السينما المغربية: سينما من دون ثقافة سينمائية

إنتاج سينمائي يغرق في الكم بعيدا عن الكيف

وأحكام وهمية تحجب الحقيقة ووجوه متعددة لثقافة الابتذال

سليمان الحقيوي*

لا ضير في أن يعيش الإنسان أوهاما يخلقها لأسباب ذاتية، ليخفف بها وطأة الحياة وثقل الواقع فتصير مع الوقت أحلاما، لكن هذا الأمر قد يصبح مصدر خطر حينما تصبح تلك الأوهام مسلمات نتصرف معها بكونها حقائق نستند عليها في تقييم ذواتنا و قدراتنا، فينتج عن ذلك، تجنب كل ما من شأنه إفساد لذة الحلم حتى وان كان واقع لا بد من عيشه ومجابهته... هذا ما يمكن أن نصف به حال السينما المغربية التي أصبحت تعيش غياب فكر سينمائي مغربي واضح السمات والمعالم.

لقد بات أمر تقييم السينما في المغرب خاضعا لمجموعة من المقاييس الوهمية التي تستند على مبررات ومسوغات أبعد ما تكون عن الواقع، فالتجربة السينمائية المغربية كما هو معلوم قصيرة نسبيا بمقارنتها ببعض التجارب السينمائية العربية رغم أن المغرب قد عرف عرض وتصوير بعض الأعمال السينمائية منذ ظهور هذا الفن في أوروبا أواخر القرن 19، إلا أن هذا السبق  قد تبعه تعثر كبير على  مدى العقود اللاّحقة؛ حيث لم تعرف السينما المغربية مسارا تطوريا يقفز بها إلى الخارج أو يضمن لها الانتشار داخليا، لكن هذا التاريخ الفتي قد أنجب بعض التجارب التي يمكن الافتخار بها على مستوى الإخراج والتمثيل...، لكن هذا التراكم على قلته تنضاف إليه الانتعاشة _الكمية_ التي عرفتها السينما مؤخرا قد جعل البعض يطلق أحكاما اطلاقية تضع السينما المغربية في مكان هي أبعد من أن تصل إليه سينمائيا. هذه الأحكام وغيرها هي نابعة من إحساس عميق يتجلى في انتزاع و نيل اعترافات عربية وعالمية بجدية التجربة السينمائية المغربية، بالإضافة إلى الرغبة الملحة في تسويق المنتوج السينمائي المغربي للخارج وهو ما أدى بالمغرب إلى نهج طريق الترويج للسينما المغربية عن طريق المهرجانات السينمائية  التي لا يرى فيها المواطن المغربي أكثر من تبذير ماله العام، وهو بالفعل ما يحصل في العديد منها وسكان مدينة تطوان وطنجة ومراكش هم أكثر معرفة من غيرهم بخبايا المهرجانات السينمائية التي تستضيفها مدنهم، حيث تصبح الارتجالية وسوء التنظيم هي السمة الأساس لهذه المهرجانات، فتفرض بعض الأفلام المغربية على هذه المهرجانات فرضا وتقصى أفلام أخرى هي أجدر بالمشاركة، والمفارقة أن تجد هذه الأعمال مباركة من المركز السينمائي المغربي؟ !. _شخصيا_ في كل مناسبة أتعرف من خلالها على مهرجان سينمائي أطرح بكثير من الغبن سؤالا  يشاركني فيه ألاف المغاربة بصياغات متعددة: ما جدوى المهرجانات السينمائية في بلد تغلق فيه القاعات السينمائية أبوابها وتتحول إلى بنايات إسمنتية، وما جدوى المهرجان السينمائي إذا كانت السينما المغربية لا تعبر عن القضايا الحقيقية للشعب المغربي الذي لا يجد ذاته في سينماه، فالأفلام المغربية التي تعرض أمامه لا تعكس متخيله. لا تهمني عبارات الغزل التي نطالعها من خلال بعض التقارير الصحفية المسخرة لتلميع صورة هذه المهرجانات، فالواضح هو عدم وجود فكر سينمائي واضح المعالم وغياب رؤية سينمائية على جميع المستويات،  ولا يمكننا بأي حال أن ننكر أهمية المهرجانات السينمائية التي تنظم بمختلف المدن المغربية لكن هذا التنظيم لا يجب أن يكون عند البعض  فرصة للنهب وملء الجيوب بأموال ميزانيات المهرجانات.

