فيلم الموجه (DIE WELLE)

م. عبد السلام عيسى

أثر السينما في صناعة أفكار الأجيال

م. عبد السلام عيسى

لم يكن  المخرج السينمائي الأمريكي اليهودي ستيفين سبيلبيرج مبالغاً عندما قال في إحدى مقابلاته الصحفية: "لقد غيرْتُ أفكار الناس في العالم كله"!. فإن تناولنا الإحصائيات الاجتماعية فإننا نجد أن الوقت الذي يقضيه الأطفال والشباب وحتى الكبار من الجنسين أمام التلفزيون بات يحتل حيزاً هائلا من مساحات الوقت المتاح لهم ليلاً أو نهاراً، وإن نظرنا إلى حجم الدعاية الهائل للأفلام السينمائية الذي يواجهونه في الانترنت، أدركنا كيف تسعى مؤسسات هائلة لجذب أنظارهم وجر أرجلهم إلى هذا الفيلم أو ذاك.  وإن نظرنا إلى عدد القنوات الفضائية التي خصصتها شبكة MBC   وحدها للأفلام السينمائية العربية والمترجمة فإننا نعرف  نوع الاهتمامات التي باتت تشغل بال الأجيال المتفاوتة في العالم العربي وحجم الأثر الذي تتركه هذه الأفلام في عقولهم ومشاعرهم.

 ومع كثرة الأفلام الهابطة التي لا تهتم إلا بإثارة الغرائز وروح الإجرام و الحرص على الثراء، فإن ثمة أفلاماً راقية تعالج المشكلات الاجتماعية التي باتت آثارها تتجاوز الأفراد والأسر لتتجرع مرارتها المجتمعات والشعوب.  ومن هذه الأفلام الراقية فيلم الموجة. وهو فيلم يعالج مشكلة الأحزاب العنصرية الجديدة التي هي من آثار التفكك الاجتماعي الذي تعيشه الأسر الأوروبية، والذي يؤدي إلى انحراف المراهقين الباحثين عن الأمان الذي توفره لهم الايديولوجيات التي تقوم على الاستعلاء وروح الانتقام من الآخر المخالف.

فلسفة الفيلم:

تتمحور فكرة الفيلم حول قابلية الإنسان لعبودية الايديولوجيا الاستعلائية والخضوع لتأثير الكاريزما التي يمتلكها الدكتاتور..

رغم أن الشعب الألماني عانى من كوارث الايديولوجيا والكاريزما ربما أكثر من اي شعب آخر على وجه الأرض،  ورغم أن الحرب العالمية الثانية التي خاضها الشعب الألماني وراء هتلر والرايخ النازي مازالت قريبة عهد من الألمان وقد عاشها الآباء والأمهات، ومازال المجتمع الألماني كله يدفع بعض تبعاتها، إلا أن كل هذه المآسي يمكن أن تُنسى أو تُهمل إذا وُجدت الإيديولوجية القادرة على  التغلغل في الجيل الجديد من الشباب الألمان الذين تفسخت الروابط الاجتماعية  التي تربطهم بمحيطهم، بدءاً من أسرهم  المفككة وانتهاء بالشوارع التي تعج بالمتسكعين وتجار الحشيش .

 وأكثر ما يتوقف عنده المشاهد للفيلم هو الشاب المهمش الساذج (تيم) الذي يعيش حالة إهمال في بيته. الأمر الذي يدفعه إلى أن يعشق البيئة الايديولوجية الجديدة التي وجدها (في فصله الدراسي)، والتي وجد فيها ذاته وشخصيته، وأن يولع بالقائد الكاريزمي ( أستاذه) الذي بات يمثل له الأمل الذي يخشى ضياعه فيهجر بيته ويأتي إلى بيت أستاذه القائد. وعندما يطرده الأستاذ فإنه لا يذهب إلى أسرته وإنما يبقى أمام بيت أستاذه ليحرسه من أعدائه!. وفي النهاية فإن هذا الشاب ينتحر بعد أن يرى أن أمله في الحياة قد ضاع بعد أن تبين له أن أستاذه كان يمثَل لهم دور الدكتاتور ولم يكن يتبنى ذلك حقيقة.

ثمّة مصطلح علمي يتعلق بصنف من طلبة العلم اسمه (حمير العلماء)، وهم أولئك الذين يحفظون المتون والهوامش عن ظهر قلب ولكنهم لا يفقهون مما يحفظون شيئاً فيستفيد منهم العلماء الذي يستعينون بقدرة هؤلاء على الحفظ وعجزهم عن الفهم. ولعل ذلك الشاب الساذج المضطرب (تيم) هو ممن يمكن تسميتهم ( حمير الايديولوجيا). حيث إن من ينظر في حال الصراعات الايديولوجية التي سادت خلال العقود الماضية، في الشارع العربي وما تزال مستعرة هنا وهناك يجد أن تلك الصراعات قامت على أولئك الصنف من الناس..إن للفن في الساحة العربية مساحات واسعة تبحث عمن يتحرك فيها ، ومشكلة الايديولوجيا تمثل إحدى تلك الساحات .

