الرياء السياسي

أ.د. عبد الرحمن البر

أ.د. عبد الرحمن البر

أستاذ الحديث وعلومه بجامعة الأزهر

وعضو مكتب الإرشاد بجماعة الإخوان المسلمين

وعضو الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين

ذِئْبٌ تَرَاهُ مُصَلِّياًً     فَإِذَا مَرَرْتَ بِهِ رَكَعْ!

يَدْعُو وَجُلُّ دُعَائِهِ:    مَا لِلْفَرِيسَةِ لَا تَقَعْ؟

عَجِّلْ بِهَا يَا ذَا الْعُلَا   إِنَّ الفُؤَادَ قَدِ انْقَطَعْ!

وَإِذَا الْفَرِيسَةُ خُلِّيَتْ   ذَهَبَ التَّنَسُّكُ وَالْوَرَعْ

إن بعضَ الممارسين للعمل السياسيِّ والوطنيِّ يمارسون هذا العملَ الذي يمارسه الذئبُ المذكورُ أعلاه، فهم لا يَبْغُون في الواقع إلا تحقيقَ مصالحَ ذاتيةٍ أو حزبيَّةٍ، لكنَّ لهم قدرةً عجيبةً على تقديمِ صياغاتٍ لفظيةٍ تُشْعِرُك بنزاهةٍ عاليةٍ وتجردٍ واضحٍ وحسٍّ وطنيٍّ عالٍ وضميرٍ دينيٍّ يَقِظٍ، فإذا اقتربتَ من واقعِهم الحقيقيِّ ولامَسْتَ طموحاتِهم الفعليةَ هَالَكَ هذا القَدْرُ  الضخمُ من الرِّياءِ الأخلاقيِّ والوطنيِّ والسياسيِّ.

تسمع خطاباتِ أحدهم وتقرأ  مقالاتِه فترى وطنيًّا يحترق غِيرَة على هذا الوطن، ويودُّ لو افتداه بروحِه وبكلِّ ما يملك، مُعلِناً عن زهادةٍ واضحةٍ في المناصبِ، ومتأفِّفاً من المتزاحمين على أبوابِ السلاطين، ومؤكداً أن خدمةَ الأوطانِ لا يلزم أن تكونَ عبر العضوية في مجالسِها الرقابيةِ أو التنفيذيةِ، ولا ينسى – كلما وجد مناسبةً – أن يذكِّر قراءَه ومستمعيه بتاريخِه النضاليِّ ومواقفِه البطوليَّةِ والوطنيَّةِ التي لا يريدُ من الوطن عليها جزاءً ولا شكوراً، ويكاد القراءُ والمستمعون أن يقولوا: هذا هو المخلصُ لهذا الوطن والأجدرُ بقيادتِه،  فإذا أشير إليه ببارقةِ أملٍ في أي منصبٍ صغُر أو كبُر نَسِيَ ما كان يدعو إليه مِنْ قبلُ، وتحوَّل الثائرُ الناقدُ للأوضاعِ الفاسدةِ إلى حكيمٍ يحدثُ الناسَ عن الواقعيةِ السياسيةِ وعن الغايةِ النبيلةِ من وراء قبوله المشاركةَ مع المفسدين، من أجلِ الإصلاحِ من الداخل وإبلاغِ صوتِ الأمة لمتخذي القرار، وما هي إلا الفرصةُ التي كان ينتظرُها ويدعو بها في سِرِّه قد واتتْه فلا يريد تفويتَها، وما حالُه إلا كما قال القائل:   

إذَا هَبَّتْ رِيَاحُك فَاغْتَنِمْهَا             فَإِنَّ لِكُلِّ خَافِقَةٍ سُكُونُ

وَإِنْ دَرَّتْ نِيَاقُك فَاحْتَلِبْهَا              فَمَا تَدْرِي الْفَصِيلُ لِمَنْ يَكُونُ

وكأنما كان كل ما يُظهره من زهادةٍ وما يعلنُه من تجردٍ حيلةً تفتحُ له الطريقَ إلى غاية في نفسه وأملٍ طالما انتظره، وبعد أن كان يُعطي دروساً في الوطنيةِ الصادقةِ يصبح ناراً تلظَّى على رفاقِ الأمسِ وشركاءِ الكفاحِ الطويلِ، وينعتُهم بكل قبيحٍ، حتى لو وصل الأمر إلى اتهامهم بالعمل وفق أجنداتٍ خارجية!

