صالون "الفن المرفوض"

صالون "الفن المرفوض"

أ.د. ناصر أحمد سنه - كاتب وأكاديمي من مصر

E.mail:[email protected]

"يجتهد المبدع في ديوان شعر لأعوام، بينما يشتغل على كولاج ساعة ونصف فيكون مردود الأخيرة عشرات أضعاف مردود ديوان الشعر". هكذا يبرر كثير من المبدعين  دخول ميدان الفن عبر لوحات كولاج وغيرها. فالواقع الفني المعاصر  المحلي والعالمي  يسجل تحولات متصاعدة، فسوق اللوحات يشهد ثورة حيث وصلت أسعار بعضها أرقاما تبدو خرافية. ولم تعد لوحة الفنان تنتظر ذيوع صيته، أو موته لتباع بأسعار لم يكن يحلم بها في حياته. فما الذي يجري في "أسواق الفن المعاصر/الحديث"، وتنامي "تجارته" وأين جمالياته"؟، وهل ما يهم الفنان انتشار أبدعاته، أم ارتفاع أثمانها؟. وهل ثمة قلق حول الاستثمار في الفن، و"تسيد المال"؟.

الفنون الجميلة نتاج نسبي لتفاعل حركة الفن، وإبداعات الفنان، مع ثقافة وبيئة المجتمع.   وهي "نتاج النشاط البشري الإبداعي الذي يستخدم الوسائل المادية وغير المادية للتعبير عن الأفكار والعواطف والمشاعر الإنسانية". لكن يبقي الجدل مستمراً حول: فحوى الفن، ومدى انطباق مواصفات الإبداع على النتاج المأمول؟، وما الذي يقرر أن ذلك النتاج فني أم لا؟، هل هو ثمن البيع، أم توافق الرؤى الفنية النقدية حوله؟ وهل هذه المهمة منوطة بالفنان أم بالمتلقي؟ وهل ثمة دور أو مسؤولية في هذا الحكم تناط بطرف ثالث قد يتمثل بمقاولي وممولي النشاطات الفنية أو النقاد المحترفين والصحفيين والمؤرخين والنفسانيين وعلماء الاجتماع؟، وما هي طبيعة الدور الذي يلعبه الزمان والمكان في التأثير على فنية النتاج ومدى إبداعيته؟.

صالات الفن المعاصر.

في ربيع عام 1863 قَدّم رسام شاب يدعى "إدوارد مانيه"(1832-1883)  إلى لجنة التحكيم في صالون باريس بعضاً من أعماله، فرفضت جميعاً. وكذلك رفضت اللجنة كثيراً من الأعمال الأخرى، مما أغضبهم. فقدموا التماسا إلى الإمبراطور نابليون الثالث يوطحون موقفهم الرافض لتلكم النتائج، والذي شك أيضاً بأنه:"لا بد من أن يكون في الأمر خطا ما"، فلا يُعقل أن تُرفض مئات الأعمال الفنية".لذا فقد سمح لهم بإقامة "معرضاً خاصاً" للرسوم والأعمال المرفوضة، أطلق عليه في حينه ب "معرض صالون المرفوضات ". وكانت نقطة البداية في تأريخ "صالات" الفن الحديث في أوربا. لم يكن هناك اختلافاً كبيراً بين ما عرض في "صالون المرفوضات" والصالون الباريسي الرسمي، ألا ببعض الاستثناءات البسيطة..أشكالاً مرسومة بألوان داكنة وكئيبة في الغالب، تشعر بالحزن والكآبة. كان الفن التشكيلي في القرن التاسع عشر يزدادُ ويتسع باطراد حيث كان النصيب الأوفر في الغالب مكرساً لتلبية الذوق العام السائد آنذاك .

لقد زعزع  في عيون الفنانين والجمهور على السواء "صالون المرفوضات" من قدّر الصالون الفني الرسمي والذي كان له دوراً فنياً"مهيمناً" مع الأكاديمية الملكية البريطانية، وغيرها من المؤسسات المعنية. صار من الممكن للفنانين، أن يعرضوا أعمالهم الفنية في معارض خاصة بهم بعيداً عن خيارات الصالون الرسمي. مما شكل وضعاً جديداً مثلما فعل الانطباعيون عام 1874 .

لكن مع ظهور هذه الصالونات/صالات الفن المعاصر/الحديث"، بدأ "مفهوم السوق" يتسلل إليه. فازدادت الأنشطة التجارية، وظهر وسطاء/وكلاء تجارة الفن وسماسرتهُ، حيث يقوم الوسيط بإقامة معارض للفنانين. لقد تنامي استقلاليهم ، و"حريتهم"، و"تحررهم" من يسمون (الحماة) من ملوك، ونبلاء وأمراء، ووجوه الطبقة الأرستقراطية ، والمستنفذة في الكنيسة والبلاط، وغيرهم من أصحاب السلطة والمال والجاه. لقد تم كسّر القيود المفروضة علي الفنان، وانتهت سلطة الحكم على أعماله، حتى من قبل زملائه الأكاديميين الذين كانوا يعيشون عصرهم الذهبي/ "سلطتهم" القوية المعترف بها من قبل الفنان والجمهور في آن معاً.