 المنهج

يمكن النظر إلى المنهجية التي بني وفقها الفيلم من منظورين مختلفين: منظور داخلي يعالج استراتيجية المعلم في إيصال تلاميذه إلى مستوى الخضوع الكامل له وللفكرة التي يحملها، وهذا يصب في إطار تحليل آليات تغلغل الأفكار الهدامة  في نفوس الشباب، ومنظور خارجي يقوم على  تحليل ونقد البيئة التي تتولد فيها هذه الإيديولوجيا  وتحليل ونقد الآثار التي تترتب عليها.

فعلى المستوى المباشر كانت المنهجية  هي تحليل بريق الفكرة ( فكرة النازية) وبريق الكاريزما الجاذبة في شخصية الدكتاتور:

الفكرة: تميُّز تلاميذ الفصل عن غيرهم ، ووجود خصوم لهم ( طلاب الفصول الأخرى).

 شخصية الدكتاتور: هو المعلّم، وله الصلاحيات الرسمية لاتخاذ مايراه مناسباً. وهو ، صارم، دؤوب،  منضبط، رياضي الجسم، قادر على التأثير في الآخرين..

أما على مستوى التأثير في المشاهد، فقد كانت المنهجية هي:

تبشيع صورة الإيديولوجيين الذي يهاجمون كل من يخالف آراءهم حتى من زملائهم في الصف. حيث يختلف الشاب مع صديقته التي لم تنضم إلى المجموعة. وحيث يجند أفراد المجموعة إخوتهم الصغار لمنع من لم يضع شعار المجموعة على صدره من الدخول إلى الصف.

إثارة الرعب في صدور المشاهدين من هؤلاء الذين يحملون الأسلحة داخل حقائبهم المدرسية، ولا يبالون بالكوارث التي قد يجرهم عليهم وعلى البلاد ما يقومون به من الاعتداء على الآخرين الذين يخالفونهم في الرأي.

إظهار صورة  المدافعين عن الإيديولوجيات بأهم مرضى نفسيون ومهمشون في الحياة يريدون إثبات وجودهم الشخصي.

إظهار شخصية الدكتاتور بأنه  الشخص الذي يصدق الكذبة التي صنعها بنفسه. فالأستاذ تغير سلوكه حتى داخل بيته وفي علاقته مع صديقته التي تعيش معه.

محاصرة الطلبة داخل الفصل بقوة السلاح ثم انتحار الشاب هو أسوأ الاحتمالات التي يمكن أن تخطر على بال المشاهد للفيلم. وهي تشير إلى النهايات المأساوية التي تسببها الإيديولوجيات والدكتاتوريات للشعوب.

الأسلوب الفني الذي استخدمه  المخرج  في بناء الفيلم 

يمكن النظر إلى الأسلوب الفني الذي اعتمده المخرج أيضاً من زاويتين داخلية وخارجية:

أما داخلياً  فقد كان اختيار الأستاذ لتلاميذه: اللباس الموحد والشعار الموحد والتحية المستوحاة من تحية الرايخ واسم المجموعة  ثم إثارة الحماس للمشاركة وإبداء الرأي والالتزام  ثم الرحلات الجماعية، ثم في الخبط بالأرجل جماعيا بوتيرة واحدة تكاد تشبه المسيرات العسكرية، ثم التحفيز على النصر في المسبح، ثم الدعوة للصق الشعار على واجهات المحلات في الشوارع. كل ذلك أسهم في ترسيخ الفكرة في رؤوس التلاميذ.

وأما من زاوية المشاهد للفيلم فإن الاشتباك مع الشباب في الشارع، وحمل السلاح عليهم، وإظهار الشاب الساذج المضطرب وهو ينام في الشارع في الشتاء القارس لحماية أستاذه من الخطر الموهوم، والتعرض لحالات فاقعة من التفكك الأسري وأثرها في نشوء هذا الجيل الضائع المضطرب، وفقدان المعلم (الذي يتقمص شخصية الدكتاتور) السيطرة على أعصابه عندما اختلف مع صديقته، خلافاً لطبيعته السابقة الهادئة، ثم مشهد الانتحار، وسيارات الإسعاف ثم سيارة الشرطة.. كل ذلك أسهم في إيصال المشاهد إلى الاقتناع بفكرة رفض الأفكار العنصرية، التي أخذت تجتاح أوروبا، وإلى التفكير العميق في أسباب نشوئها في الرؤوس الخاوية