مصر: البلاد مسلسل تديره أجهزة المخابرات؟

لدى الشعب المصري قدرة هائلة على التعامل مع الظروف الصعبة بشكل ساخر، وعلى استخدام الفكاهة لتخفيف وطأة مشقات الحياة، ويبدو أن أصحاب المقامات العليا في البلاد أصبحوا يضيقون حتى بهذه الفسحة التي يلجأ إليها الفقراء و»الغلابة» بل ويضيقون بالتغريدات والنكات وشرائط الفيديو التي تعبر عن مبادرات فرديّة فحسب، فينال أصحابها، إذا وقعوا في شباك المنظومة الأمنية – القضائية عقوبات فظيعة.

آخر حلقة في هذه السلسلة كانت إلقاء قوات الأمن المصرية، أول أمس الخميس، القبض على ثلاثة أشخاص جريمتهم كانت أنهم سخروا من موجة الغلاء الأخيرة وارتفاع أسعار السلع والمواد في مصر، وذلك بفيديوهات غنائية تداولها الناس على تطبيقات التواصل الاجتماعي، وفي خطوة يمكن نسبتها إلى الكوميديا السوداء، لم تجد نيابة أمن القاهرة تهمة لهم أفضل من «نشر أخبار كاذبة» وكأن عناصر النيابة والشرطة والسجانين لا يعانون هم أيضا من غلاء الأسعار ولم يسمعوا به!

أنشأ الثلاثة، وهم من حراس البنايات، مع صديق لهم، قناة على تطبيق تواصل أسموها «ظرفاء الغلابة» ويبدو أن حسن حظّهم الذي أوصل مشاهدات أحد هذه الفيديوات الساخرة إلى عدة ملايين انقلب سوء حظ لأنه لفت أنظار المخبرين وأجهزة الأمن التي تعتبر أن أي رأي يمكن أن يصل إلى الناس، خطر يهدد النظام.

سجّلت جمعيات حقوقية مصرية وعالمية اعتقال أشخاص بسطاء عائدين من بلدان الاغتراب بسبب رأي لم يعجب أحد المخبرين على وسائل التواصل، كما حصل مع عادل دهشان، اختصاصي التخدير الذي يعمل في الإمارات، وحسام إبراهيم، الذي كان يعمل في السعودية، وكانا أسوأ حظا من «ظرفاء الغلابة» فإضافة إلى تهمتي «نشر أخبار كاذبة» و»إساءة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي» فقد وجهت لهما تهمة «الانضمام لجماعة إرهابية»!

تزامن خبر سوق «الغلابة» إلى سجن أبو زعبل مع حلقة جديدة من مسلسل «الاختيار 3» الذي أثار جدلا كبيرا بين المصريين، يكشف فيها المسلسل تسريبا جديدا سجلته المخابرات الحربية المصرية سرا، ويعرض نقاشا بين الرئيس المصري الأسبق الراحل محمد مرسي، ومسؤول في جماعة «الإخوان المسلمين» وكان المسلسل قد نشر قبلها تسريبات أمنية أخرى، يحذر مرسي في أحدها وزير الدفاع حينها، المشير طنطاوي، بحضور الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي، من التلاعب بنتائج الانتخابات الرئاسية.

معلوم أن هناك صندوق استثمار مملوكا لجهاز المخابرات العامة المصرية يمتلك شركة إنتاج دراما، وأن هذه الشركة مسؤولة، عن التنسيق بين المخابرات وصناع الدراما، وأن صناع الدراما، والمؤلفين وكتاب السيناريو، يتلقون تعليمات من هذا الجهاز تركز على تقديم صورة مثالية عن ضباط الجيش والشرطة المصريين، وإظهار «ما هو إيجابي» في مصر، وقد انعكس ذلك في السنوات السابقة على نوعية المسلسلات وسيناريوهاتها وأبطالها، ويمكن اعتبار مسلسل الاختيار المذكور، نموذجا لهذه العلاقة الوثيقة بين تعليمات المخابرات والدراما المصنوعة.

وصل الأمر إلى حد اعتقال من يحاول التشكيك في وقائع تلك المسلسلات، أو حتى في أداء الممثلين، وخصوصا من يمثل دور الرئيس السيسي، كما حصل مع محام مصري يدعى نبيل أبو شيخة، اعتقل لأنه تهكم على المسلسل وعلى أداء ياسر جلال، وقد حظي هو أيضا بتهمتي الانضمام لجماعة إرهابية ونشر أخبار كاذبة.

مفهوم أن تعمل هذه المسلسلات على تقديم الواقع كما تراه أجهزة المخابرات، وفي ضوء سيطرتها العامة على الواقع والخيال، لكن العجيب أن تصبح البلاد، بأكملها مسلسلا يجري ترتيب أحداثه بحيث يصعد ما يناسب أصحاب الأمر إلى الواجهة ويزج بكل من يزيح عن تلك الرؤية بتهمة «الأخبار الكاذبة» أو «الانتماء لجماعة إرهابية»!

وسوم: العدد 978