ومع "مانيه" ظهر فنانون أمثال "غوستاف كوربيه" (1819 - 1877)،  ورامبرانت ، وروبنز وتيتان الذين ذهبوا بعيداً في الإفصاح عن "الحداثة"، والنّهل من تجاربهم الخاصة اليومية، والمناظر الطبيعية الواقعية، وتحويل الفن آلي الداخل (آي الفن من أجل الفن) في عروضهم في "صالون المرفوضات". فعلي سبيل المثال: أثارت لوحة "غداء على الحشائش" ل"مانيه"، وفيها يظهر شابان متأنقان بصحبة فتاتين عاريتين يتناولون غداء وسط الغابة، أثارت أصحاب الفن الرسمي و اعتبرت – عملاً شائناً بسبب مجاورة العاريات لرجال بملابس أنيقة. فضلاً عن أن إحدى الفتاتين تحدّق آلي خارج الصورة بإثارة.

"بورصة للفن.. متعددة الجنسية".

هذه "السوق الفنية" تبقي أوروبية، أميركية، يابانية، بالدرجة الأولى ولها رموزها من دور عرض مثل: وايت كيوب (لندن)، وماكس لانغ (نيويورك)، وأس سي إي آي باثهاوس (طوكيو)، وجاليري شيمولد (بومباي) الخ.. وبالرغم من  مداراتها للغايات التجارية، ولعبها لدور ثقافي يروج للفن والثقافة "كأنهما" على الضد من التجارة، واستغلالا لجهود المبدع. هذه الصالات الخاصة خلقت أجواء تنافسية، وأسهمت في التعريف بالفنانين، فصارت لكل منها مجموعة منهم يتعاملون معها، ضمن التزام أدبي، وفي إطار علاقات الصداقة والاحترام، مع ما يكتنف تلك العلاقات من مشاكل، في حال بالغت الصالة في تحصيل نسبتها من الفنان، أو في حال قام الفنان بالاتفاق مع المقتنين لبيع لوحاته خارج المعرض.

مع ترسيخ التوجهات الرأسمالية، والعولمة الاقتصادية شاعت شركات وطبقات من الأثرياء فرضت نفسها باستثماراتها في شتى المجالات بما فيها الفن. وثمة تقاليد تجارية في سوق الفنون الغربية، تم توزيعها/ تعميمها عالمياً.

كما البورصات المالية وما تشهده من مضاربات وتقلبات وصعود وهبوط ونقاط تسجيل وثقة الخ يسري هذا علي مبيعات بالملايين من الدولارات والإسترليني لفنانين مثل بابلو بيكاسو، وأندي وارهول ، ألبيرتو جياكوميتي، إدغار ديغا، وكلود مونيه وغيرهم. ويرتكز نجاح مهرجان فنّيّ ما على حجم مبيعاته، وبدون مبيعات الفن، لن يكون المهرجان حدثا ممكنا ماديّا.

ففي صيف عام 2004 توقع مقيّمو مزاد سوثبي الشهير في نيويورك أن تباع لوحة بيكاسو «صبي يدخن الغليون» المرسومة عام 1905 بمبلغ 70 مليون دولار، لكنها بيعت بعد أيام في نفس المزاد بمبلغ 104 ملايين! وقد علق في وقتها بيب كارمل الخبير بفن بيكاسو قائلًا: «إن هذا الحدث يثبت لنا أن قيمة العمل الفني التجارية في السوق ليس لها أي صلة على الإطلاق بالقيمة الفنية التي يحملها ذلك العمل)!

المضاربات المالية وارتفاع أسعار بعض اللوحات مثل لوحات فان جوخ الذي مات من الجوع ولم يبع في حياته سوى لوحة أو لوحتين، ومات منتحراً. المضاربات التي تتم قد شوهت الفن، خاصة أن نتائجها انعكست على جودة العمل الفني، فتجار الفن أصبحوا يبيعون أي شيء على أنه عمل فني حتى ولو كان سلة قمامة. ولعل قائل يقول: تجارة الفن تجارة طبيعية، ولها إيجابياتها، وأهم هذه الإيجابيات أنها أخرجت الحركة التشكيلية من قوقعتها وجمودها، كما برز مع ظهور الصالات الخاصة ظاهرة الفنان المحترف. فللمرة الأولى نجد فنانين يعيشون على بيع لوحاتهم فقط.

