عن التعاون العسكري الباكستاني – التركي المقلق للغرب
عمليا، يوجد نوعان من الأخبار، القسم الأول، هو الذي نتداوله يوميا وتهتم به عامة الناس، والنوع الثاني تلك الأخبار التي تسترعي انتباه عامة الناس، ولكنها في المقابل تحظى باهتمام ملحوظ من مختلف الدوائر الدبلوماسية والسياسية والعسكرية والاستخباراتية والاقتصادية الدولية، وذلك لسبب بسيط، أنها مرشحة للمساهمة في إحداث تغيير قد يكون كبيرا أو متوسطا أو صغيرا.
وعلاقة بالنوع الثاني، يتخذ بعض من هذه الدوائر قرارات تصل إلى الدعم، أو العرقلة، بل إلى مستوى الاغتيال في بعض الحالات، لاسيما في حالة الاتفاقيات السياسية الكبرى، أو اتفاقيات التعاون العسكري، وذلك انطلاقا من وعي الغرب والكيان بأن الصناعة العسكرية هي إحدى الأدوات الفاعلة في التغيير الجيوسياسي وبالتالي التاريخ. وعادة ما تمر الأخبار من الصنف الثاني من دون اهتمام من طرف الرأي العام. وفي هذا الصدد، نستحضر مثالا بامتياز هذه الأيام لم يسترعِ الانتباه كثيرا، وهو خبر الاتفاق العسكري الباكستاني – التركي على تطوير طائرة مقاتلة من الجيل الخامس، ثم تطوير مسيرات، أي السلاح الجديد الذي يقلب الكثير من معادلات ومفاهيم الحرب، الحالية والمستقبلية.
وعليه، يتكثّف التعاون بين تركيا وباكستان في قطاع الدفاع منذ سنوات، وخلال هذه الأيام جرى الإعلان عن إنشاء مصنع مشترك مخصص لإنتاج مقاتلة KAAN، وهو مشروع كبير في مجالي التسليح والفضاء. وتعد مقاتلة KAAN، التي طورتها شركة الصناعات الجوية والفضائية التركية (TAI)، مقاتلة من الجيل الخامس، تمثل نقطة تحول استراتيجي لتركيا في سعيها لتحديث قواتها الجوية، وتعزيز صناعتها العسكرية. وتحقق الصناعة العسكرية التركية قفزة نوعية مدهشة، إذ خلال عقد واحد نجحت في صناعة مسيرات من نوع بيرقدار، التي تنافس المسيرات الأمريكية والصينية، وقد تنتقل إلى مقاتلات الجيل الخامس. وهكذا، يلتقي بلدان لهما طموحات عسكرية كبيرة، يتوفران على قاعدة كبيرة من المهندسين والخبراء في الصناعة العسكرية، واكتسبت تركيا تجربة في التعاون العسكري مع الغرب، فقد كانت شريكة في صناعة عدد من الأسلحة ومنها، أف 35 الأمريكية قبل طردها من المشروع، بسبب شرائها منظومة الدفاع الجوي إس 400، بينما اكتسبت باكستان تجربة مع الصين، لاسيما في صناعة المقاتلة جي أف 17. وأصبح البلدان يحتلان مكانة نوعية في الصناعة العسكرية الحديثة، أي المسيرات والصواريخ. ويراهنان الآن كثيرا على التعاون العسكري، لأنه سيشكل لهما استقلالية في مختلف الحاجيات العسكرية، ولاسيما المقاتلات. إذ ترفض الولايات المتحدة بيع تركيا مقاتلات أف 35، وتماطل في المصادقة على بيعها مقاتلات أف 16، وتحديث أخرى توجد مسبقا في الأسطول التركي. ومن جهتها، تريد باكستان تعميق التعاون مع دولة إسلامية في صناعة السلاح وهي التي عانت من رفض الغرب بيعها أسلحة نوعية. ويحمل هذا التعاون تطورات جيوسياسية، لاسيما في الشرق الأوسط ستتبلور بشكل لافت في المستقبل. ومن أبرز هذه التطورات:
في المقام الأول، يمثل إنشاء مصنع مشترك لإنتاج الطائرة KAAN علامة فارقة في التعاون العسكري بين تركيا وباكستان. وتتجاوز هذه الشراكة الاستراتيجية مجرد الإنتاج المشترك للطائرات المقاتلة نحو أسلحة أخرى مثل، الصواريخ والقنابل، وكل هذا هو جزء من مشروع أوسع يهدف إلى تعزيز الاستقلالية العسكرية لكلا البلدين، وتعزيز التطور التكنولوجي المشترك، كما ذهبت إلى ذلك مجلة «غلاكسيا ميليتاري». كما يعتبر المشروع خطوة عملاقة في التعاون العسكري الموجود مسبقا ومنذ سنوات إلى مستوى أن تركيا تحولت إلى المصدر الثاني للسلاح الباكستاني بعد الصين.
