أنينُ صيفٍ ضبابي
قال لي صديقي الكاتب، بعد أن أخذ استراحة وجيزة،استعاد خلالها قدرته على
التحدث بهدوء وروية:
يبدو أن ذاكرتي قد أفلحت عندما خَصّصَت لذلك الصيف جزءاً لايُستَهان به من
دردشاتها المحكية الغريبة، ولم لا وحادثة الزيارة العجيبة الفريدة للمستشفى كانت
طاغية بلونها الرمادي على كل ما كان يطلق عليه فصل الصيف المعروف بأشعة
شمسه الساطعة المبهرة، فما وجَدَت من خلال منافذهاإلاّ الضباب,وقد تلبَّدعلى
زجاجها العاتم، وكانت عشرات من السنين قد مرت عليه!!.
لم أستطع الحسم بين ما حدّثني به صحن الشوكولاته يومها، وبين لون الصيف
الضبابي،الذي جثم على ذاكرتي المسنّة، ولم ينقشع عنها أبداً....
وتابع:
قدِمتُ لاستقبال خريف العام الرابع، بكل ما ورثته من أيام وليال جافة، فما حسبت
نفسي، إلاّ مثلما تترك سنين العمرآثارها الحتمية الموجعة على جذوع الشجر،رغم
تشبُّث هذه الجذوع بعطائها الأخضر المنتظر، وأملهالدورة حياة جديدة قادمة....
جاء الرد من حشرجة نفسي، حينما أخذت أكتب تلك الكلمات التائهة المتشردة:
- وهل لك بالأرصفة القديمة في هذا الخريف المولود حديثاً، فأي ورقة
من أوراقه المسكينة ستتعرف عليك؟! ربما جيل هذا العام لايحمل مورثات ذات
الذي سبقها في الهروب من الأعوام السابقة!!.
أجابتها مدفأة أنيني ، والحيرة لازالت اللاعبة الوحيدة في مسرح ترددي:
- أخاف من امتداد لون الصيف الضبابي الغريب ، إلى خريفي اليتيم،
وإجباره على تغيير ألوانه الحميمة إلى نفسي!!!
قال لي الرصيف المجاور للنهر الشحيح بأنغام جريانه، طلباً عجيباً مكتوباً بورقة
صغيرة, ملفوفة بقطعة نقود ورقية من فئة كبيرة ألقيت في حجري:
- لاتفارق الرصيف وانتظر أول ورقة خريف تسقط ، وقبل أن تبدأ بالتدحرج
على أحجار جسمي، التقطها ثم ضعها في مظروف جميل، فإذا حصلت على
عنواني أرسلها إليه ، ولا تتردد في ذلك، مقابل أن تأخذ كل ماحصلت عليه من مالٍ
بتسوّلك في خريفك الماضي!! وإلاّ...فذلك المبلغ يبقى دين عليك، إن لم يكن نصفه
حق لي، هذا عهد بيننا!!.
هنا أشرت لصديقي الكاتب بالتوقف قليلاً، لأذاكر معه اعتراضاً افتراضياً,
قلت له :
- هذا يعني أنك كنت تحت عدسة عين تراقبك خفية ؟ هل أحسست
بها ؟ أم أن لاعباً جديداً أخذ دوره في مسرحك الجميل، آثر التواري عن ناظريك
لغايةٍ ما في نفسه؟!
أجابني بروية:
لاتستعجل بتفسيرالأحداث الغريبة قبل أن أروي لك حكايتين عجيبتين وربما
هي ثلاث لارابط بينهم إلاّ مُحدّثك!!
وتابع:
أوّلها:
بعد زيارتي للمستشفى وبنهاية الامتحانات، زارني طالبان في غرفتي،
أحدهما معروف لي، والثاني غير معروف ادَّعى أنه بمستوى متقدِّم، انهال عليَّ
بعدة أسئلة غريبة ، وظلّ الأول صامتاً لم يتكلم أبداً !!
قال : أسألك عن صاحبك الذي عُدتَه في المستشفى !.......ثم استدرك:
أنا لا أعرفك ولكن أعرف الذي رافقك، أحببت أن أسمع منك خاصة ما
رأيته هناك ، كيف كانت حالة صديقك؟كم كسرًا في عظام جسمه؟ من الذي
كان متواجداً معه في الغرفة؟
دهشت من سؤاله أو أسئلته، وقلت في نفسي: سأتجاوز كل دهشتي وحيرتي،
وحقي الشخصي، في كل مابدا منه من صلفٍ، و سأختصر معه الحديث
بجواب، سيسبِّب له ما سبَّب هو لي:
قلت له:لم أرَ عليه أي جبيرة كسر، سوى لفافة ضماد على رأسه، وعلى
إحدى أذنيه، وأظنها اليمنى؛ لأني كنت أقف بجهتها!!.