لعبة الفن والمال

    ثمة شعور يدفع البعض للابتعاد عن الصور النمطية لإنفاق المال. بالتأكيد ليست الجاذبية التي تكتنف بعض الأعمال الفنية هي المحرك الوحيد ، لكنْ في القلب من هذا الشعور تكمن غرائزنا للتباهي بالمقتنيات.

سوق الفن، وثيق الصلة بأسواق المال العالمية، الفكرة هي ذاتها، وآليات التعامل هي نفسها، الأسواق المالية الدولية في تحسن مستمر واستنادا إلى الذوق السليم يكون الفن كذلك.

لكن من هم هؤلاء الذين ينفقون مبالغ لا تصدق على الفن ومن أين تأتي كل هذه الأموال؟

من صالات فيليبي دي بوري إلى صالة سوثبي يتجمع الفائزون في الاقتصاد الأوروبي الجديد وسماسرة أمريكا والملايين من الروس الجدد ورواد الصناعة صغار السن من آسيا كلهم يتحينون اقتناص الفرصة، يستثمرون أموالهم في مجال الفن والقيم الفكرية المضافة، في تنافس محموم شعاره الأوحد "الكسب السريع".

"صالة سوثبي" تشهد نقطة تحول في سوق الفن الدولي، سنة 2004، ببيعها لوحة بيكاسو (فتى مع الأنابيب) بثمن قياسي كبير، بلغ أكثر من 100 مليون دولار لأول مرة في تاريخ المقتنيات الفنية.

يبرز الفيلم قصة أحد رواد هذا الفن هو تشارلز ساتشي، شبح عالم الفن، إنه يهوى جمع التحف الفنية الأكثر نفوذا في العالم، ويملك امبراطورية إعلامية دولية.

عام 1991 اقتنى ساتشي "سمكة دانيال هيرست" مقابل 70 ألف جنيه إسترليني وفي 2005 عرضها للبيع بالمزاد العلني مقابل 12 مليون جنيه بزيادة مقدارها 160 ضعفا، إنه هوس المضاربة في أوضح تجلياته.

جبف كونز، خبير أعمال فنية يرى أن هذا الاقتصاد الناشئ يغذيه استخدام الفن كآلية من أجل القوة الذاتية، لكن هل هو تحقيق الذات أم البحث عن قيم روحية يعوض عنها الفن الحديث؟.

ينقلك هذا الفيلم إلى عالم آخر، إنه عالم الثروة والربح السريع، حيث الإنفاق بلا حساب، والجيوب مشرعة دائما.

وعلي الصعيد المحلي تطلعت شركات عالمية مثل «كريستيز» و«سوزابيز» (وأكثر من 60 صالة عرض فنية، أكثر من نصفهم من خارج منطقتنا) إلى فنون الشرق الأوسط. ذلك التطلع بدأ عمليا بعد المعرض الذي نظم لفنانين عرب في لندن 2006، تلاه في العام ذاته مزاد عالمي عربي أقامته مؤسسة «كريستيز» في دبي في مايو (أيار)، ضم فنانين عربا ومن دول شرق آسيا: الهند وباكستان وإيران. فمن حيث أرقام المبيعات جاء العرب في المرتبة الرابعة بعد الهنود والباكستانيين والإيرانيين. تتطلع الأنظار إلى "مزادات دبي"، ومعرض (أبو ظبي  آرت) لتحسين موقع الفن العربي على خارطة التجارة الفنية الدولية.

لعل تفسير التزامن بين تنامي الاهتمام بالفن والثقافة العربيين مع الأحداث السياسية والاقتصادية الإقليمية والدولية. «لقد ازداد اهتمام الغرب بالثقافة والحضارة العربيتين، بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001، وذلك في محاولة لفهم العالم العربي، فأقيمت ندوات وكثرت الأبحاث والمعارض عن الفن العربي». كما أن «فائض الأموال العربية جذب دور المزاد الغربية وتجار الفن إلى المنطقة، وبدأ الترويج للفن التشكيلي العربي، مما أدى إلى ارتفاع أسعار الأعمال الفنية العربية إلى أرقام قياسية».

ينصب اهتمام هذه الصالات الفنية على اكتشاف الفنانين الجدد وتمثيلهم وتبني أعمالهم وعلى تحقيق مبيعات جيدة. بيد أن هناك توجهها لها سيركز بشكل أكبر على تمثيل فنانيها الحاليين وتأسيس قاعدة إقليمية من العملاء تلبي تطلعاتهم باقتناء الأعمال الفنية.  

