غزّاي درع الطائي : سلسلة من ذهب
كتب .. كتب .. كتب :
د. حسين سرمك حسن
سلامٌ على الشِّعرِ يخرجُ مثلَ اللآلئ
من دجلةٍ والفراتْ
سلامٌ على مَنْ بقوا ثابتينَ وقالوا لِمَنْ ساوموا :
لنْ نبيعْ
حين قالَ المراءونَ : نحنُ نبيعْ
سلامٌ على السَّيِّدِ المستحيلِ .. الرَّبيعْ
وهو يقدِّمُ خضرَتَهُ وأزاهيرَهُ للجميعْ ...
سلامٌ على وطنٍ أهلُهُ ضيَّعوهُ
ولكنَّهُ إنِفٌ لا يضيعْ )
غزّاي درع الطائي
قصيدة "البعقوبي 2011"
مجموعة "سلسلة من ذهب"
عن دار ضفاف للطباعة والنشر (الشارقة / بغداد) صدرت مجموعة شعرية جديدة للشاعر المبدع "غزّاي درع الطائي" عنوانها "سلسلة من ذهب" .
ضمت المجموعة ثلاثاً وثلاثين قصيدة منها :
مقدِّمةٌ في زمانِ الشِّعرِ ومكانِهِ ، ( أويلي ) على هذه البلادْ ، عصافيرُ الحبِّ تنقرُ قلبَ الطّاغيةِ ، صرخةٌ في واد ، صرخةٌ في واد...ي الرّافدينِ ، أخي ..أيها الإنسان المغنِّي الأخيرُ ، العصافيرُ تبشِّـرُني بالرَّبيعِ ، معرفةُ الطَّريقِ ليستْ مِنْ مسؤوليَّةِ الحصانِ ، ومطوّلته الرائعة "البعقوبي" بأجزائها الثلاثة : البعقوبيُّ 2009 ، البعقوبيُّ 2011 ، البعقوبيُّ 2012 .
أهدى غزّاي هذه المجموعة إلى شهداء العراق ومنهم ولده الشهيد "معد" رحمه الله الذي اغتاله المحتلون الأمريكان الخنازير الكلاب عليهم لعنة الله :
(إلى شهداءِ العراقِ ومنهُمْ ولدي الشَّهيدُ مَعْد ( رحمَهُ اللهُ ) الذي استُشهدَ برصاصِ القواتِ الأميركيةِ المحتلَّةِ في بعقوبة في 7/4/2004 م ( 17 صفر 1425 هـ ) والذي كان طالباً في المرحلةِ الرابعةِ ـ كلِّيَّة طبِّ الكنديِّ / جامعـة بغداد) ..
وقد افتتح الشاعر مجموعته الشعرية برؤيا مهمة عن الشعر هي أشبه ببيان شعري شخصي عنوانها " مقدِّمةٌ في زمانِ الشِّعرِ ومكانِهِ" قال فيها :
(ما دام الزمان والمكان كائنَيْن ، فلا يمكن أن يولد الشعر إلا فيهما ، وبنظرة من زاوية أخرى : لا يمكن أن يولد الشعر خارج الزمان والمكان .
إن الشعر ليس شيئا مطلقا كي يولد من المطلق ، إنه يولد في الزمان والمكان المحَّددين الموصوفيْن المعيَّنَيْن ، ولكنه لا يتَّجه في رسالته إلى الزمان والمكان المحدَّديْن الموصوفيْن المعيَّنيْن اللذين شهدا ولادته فقط ، بل يتَّجه إلى كل زمان وكل مكان ، والذين يحاولون أن لا يربطوا الشعر بالزمان والمكان ، ولا بالأحداث والمسموعات والمرئيات والمقروءات المرتبطة بالزمان والمكان ، إنما يجرّون الشعر إلى ما هو خارج الحياة وبعيدا عن مداراتها ومدارجها وسبلها وآفاقها) .
ثم يقدّم الدوافع لجهده التجديدي في هذه المجموعة الشعرية فيقول :
(ولقد أصبح واضحا اليوم أمام أعين الجميع ، أن قواعد الشعر قد كسرها أبو تمام في استعاراته البعيدة ومعانيه المولَّدة ، وكسرها أمين الريحاني في الشعر المنثور ، وكسرها جميل صدقي الزهاوي في الشعر المرسل ، وكسرها السياب في الشعر الحر ، وكسرها حسين مردان في النثر المركز ، وكسرها محمد الماغوط في قصيدة النثر ، أما الذين يطلبون من الشعراء النسج على منوال القديم وجعل الشعر من النوع الذي ( إذا أنشدتَ صدر البيت علمتَ ما يأتي في عجزه ) ، فإنما هم ينسون أن القديم بحد ذاته كان في زمانه ومكانه خلقا جديدا واكتشافا وريادة وإضافة ، وكان فيه التوتر الإبداعي وكانت فيه الشحنة التجديدية ، وينسون أيضا أن للزمان الجديد وللمكان الجديد خلقهما الجديد واكتشافهما وريادتهما وإضافتهما وتوترهما وشحنتهما وإبداعهما الذي لا يمكنُ إنكاره) .