لم يشأ زائري أن يكمل أو يسأل أو يتابع الحديث الغريب،بعد أن سمع جوابي
المفاجئ فأنهاه سريعاً مثلما بدأه، تركني مباشرة أو تركاني يومها، وكثير
من الأسئلة على إثرتلك الزيارة تشكَّلت حيارى في تلافيف ذاكرتي، فأعمَلَت
على صبغة ذلك الصيف بلون الدخان، وقسوته كقسوة شظايا تلك القنبلة التي
فتقت كل ما كان بين أحلام الطلبة وبين دار دراستهم الآمن.
ولاضيرمن كل ذلك ؛ إذ إن ماكان متراصّاً من أحلام شتّى (وكنت كأني
أتحدث عن نفسي، وعما كنت أفكّر به) في مخازن التفاؤل، كفيل أن يبدد
سحاب الصيف! فسحاب الصيف وإن حضر فهو ضالّ أو عابر سبيل، ليست
لديه أدنى شجاعة لمناكفة الحرارة المنبعثة من الأجساد الحائرة ، فيلوذ بالفرار
مسرعاً، قبل أن يتفتّت أو يضمحلّ ، ولا أقول ينقرض، ولا أشعر يوماً إلاّ أنني
مثله!عبرت يوماً في حياة هذه المدينة،وسأتبخرمن مشهدها !!.
لكن مدفأة أنيني سارعت ودقّت أحرف كلماتي،على أسطر دفتري ، كما تدق
المسامير الصلدة في بوابة القلعة وقالت:
إن زائريك كانا من نوع ذلك السحاب الذي يبطن نذراً، ولا يحمل بأحشائه
أي غيث !!.
فأصبحت الشمس من يومها ترسل دخاناً فتصبغ به كل شيء!
وأردف صديقي الكاتب بدون توقُّف:
أماالحكاية الثانية:
فالأسئلة التي وجِّهت لي من زائري عن المصاب الذي عُدتُهُ، كانت تستفسر عن
كسور،بينما كنت ذاهباً لأرى إصابات شظايا قنبلة. فما السبب في اختلاف
التقدير؟هناك أمر ما، أو هناك سرٌّ وراءالاختلاف، أنا أجهله؟
والحكاية الثالثة:
كنت أراقب سقوط أول ورقة خريف، كما طلبت مني صاحبة صحن الشوكولاته
والتي قدّرتُ وافترضتُ أنها هي، وزّعتُ مناوبتي ما بين القرفصاء حيناً،
والمشي البطيء ذهاباً وإياباً حيناً آخراً.
كنت بذهني موغلاً في المشهد الأخّاذ،مأسورًا وغائباً ومتحفزاً،أشيرلنفسي هنا
موقع السقوط،وربما هناك في ذلك الركن الهادئ! وأصرّ على نفسي وأشدد
عليها بكل عزم، لو أن ورقة سقطت في عرض النهر، وكانت مطابقة بألوانها
ألوان ظفيرة من شعرها المتمرد، لما ترددّتُ من إنقاذها والإتيان بها!
ضربني أحدهم على ظهري، ثم قبض آخربقوة على يدي اليمنى، لم يمهلاني
لأكمل سؤالي ماالذييريدانه مني، استقبلني الثالث وجرني بقوة جنونية إلى قلب
سيارة رمادية، ثم انطلقت السيارة بجنون أكثر !!!
هذا كل ما استطعت إعادة تذكره، وهذا كل ما تجمع في ذاكرتي عن تلك
الساعة الخاطفة.......
الخلاصة العابرة الرابطة بين الحكايا الثلاث:
أربعةعشر عامًا عزلتني عنوة عن فصول خريف كل تلك السنوات ، لم
أر فيها إلاّ لونين يتيمين لاثالث لهما، يتناوبان على مخزن ذاكرتي المكدّرة
الحزينة ، الأسود وصاحبه الرمادي، في زنزانة مخفية الزمان والمكان.
الجرم والاتهام والحكم:
كتابة ونشر ثلاث قصص من وحي الخيال،للإمتاع والتهذيب، تتضمن
إعلاناً بشغف زائد لمدينة هادئة من بلاد الشام، تزداد جمالاً في فصل الخريف.
النهاية والبداية:
استبدل صديقنا الكاتب الحديث عن الخريف بالحديث عن أطول فصل عاشه
قسراً بلون واحد، في مكان واحد، في زنزانة واحدة، كان طوله أربعة عشر
عاماً ، في مكان سيئ السمعة، كان كذلك في بلاد الشام.
وسوم: العدد 678