌ مُعَلَّقْ
لإيلوار أن يكتُب اسمكْ
على الدَّم أزرقَ.. أزرقَ..
فوقَ النَّدى...والمدى...والورقْ
على صرخة من حَجرْ
على نمنماتِ الصُّورْ
على عبرات المحاربِ،
فوق اخضرار الفُصول،
وفوق بحُيرة حُزنٍ
يُناجي الشراعُ مواويلها في الأصيل الجميلْ
وشهقةِ بدر يخاف الأفُولْ
وفوق حقُول الأرقْ
له أن يخُطَّ اسمك القُدسيَّ
على خدِّ نجم توسَّد صدر الأفُقْ
على بيت شعر تحدَّرَ
كالدَّمع من قسمات الشَّفقْ
على الزَّبد المتناثر في صلوات البحار
على صَرخة الرَّعدِ،
في ومضة البرقِ،
أو فوق وجه المحارْ
على هسهسات الكنائسِ
أو شوق أيقونةٍ من أصابع (فان غوخ)
أو من تراتيل (ميكال أنجلو)
وفوق الدُّروب التي أرَّقتها البنادقُ
فوق المصابيح حين تُنيرُ
وحين تغُورُ
على كل بابْ
على كل نافذةٍ تشتكي طعَنَاتِ الغيابْ
على خُطوات الرحيل،ِ ولحن الإيابْ
على ذكريات الأحبَّة مجلوَّة ًكالنوارسِ أو فوقَ صمت كتابْ
له أن يُقاتل أو أن يُغَنّيَ
من أجل حريّة الفُقراءِ
ومن أجل حُلْم النساءِ
ستبقى نهاراتُ باريس سوداءَ
مثل كوابيسِ راهبةٍ عاشقةْ
ستنتحبُ الشَّمسُ خلف المتاريسِ،
ما دام منديلُ تلميذةٍ تتهجَّى القَصائدَ،
في كلّ منعطف،
كلّ محبرة،
كلّ باقة وردٍ،
كعصفورِ حقْلٍ تُطارِدُهُ الصَّاعقة
لإيلوار أن يعلن الآن في النّاسِ:
حُرِّيتي أنا حُرّيةُ الآخرين
لهذا كتبتُ اسمَك السرمديَّ على كلِّ شيء
فلن ينهضَ اليومَ (كافروش)
لن يمسحَ الشعْرُ آهات (فونتينَ)
مادام صوتُك، إيلوار
تهزمُه خوذةٌ تطأ المُتْعَبين
وتصرخُ: وحدي جديرٌ بحبِّ الحياة
وبعدي الجحيم!
في 20-26 ذي الحجة 1415 ه 20-26 ماي 1995 م
وردت في النص أعلام أجنبية، منها:
-بول إيلوارPaul ELUARD، شاعر الحرية الفرنسية، والمناضل المعروف من أشهر قصائده قصيدة (الحرية).
- كافروش القتيل، وفونتين، من أبطال رواية فكتور هيكو الشهيرة : البؤساء.
- دانتون : أحد زعماء الثورة الفرنسية، وانتهت حياته بعد انتصار الثورة تحت المقصلة.
- السنة المرعبة:L’année terrible ديوان لفكتور هيكو.
- فان كوخ Vincent VAN GOGH، الرسام الهولندي الشهير، قاطع أذنه هدية لملهمته.
- ميكال أنجلو، الرسام الإيطالي الشهير، صاحب اللوحات الدينية المنتشرة في الكنائس.
كما وردت أسماء عربية وأجنبية حضرت الملتقى الدولي للفن الإسلامي بقسنطينة1990 .
وسوم: العدد 732