والرِّيحُ تَرْجِعُ عَاصِفاً         مِنْ بَعْدِ مَا ابْتَدَأَتْ نَسِيمَا

في التاريخ: يذكر لنا التاريخ نماذج كثيرة من هذه الفئة، فقد كان عبد الملك بن مروان قبل ولايتِه ملازماً للمسجدِ الحرام، مواظباً على الصلاةِ وقراءةِ القرآن، حتى سمَّوْه حمامةَ المسجد، فلما جاءه خبرُ ولايتِه، كان المصحف في حجره يقرأ فيه، فأغلقه ووضعه، وقال: هذا فِرَاقُ بينِي وبينِك.

في الواقع: أما الواقع فالأمثلةُ أكثر من أن تحصى، فهذا زعيمٌ معارضٌ لا يكفُّ عن الحديثِ عن فسادِ النظامِ وتزويرِ إرادةِ الأمة، ثم يُدْعَى لعضويةِ المجلسِ المزوَّرِ فلا يتردَّدُ في قبولِ العضويةِ ولو على غير إرادةِ الحزبِ الذي يتزعَّمه، ويصرخُ مع كل المعارضين الوطنيين من هَوْل التزويرِ الفاضحِ في الجولةِ الأولى من الانتخاباتِ، ثم يرفض أن ينسحبَ من الجولة الثانية؛ أملاً في تبوئ منصب زعيم المعارضة في المجلس المزور. وهذا عضو في حزب معارض يرى التزويرَ الفجَّ في الانتخابات ويُدْعَى إلى مشاركةِ الوطنيين في جولةِ الإعادةِ فيُلوِّح له المفسدون بالاستمرار في تمثيلية الانتخاباتِ مقابلَ ضمانِ تزوير المقعدِ لصالحه، فيملأُ الدنيا صياحاً بأن جماهيرَ الدائرةِ هي التي ضغطتْ عليه وألجأتْه إلى الاستمرار؛ لأنه لا يملكُ أن يصادمَ رغباتِ شعبِه أو يتأخرَ عن التضحيةِ من أجلهم!. وهذا فقيهٌ دستوريٌّ طالب الثُّوارَ بالعودةِ إلى المنازلِ عندما اختاره المخلوع حسني مبارك ليكون عضواً في لجنة التعديلات الدستورية الأولى، فلما سقط النظامُ وتم تشكيل لجنة برئاسة المستشار طارق البشري ولم يكن عضواً فيها شنَّ هجوماً لاذعاً على اللجنة ثم على التعديلات؛ بحجة تعارضها مع الشرعية الثورية!