فصالة «أيام» السورية احتكرت ما يقرب من 25 فنانا سورياً بموجب عقود نظامية، وتتفاخر بأنها أول من فتح باب السوق العالمية أمام اللوحة السورية وأمام فنانين لم يكن أحد يعرفهم من قبل. بكن يبقي الأغلى هو ما تحدده ذائقة الأثرياء في المزادات، لا الحركة النقدية الجادة/الغائبة. فبحسب كثيرين: «هناك نقاد يعلون من شأن لوحات وهي لا تستحق، كما أن ذائقة التجار ورجال المال قد لا تلحظ القيمة الفنية كأهل الفن».

لقد كان لوجود «بورصة للفن» تسمح بتقييم الأعمال يعتبر تقليدا خاصا بالغرب بفضل خبرته الطويلة مع رعاة الفن بالإضافة إلى المتاحف الرسمية والخاصة. أما في بلادنا، فنعتمد على دور المزاد الغربية وخبرائهم المختصين لدراسة السوق وتقييم الأعمال العربية.

"تقويم" مطلوب.. لتزاوج الفن والتجارة.

  يقوم أصحاب الصالات العربية سوق الأعمال التشكيلية، إيجابا وسلبا، فيذكرون: «لو لم يأت الغرب ليسوق لفنانين عرب لبقينا متفرجين. بينما نشهد اليوم بعض المتاحف والمؤسسات والبنوك الأوروبية تقوم باقتناء أعمال فنية عربية. لكن مع ذلك هناك تنامي في "تزوير" الأعمال الفنية التشكيلية وتصديرها بأسعار باهظة". ولقد تحول بعض الفنانين إلى "تجار"، حيث أصبحت "لوحاتهم تجارية" تفتقر لأدنى مستوى فني. وهذا ما أدى مع انتهاء الطفرة المالية، إلى هبوط أسعار أعمال بعض الفنانين بشكل ملحوظ، إلى أكثر من 50%»."إن الارتفاع المفاجئ لأسعار لوحات بعض الفنانين، أمر له انعكاس سلبي على أدائهم... فالفنان الذي باع لوحاته بسعر لم يكن يتخيله في مزاد عربي أو دولي، لن يكون بوسعه البيع بسعر أقل، أو بسعر يتلاءم والسوق المحلية. فهل يعيش الفنان على ثمن لوحة واحدة؟!» «من الأفضل أن يحصل ارتفاع تدريجي/ وحسب البلد في سعر اللوحة، وضمن إطار المنطق».

 

لقد ظهرت مؤخراً فنون تشكيلية قد لا تمت إلى الفن بصلة يكون فيها عامل الصدفة أو الحركات البهلوانية للرسام هي أساس صنع اللوحة، فهناك لوحات مطلية ببقايا ألوان منوعة يراها الرسام وكأنها تمثل الحياة بألوانها المختلفة ولكنها في نظر المشاهد علبة ألوان انسكبت على مسطح ورق أو قماش.

في كتابه " أزمة الفن التشكيلي : واقع الفن التشكيلي المعاصر في الغرب وأزمته الراهنة، طبعة أولى 2000 م ) يتقد د. "عز الدين شموط": "الفن التشكيلي الأوروبي لخروجه عن المألوف، وافتقاده الذوق الفني بدعوى التجديد والإبداع، لكنه هوي بالفن للأسفل وجعل منه مسخاً مشوهاً... إن فن الحداثة أو الفن الطليعي لم يقدم سوى تكرار ممل لفن الدادا الذي ظهر في بداية القرن كفن معاد للمجتمع الصناعي والاستهلاكي، وتحول إلى طقوس رخيصة، في الوقت الذي يستعمل فيه المجتمع أحدث أنواع العلوم وأكثرها تقدمية وعقلانية وعلمية، ويضيف الكاتب: "لقد أصبح الفن الطليعي فنا كاذبا يدعو له زنادقة الفن وتمارس طقوسها في معارض وهمية أو تقام في متاحف ملونة بتجارة الفن المعاصر وتباركها مؤسسات غير ديمقراطية، يحكمها ذوق (مفبرك) من قبل نقد فني فاسد .وتحت شعار (الفن الشعبي) الذي دعا إليه "وارهول " باسم "البوب آرت" أو فن الحداثة أو فن ما بعد الحداثة، أو الفن المعاصر، يقول المؤلف: " تحول هذا الفن الطليعي إلى فن أقلية تدعي الثقافة، هذا الفن العبثي الذي لا يعني أي شيء ولا يخاطب الجمهور، وليس له أي معيار جمالي سوى معيار الفضيحة، صار كل شيء ممكنا والحرية أصبحت بدون حدود فتحول الفن إلى فوضى منظمة ". يضيف المؤلف لقد أصبح الفنان الطليعي أكبر بكثير من عمله الفني، ولم يعد ممكنا تحديد مفهوم الفن والفنان، الذي أصبح قادرا على فعل كل شيء (ما عدا الفن.(