إن المتتبع للإنتاج السينمائي المغربي سيلمس بدون كبر عناء غياب هاجس صنع ثقافة سينمائية مغربية، فالسينمائيون المغاربة مطالبون بالاجتهاد أكثر لصياغة رؤية سينمائية مغربية تُسخر إمكاناتها الفنية والصناعية لأداء رسائل جمالية تعلي من قيمة الفن وتبني جسور التواصل مع الإنسان المغربي الذي فقد الثقة في السينما المغربية  التي أصبح من السهل ملاحظة غياب الفكر الإخراجي فيها، فالمخرج المغربي يعتقد أنه مخرج وسيناريست ممتاز وهو بذلك لا يثق إلا فيما يكتبه معتبرا إياه مثاليا وغير قابل للنقاش، وهو لا يعتبر السيناريست مساعدا بل منافسا، وهذا ما يفسر نسبة الأفلام الكثيرة التي إما أن ينفرد المخرج بكتابة سيناريوهاتها أو يشارك بجزء كبير منه، كما يفسر علامات الاستفهام الكثيرة التي تصاحب عملية  مشاهدة الفيلم المغربي حيث تصبح في بعض الأحيان عذابا !! فكيف ستتطور السينما إذا كان المخرج والسيناريست والمنتج نفس الشخص؟ !  وطبعا لا يمكننا أن نعمم هذا الحكم على كل المخرجين المغاربة، بل هو حكم ينسحب فقط على أولئك الذين ينظرون إلى العمل السينمائي كوسيلة للربح فقط ، وينتجون أعمال تسيء إليهم أولا وتسيء للوطن ثانيا، وتسيء للسينما المغربية، وتجعلنا نتساءل بحيرة عن سبب تصويرها وكيفية انتقائها !! فهي تحظى بالتصوير لأن الفراغ أرغم المنتجين على قبولها وترتبت عنها تجارب نمطية بدون شخصيات بدون دراما حقيقية وبصوّر غير متصلة، أفلام ضعيفة، بواقعية سطحية، تفتقد لغة الصورة وتفتقد الأصالة، أفلام مبتذلة قيميا ومتشابهة 'ثيماتيا' لا تحمل قيما سامية، وأفلام مستلبة تتجاهل الإمكانيات الثقافية والتاريخية للمغرب، سينما لا تكاد تنطق بشيء سوى الرداءة، وهنا يمتد تساءلنا ليشمل دور المركز السينمائي المغربي المسؤول عن تمويل هذه الأعمال السينمائية والتباهي بها، أما الممثل المغربي فدوره يأتي بعد العديد من المراحل التي يمر منها العمل السينمائي فإذا استثنينا بعض النماذج التي تستحق صفة الممثل فنسبة كبيرة من الممثلين المغاربة لا يستطيعون أسر المتلقي وإقناعه بما يقدمونه من أدوار. بالإضافة إلى ظاهرة غريبة تتعلق بوجود وجوه هي أبعد ما تكون عن مجال التمثيل فالشيء الوحيد الذي يقنعك به هؤلاء أنهم ليسوا ممثلين قط. أما الجمهور المغربي فقد بات واضحا عزوفه عن متابعة الفيلم المغربي لأن المسار الذي اختاره السينمائيون المغاربة لأنفسهم منذ البداية، بانحيازهم لاختيارات جمالية بعيدة عن طريقة التذوق الخاصة بالمشاهد المغربي، هي التي أدت إلى عزوفه عن سينماه، وغيابه عن القاعات يتمثل في بحثه عن سينما حقيقية وليس سينما تعرض الأجساد الرخيصة والعارية دون رسالة أو محتوى !، بالإضافة إلى أن ارتياد دور السينما ليست بتلك الممارسة الاجتماعية الراسخة في المغرب، وهنا تبرز مسؤولية المخرج المغربي الذي يفكر في الدعم أكثر من المتلقي أثناء اشتغاله على الفيلم. لقد أصبح البعض في المغرب يتعلق بكل الأسباب التي قد تجود بحكم ايجابي حول السينما المغربية ومنه اعتبار تصوير الأفلام الأمريكية في المغرب معطى يمكن أن نستند عليه للحكم على جودة التجربة السينمائية المغربية، وهذا بكل تأكيد مبرر يعوزه الفهم، فالمغرب بالفعل يعتبر قبلة لتصوير عدد كبير من الأفلام السينمائية الأمريكية، وهذا يعود بالأساس  إلى توفر المغرب على مؤهلات طبيعية متنوعة بالإضافة لقربه الجغرافي من أوروبا ثم انخفاض تكلفة اليد العاملة ولا يعود لأمر آخر، وفي مقابل ذلك فهذا الأمر لا يعود بأي وجه ايجابي على السينما من ناحية الاستفادة من استوديوهات التصوير بورزازات أو الاستفادة من الخبرة السينمائية الأمريكية، بل يبقى المغرب مكانا  نشاهده على الشاشة فقط. بالإضافة إلى هذا كله فهناك من يعتبر الإنتاج الذي تحقق مؤخرا وهو 12 فيلم في السنة انجازا كبيرا. رغم أن هذا الإنتاج هو في أغلبه بدون محتوى وأعمال سينمائية تدمر الإحساس، فالمراهنة على الكم لا يجب أن تهمل الكيف،  فالسينما المغربية لا تحتاج إلى كل هذه الأوهام الكاذبة التي تشعرنا بمفارقات قاسية لا مسوغ لها، ولا تحتاج إلى إقحام أحكام كاذبة غريبة تحجب الحقيقة، بل تحتاج إلى نقذ ذاتي يضعها على الطريق الصحيح، تحتاج إلى نقد سينمائي غير متواطئ، والأكثر من هذا كله تحتاج إلى العدول عن فكرة التعامل مع السينما كوسيلة للربح فقط.

                

*  كاتب وناقد سينمائي من المغرب