تلت مقدّمة الشاعر ثلاث دراسات عن المجموعة ، الأولى للناقد "حسين سرمك حسن" عنوانها : (غزاي درع الطائي : محاولةٌ في إعادةِ الإعتبارِ إلى الشِّعرِ ) ، والثانية للناقد "عدنان أبو أندلس" وعنوانها : (سلسلةٌ من ذهبٍ : سلسلةٌ طويلةٌ من الذَّهبِ الخالصِ عيار 24 قيراطا) ، أمّا الثالثة فكانت للدكتور "علاء الجوادي" وعنوانها : (ديوان سلسلةٌ من ذهبٍ للأديبِ الشّاعر غزاي درع الطائي إضافةٌ نوعيَّةٌ للأدبِ العراقيِّ الحديثِ ) .
فال الناقد حسين سرمك حسن في دراسته :
(يعلّمنا غزّاي - ومعه الراحل "كزار حنتوش" - أنّ على الشعر أن
يلبس قميصاً مفتوح الأزرار تلعب به الريح ، أو دشداشة بيضاء ملطّخة بعرق الإبداع
الطاهر المضيء ، ويسير في الأسواق ، ويجلس في المآتم ، ويقف أمام الأجساد المقطّعة
في الطب العدلي ، ويراقب الأمّهاتِ اللائبات وهنّ يحاولن تركيب أجسام ابنائهن
الممزقة أو يخرجن برؤوس أبنائهن في "فلّينات" يشددنها إلأى قلوبهن ، والأباءَ وهم
يملّون الإنتظار ويقبلون بأي جثمان ، والحبيبات الصابرات وقد أصبحن جزءاً من أبواب
الصبر ، وارتسمت أفاعي شوارع الإنتظار في مآقيهن ، واليتامى الحزانى الذين يفتقدون
تربيتة الآباء الحنون على رؤوسهم قبل النوم ؛ الآباء الغائبون في غياهب الليالي
الغادرة . يتحدّثون في قصائدهم عن الإله الشاب القتيل "دموزي" ، فتعال وحمّل مليون
دموزي من عالم العراق الأسفل الذي طفح واكتسح عالم الحياة العلوي فيه . مَنْ الذي
سيبعث الربيع وسط قحط الخراب ويسقي الشفاه المشقّقة والأرواح العطشى ؟
إنّه الشعر ..
مَنْ الذي يختص بـ "خداع" الناس بأن الحياة لم تُختم كما يقول السياسيون الجبناء ،
وأن هناك عالماً "افتراضياً" فيه كرامةٌ وأملٌ ورجفةُ قلب ؟
إنهم الشعراء ، وفي مقدّمتهم غزّاي) ..
وختم الناقد سرمك دراسته بالقول :
(ومن الناحية الفنّية أقول لغزّاي : إن أول من سيخيّب ظنّك هم إخوتك الأعداء "الحداثيون" و "ما بعد الحداثيين" ، سيقولون أن نصوصك مريضة بفيروسات المُباشرة وتعاني من أنيميا الوضوح . لكن هذا هو الذي يفتقده الشعر الحزين - الآن - والذي صار بفعل ألعابهم الحداثوية صامتاً ، وإذا تكلّم لا يُسمع ولا يُفهم . مرّة قال لي المبدع الكبير "مظفر النواب" : (حسين أنا أكتب الشعر منذ أكثر من خمسين سنة .. والآن ، لا أفهم القصائد التي تحملها صحف الصباح !) . الحكمة الشعبية الباهرة تقول : حتى الجنة من دون ناس لا تُسكن ولا "تنداس" ، والغريب أن يتخلّى الشعر عن ناسه لصالح الرطانة الحداثوية .
وغزاي درع الطائي يريد لفت أنظار العراقيين إلى أن لديهم حلماً منسيّاً وسط الجحيم هو الشعر . إن الشكل الجديد الذي اتّبعه في هذه المجموعة ويزاوج بين قصيدة العمود والتفعيلة والنثر هو صيحة لعبور مصيدة الشكل والمضمون العابر للزمان والمكان الذي ينقل الشعر إلى مصاف المطلق وهو مازق بشّرت به الحداثة الغربية :
(والذين يحاولون أن لا يربطوا الشعر بالزمان والمكان ، ولا بالأحداث والمسموعات والمرئيات والمقروءات المرتبطة بالزمان والمكان ، إنّما يجرّون الشعر إلى ما هو خارج الحياة وبعيداً عن مداراتها)
كما يقول غزاي متسلّحاً بالرؤيا ، الفلسفة ، لماذا أكتب الشعر؟ ، المكمّلة للرؤية : كيف أكتب الشعر ؟ . ورؤيا غزاي المُحكمة عن جدوى الشعر ، هي التي جعلته - بالرغم من كل الخسارات الجسيمة والآلام الفادحة والأهوال المميتة - جعلته : لا يبيع .. نعم . لا يبيع ، في زمن كلّ شيء فيه - من قطرة النفط التافهة إلى قطرة الشرف الرهيبة التي يقولون أنها موجودة في مكان ما في جبين الإنسان - قابل للبيع .. بل تمّ بيعه باستسهال مروّع) ..
جاء غلاف المجموعة جميلاً ومعبّراً ، صمّمته الشاعرة "رفيف الفارس" ، معتمدة لوحة للفنانة التشكيلية "رؤيا رؤوف" مفعمة بالإيحاءات عن حضارة العراق القديمة العظيمة.