الانتقائية في الخطاب الإسلامي (المعتدل)
الانتقائية في الخطاب الإسلامي (المعتدل)
د . أسامة عثمان - كاتب وباحث من فلسطين
نضطر إلى الخضوع للتسميات الغربية والتصنيفات غير الموضوعية، حين نقسم الناس إلى معتدل ومتطرف ؛ إذ لو ظلت تلك الألفاظ على طهارتها ، لما كان في ذلك ضير . ومهما يكن ، فليس همّنا هنا أن نتصدي لهذه الإطلاقات والمقصود منها .
وإذا تجاوزنا الألفاظ إلى مسمياتها ، وإلى من يُعرفون بالمعتدلين تحديدا، فإنك تذهل من تطرفهم في اعتدالهم ؛ ذلك حين يكونون شديدي الانتقائية ، فيسلطون معالجاتهم على الفرد وعيوبه التي لا تنتهي ، بدعوته إلى التسامح والتعايش ونبذ العنف والتطرف ، وضرورة الطاعة لولي الأمر ، وعدم جواز الخروج عليه ...
وينسون خراب المجتمعات والدول ؛ فلا يتحدثون عن تقصير الحاكم ، أو ظلمه لشعبه ، أو تفريطه بمقدسات أمته ، أو السماح باستباحة أرض المسلمين من قوات أجنبية معتدية ، واتخاذها منطلقا وقاعدة لضرب الإخوة في البلد المجاور ، ناهيك عن الاستهتار الذي يمازج تصرفات أولئك الساسة تجاه حقوق مواطنيهم البدهية في العيش الكريم ... فضلا عن التخلف المقيم الذي تعانيه الشعوب العربية والإسلامية ... وهنا يحق للمرء التساؤل ؛ هل بلغ هؤلاء الحكام درجة تسمو على المحاسبة والمساءلة ؟! هل ارتقوا مرتبة أعلى من مرتبة الفاروق عمر ، حين تقبّل المحاسبة والمساءلة الصريحة المعلنة من امرأة وأعرابي ؟! أم أن أولئك ( المعتدلين ) لم يبلغوا جرأة تلك المرأة والأعرابي ؟!
ولنأخذ مثلا على تلك الانتقائية المستفزة فكرة التعايش التي ما فتىء الأستاذ عمرو خالد يدعو لها ، ولن أخوض في مادته التي يستقيها من التاريخ الإسلامي ؛ إذ ليست المشكلة في صوابيتها أو بطلانها ، إنما السؤال عن الهدف المرجو من توقيت اختيارها ، وهو عكس ما يتطلبه الواقع الذي يتوسع فيه الاحتلال قضما في البلدان الإسلامية بلدا تلو البلد ؛ فهل نطلب من أهل فلسطين التعايش مع الاحتلال ( الإسرائيلي) ؟! أم نطلب من الأفغان المنكوبين التعايش مع الاحتلال المتعدد الجنسيات ؟! أم نطلب من أهل العراق التعايش مع الاحتلال البريطاني والأمريكي الذي يعلن عن تصميمه على البقاء في العراق عسكريا إلى أمد غير قريب ؟! أم تراه يطلب من المسلمين الواقعين خارج تلك البلدان المحتلة أن يتعايشوا ويتقبلوا واقع احتلال تلك البلدان ، حتى يأتي دورهم ؟!
هل التعايش ما يحتم الشرعُ والواقع توجيهه للشباب وغيرهم ؟! أم أن اللازم الآن هو بث الروح الجهادية ومعاني التضحية والكفاح حتى تُسترد الحقوق ، وتحفظ الحرمات ، وهل كان العلماء الأجلاء ، زمنَ الهزائم والتراجعات والاحتلالات التي أصابت بلاد المسلمين يقتصرون على مفاهيم التعايش والتسامح ؟! أم أنهم ضربوا بأنفسهم أروع الأمثلة في الكفاح والجهاد والحض عليه ، كما فعل الشيخ العز بن عبد السلام وشيخ الإسلام ابن تيمية وغيرهما من العلماء العاملين .
وللشيخ عائض القرني مقالات تتابعت على " الشرق الأوسط " تتمحور حول التسامح والانشغال بالنفس عمن سواها ، وآخرها مقال بعنوان " كن هابيل ولا تكن قابيل " يقول فيه : " دع الظالم يلقى حتفه أو يسلط الله عليه أظلم منه، واتركه للأيام والليالي، يقول المثل الصيني: «اترك عدوك وقف على شاطئ النهر، فسوف تشاهد جثته تمر بك»، لا تحاول فتح ملفات العداوات، لا تقم للناس محاكم تفتيش في صدرك، لا تُذهب حياتك الغالية في التربص بالآخرين والاقتصاص منهم، كل دقيقة تصرفها في عداوة، إنما هي كأس من السم تتحساه، سوف تجد أن الحلم والعفو أقوى سلاح أمام أعدائك "
صحيح أنه قد يقال إن الشيخ إنما قصد العلاقة بين المسلمين بعضهم بعضا ، ولكنه عمم ، ولم يوضح ما يتطلبه الموقف ؛ لأن هذا الظالم قد يكون حاكما ، وحينها يطال ظلمُه الأمة بأسرها ، ما يوهن من عزمها ، ويَفُتُّ في عضدها ، ويُذهِب أَنَفتها ، ويُعوِّدها الصغار والاستكانة ، فلا يجوز لها أن تقبل هذا الظلم ، أو تتسامح فيه ،وفي الحديث : " إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم يا ظالم فقد تودّع منهم" وقال عليه الصلاة والسلام أيضا : " إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا بيده أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه " وهذا بخلاف حقوق الأفراد التي يقبل فيها التسامح والتهاون ، وفق ضوابط ... جاء في صحيح البخاري : "باب الانتصار من الظالم لقوله جل ذكره : " لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا بصيرا { النساء : 148 } " والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون { الشورى : 39 } "
قال إبراهيم كانوا يكرهون أن يستذلوا، فإذا قدروا عفوا. " فحتى ظلم الأفراد لا ينبغي أن يُتسامح معه إلا عن اقتدار وعفو ، لا عن ذلة ومسكنة .
وقد يكون هذا الظالم دولة غاصبة ، أو محتلة طامعة ؛ فلا يحل مطلقا التسامح معها ؛ لأنه لا يملك أحد أن يتسامح في حقوق لا يملكها ؛ بل يتوجب في الحالتين السابقتين العمل على رفع الظلم .
وبعد فهذه لفتة خاطفة نأمل أن تلقى قبولا وانتباها ، وهي تؤكد على أن الخطأ يكمن في هذا الاجتزاء ، وإننا لا نقول إن تلك المفاهيم من تسامح وعفو واهتمام بإصلاح العيوب هي خطأ بحد ذاتها ، ولكن الاقتصار عليها دون ما يكملها يعد انتقائية محكومة بنفعية فردية ومراعية رضى جهات معادية لهذه الأمة ، تبغي تحنيط وضعها وتأبيده . وإن المرء ليخشى أن يعد هذا من قبيل كتمان العلم ، أو التقاعس عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اللذيْن تتضاعف مسؤوليتُهما على العلماء.