وهؤلاء زعماءُ أحزابٍ وسياسيون لا يكفُّون عن الزعم بجماهيريتهم الكبيرة وبقبولِ الأمةِ لبرامجِهم، ويزعمونَ أنه لولا التضييقُ عليهم من قِبَل النظام البائدِ المخلوعِ الذي حال بينهم وبين اللقاءِ المباشرِ بجماهيرِ الأمةِ بعيداً عن المقرَّات الحزبيةِ الضيقةِ لكان لهم شأنٌ آخر، فلما زال النظامُ بفسادِه وأجهزة قمعِه، وانفتحت الأبوابُ على مصاريعِها للتواصل مع جماهير الأمة، وانطلقت القوى الحيةُ تعرض نفسَها وبرامجَها على الأمة؛ انكفؤوا هم في مقراتِهم وفضائياتِهم وأعمدتِهم الصحفية يسفهون ويصبُّون الملاماتِ واللعناتِ على التيارِ الإسلاميِّ الذي اجتذبَ الجماهيرَ بخطابِه المقبول، واحتضنتْه الأمةُ لما رأت إخلاصَ المنتسبين إليه، ومال إليه الشباب والشيوخ لما رأوا في طرحه الوضوحَ والعقلانيةَ والرُّشْد، وانطلقوا هم يسفِّهون خياراتِ الشعب الذي طالما تَغَنَّوْا بحكمتِه وذكائِه وعبقريتِه وقدرتِه على التمييزِ بين الغثِّ والسمين، ثم اكتشفوا في النهاية أن هذا الشعبَ الحكيمَ أعقلُ من أن تخدعَه كلماتُهم المزوَّقة أو تغرَّه شعاراتُهم البرَّاقة، وأنه ينحاز إلى مَنْ شاركوه همومَه فعليا، وقاسموه آلامَه وآمالَه حقيقةً، وكانوا أقربَ إليه في كل حال، وقدَّموا له برامجَ وطنيةً واقعيةً مقنعةً، ولم يخاطبوه من أبراجٍ عاليةٍ، ولم ينظروا إليه باستعلاءٍ، ولم يُميِّزوا في الحقوقِ الوطنيةِ بين حاملي الشهاداتِ العليا وغيرِهم، فالجميعُ يحملون شهادةَ الوطنيةِ المصريةِ التي تجعلهم على قدم سواء.

ومن أعجب صور النقد للتيار الإسلامي ما ذكره أحد المثقفين من أنه كان يُقدِّر الإخوان المسلمين قبل الثورة ويحسُّ بمظلوميَّتِهم ويدافع عنهم، غير أنه قرر أن ينفض يده من أيديهم حين اكتشف بعد الثورة أنهم جماعةٌ من الانتهازيين، بدليل أنهم قبلَ الثورة كانوا يدعونه لحضورِ الإفطارِ السنوي، فلما أقاموا الإفطارَ هذا العام فاتهم أن يدعوا سيادتَه!

إننا في حاجةٍ أيها السادةُ إلى التعاملِ وفق المبادئ قبل المصالح، وأن نقدم سياسة التربية على التربية السياسية، وأرجو أن يكون حزبُ الحرية والعدالة نموذجاً رائداً في هذا المجال، وأن يقدم أدلةً واقعيةً على أنَّ من الممكن بل من الواجب ممارسةَ السياسةِ والعملِ الحزبيِّ مع الالتزام بالضوابط الأخلاقية والثبات على المبادئ الدينية والوطنية والإنسانية، وبعيداً عن الميكيافيلية والرياء السياسي والخداع اللفظي، والسعيَ الحقيقيَّ لتقديم مصالحِ الوطنِ على مصالحِ الأشخاصِ والأحزابِ والتيارات، والاجتهادَ في الممارسة السياسية التي تنشغل بتقديمِ الخيرِ والعمل النافعِ للأمةِ، بدلاً من تضييع الوقتِ في المهاتراتِ وتصيُّد الأخطاء وكَيْلِ الاتهاماتِ والتماسِ العيوب والعثرات للبرآء، والمسارعةِ بتخوينِ المخالفين في الرأي.

إنَّ الوطنَ الذي نسكنُه ويحيا فينا أكبرُ من كل المهاتراتِ السياسيةِ، وأعزُّ من كلِّ التوجُّهاتِ الحزبيةِ، وأعلى وأهمُّ من كلِّ المنافعِ الضيقةِ الذاتيةِ أو الحزبيةِ، وهو في حاجةٍ إلى الوطنيين المخلصين، لا إلى اللاعبينَ المحترفين، الذين هم يراؤون، ولكل الموجات يركبون، وعلى المطامع والمناصب يتنافسون، فهؤلاء عبءٌ على الأوطان لا خيرَ فيهم، ولا نفعَ يرجى من ورائهم. 

وَرَاعِي الشَّاءِ يَحْمِي الذِّئْبَ عَنْهَا       فَكَيْفَ إِذَا الذِّئَابُ لَهَا رِعَاءُ؟

حمى الله وطننا العزيز مصر من الشر والأشرار، وجمع قلوب المخلصين لها على العمل الجاد الصادق من أجل رفعتها ونهضتها.