تأخرت كثيراً
استيقظت صباحاً ، وإذا بالصغار حولها ، يقفزون ويقبلون ويضحكون ، وكذلك يتناقرون ، ضحكت ، فانهال الصغار عليها ضماً وتقبيلاً ، تفاجأت وهي تسمعهم يغنون :
ـ عيد ميلاد سعيد ماما ...
سألت في سرها :
ـ عيد سعيد !! آه .. إذن بدأت أخطو نحو الأربعين ..
نظرت إلى الصغير والصغيرة .. غرغرت العينان بالدموع .. وأكملت :
ـ ولا زال الأولاد صغاراً ..
أحست بضيق في نفسها .. وغصة في حلقها .. حاولت أن تخفي دموعها إلا أن الصغيرة لثمت خدها فشعرت بدمعة حرى .. قالت بقلق :
ـ أمي .. يوم ميلادك وتبكين ..
قال الصغير وقد بدأ صوته يأخذ منحى فيه شجار :
ـ أنت ضربت ماما بدون شعور منك .. أنت السبب ..
ولولا تدخل الأخت الكبرى لنشبت معركة طفولية لا وقت عندها لها وهي في تلك الحالة ..
نهضت من فراشها لتبدأ مراسيم عملها الأمومي اليومي .. الذي تشعر أنها ما خلقت إلا لتعبد ربها وتقوم بتلك المهام الحبيبة .. إطعام الصغار عشقها ، تحميمهم تلبيسهم .. حتى تدريسهم .. كل شي فيهم يسعدها .. فالأمومة هاجسها .. ونسيت عمرها ودراستها وهوايتها وجعلت الصغار أكبر همها ومبلغ علمها .. حتى استيقظت وهي تطرق أبواب الأربعين .. الصغار جداً فرحون بأمهم مهما كانت وكيفما كانت .. أما الكبيرة فوجدتها تسألها :
ـ أمي .. ألم تباركي لجارتنا أم وسام ؟
سألتها :
ـ على ماذا ؟
قالت البنت بتضجر :
ـ يا ماما إلى متى وأنت منعزلة عن الناس خلف المجلى ، وبجانب الطبخة ، وداخل الحمام ، ألم تسمعي بحفل تكريمها لصدور كتاب لها عن التربية في الإسلام ..
قالت لها :
ـ نعم يا قلبي ؟ ماذا ؟ ومن قال لك هذا الكلام ؟
قالت بحزن :
ـ ابنتها رفيقتي في المدرسة ، أحضرت نسخاً من كتاب أمها وقامت بتوزيعه على معلماتنا ، كما أحضرت علبة من الحلوى ووزعتها على كل المدرسة ..
سكتت البنت دقيقة ثم أردفت :
ـ اليوم عطلة ، ماذا تنوين عمله اليوم ؟
قالت لها :
ـ طبعاً أشق أيام الأسبوع أيام العطل .. طبخ وترتيب وتنظيف ...
قاطعتها ابنتها وقالت :
ـ أقصد ألن تعودي إلى قلمك وورقك ؟؟؟
ألم تكوني الأولى على صفك ؟ ألم تحدثينا عن أفضل طرق الدراسة ، وأنجح أساليب التفوق ؟ ألم تستلمي يوماً جائزة أفضل طالبة ، ألم تكوني يوماً أرق كاتبة !! تكتب فتبكي أمهات الشهداء من رقة كتاباتها ودقة وصف المشاعر فيها ؟
قالت الأم :
ـ آآآآه يا صغيرتي .. البيت والصغار ووو ..
قاطعتها البنت بحزن :
ـ ألا نستحق منك أن نفتخر بأمنا ؟
قالت بعنف :
ـ يا رجاء ، والأم الأمية ماذا تفعل ؟ ألا يفتخر بها أولادها لأنها أمية ؟
قالت رجاء :
ـ بالعكس .. يضعونها فوق رؤوسهم لأنها قامت بتربيتهم وفق علمها ومستواها .. أما الأم المثقفة المتعلمة المتفوقة فمن حق صغارها عليها أن يفتخروا بها أمام الملأ لأن الله حباها بما لم يحبُ إنساناً سواها من علم ومعرفة ..
سكتت الأم وبدأت تتجاهل البنت بالعمل وتحضير الفطور الصباحي ، اقتربت رجاء منها وقالت :
ـ إلى متى يا أمي ؟
قالت أم رجاء :
ـ تأخرت يا رجاء كثيراً .. آللآن وقد بلغت الأربعين .. وضعفت الهمة وضعف النظر ..
قالت رجاء :
ـ وكم ذكرت لنا قصصاً عن أميين بدؤوا بتعلم القراءة والكتابة بعد الأربعين ..
تركت الأم المطبخ وغادرت مهمومة إلى غرفتها ، نظرت في المرآة .. فوجدت خطوطاً صغيرة من التجاعيد بدأت تخط على وجهها .. لمست فروة شعرها فوجدت الشيب وقد بدأ يشتعل فيه اشتعالاً .. نظرت إلى العيون فوجدت آثار السهر قد لونت بشرتها بالسواد .. أحست بالخوف .. إنه العمر والشيخوخة .. نعم هي أنجزت أجمل ما تنجزه أنثى .. أنجبت زهرات أربع .. سقتهم من دمها وروحها ، حتى بدأت من كانت بنظرها طفلة تعاتبها وتدفعها لمستقبل علمي بعد أن أتمت تقريباً مسيرة الأمومة المبكرة .. لمحت في المرآة نظرتها القديمة المليئة حياة وعنواناً وحركة .. فردت شعرها فرأت سواده الفاحم لا زال يغطي البياض بل ويخفيه .. بل نظرت إلى التجاعيد فوجدتها عند المبسم والعيون تحكي قصة امرأة تحب الحياة وتبتسم لها ..
أمسكت بتلفونها واتصلت بأم وسام تبارك لها كتابها الجديد .. وتأخذ منها موعداً يلتقيان فيه في المقر الأدبي الذي تداوم فيه أم وسام كل أسبوع ..
خرجت من غرفتها تشعر بانتعاش وترحب بالأربعين .. سن النبوة والنضج والحياة ..
وسوم: العدد 678