يعتبر التعاون العسكري، وهو أعلى مرتبة في الثقة بين الدول لأنه يعني تبادل الأسرار العسكرية، مقدمة للتفاهم في القضايا الإقليمية والدولية، من خلال اتخاذ قرارات متفق عليها بدل الارتهان للقوى الكبرى
في المقام الثاني، يعتبر التعاون العسكري، الذي هو أعلى مرتبة في الثقة بين الدول لأنه يعني تبادل الأسرار العسكرية، مقدمة للتفاهم في القضايا الإقليمية والدولية، من خلال اتخاذ قرارات متفق عليها بدل الارتهان إلى القوى الكبرى دائما.
في المقام الثالث، في ظرف أقل من عقدين، قد تصبح باكستان وتركيا مصدرا مهما للسلاح لمختلف دول العالم العربي والإسلامي وافريقيا. وعمليا، بدأت تركيا تحقق تقدما في هذا المجال نظرا لنجاحها في تصدير عدد من عتادها العسكري مثل المسيرات والمروحيات ومستقبلا الفرقاطات.
وفي المقام الرابع وهو الأهم، يأتي هذا التعاون أو هذه الاتفاقيات لتؤكد مخاوف العالم الغربي من وحدة في الصناعة العسكرية بين الدول العربية والإسلامية. إذ تنبه تقارير الدراسات الاستخباراتية ومراكز التفكير الاستراتيجي، منذ أكثر من عقد أن الغرب قد يواجه سيناريو صعبا في حالة تعاون بين تركيا وباكستان، وامتد التعاون وإذا انضمت لهما إيران في مجال التصنيع العسكري. فهذه الدول الثلاث تمتلك من العلماء في الرياضيات والفيزياء والكيمياء والمعلوميات، نسبة عالية لتحقيق النجاح في أي مشروع، لاسيما وأنها دول ذات كثافة مرتفعة وجامعات محترمة قادرة على إفراز آلاف العلماء النوعيين سنويا. وليس من باب الصدفة إصرار الغرب على استقطاب علماء من الدول الإسلامية، نوابغ في الصناعة العسكرية، أو الاغتيال في بعض الأحيان. ويتفاقم قلق هذا الغرب، في حالة ما إذا انضمت الدول الخليجية، وعلى رأسها السعودية، في تمويل مشاريع الصناعة العسكرية. ويتمظهر قلق الغرب في الدور الذي يلعبه السلاح التركي والإيراني «المسيرات والصواريخ» في حرب أوكرانيا، في سابقة من نوعها في تاريخ الحروب خلال القرون الأخيرة، أي الاعتماد على سلاح مقبل من الجنوب، وليس من الشمال. ويعمل الغرب على الحد من تطور الصناعة العسكرية التركية برفض مدها ببعض المعدات أحيانا التي تدخل في صناعة السلاح، ويحاول عبر مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الحد من تطور مدى الصواريخ الإيرانية وبحظر بيعها لدول ثالثة.
في غضون السنوات المقبلة، سنسمع بصفقات ضخمة موقعة بين دول عربية والثنائي التركي – الباكستاني، وهو مسلسل بدأ منذ سنوات بعدما بدأت دول عربية تفضل السلاح التركي، خاصة في المسيرات على الأمريكي. وقتها سنشهد منعطفا في العلاقات الجيوسياسية في الشرق الأوسط والعالم العربي، لأن السلاح هو الذي يشكل خريطة العلاقات الدولية، ويدفع بدولة ما نحو استقلالية القرار أو التبعية.
وسوم: العدد 1113