حراك ثقافي فاشي

حراك ثقافي فاشي

بقلم: محمد السيد

في دجى الحراك المجتمعي ، لا تتضح الطريق إلا لصاحب عينين لا تناما من التبصر ، فلا ليل الأماني قيّد عقله بالخيالات ، ولا عفن أقبية فكر التبعية والتقليد زلّ بقدميه إلى حيث موت الأفكار على حافات التهافت الأعمى ..

وها هي الجراحات مفتوحة على البوح المباح ، حيث يستطيع حمق الكلمات أن يدعي الحقيقة الأبدية ، في جملة مجنونة منتشرة انتشار النار في هشيم الصحافة والفكر المسطح : ( إن الإسلام لا يقبل الحداثة ، والحل في نبذه والأخذ بما عند الغرب من حراك ثقافي ) ...!!

   ينبعث مثل هذا القول الخواء ، وكأنه استكشاف روادٍ لا يُبارَوْن ، وذلك عند كل نازلة تحل في ديارنا ، أو عند كل حالة حوار تقارن بين شرق وغرب . وفي زحمة المطروحات على وجه القراطيس السوداء ، وفي حملة الضجيج المصلوب على خشبة الافتعال والانفعال ، تغيب الحقيقة في طيات مثل هذا الحراك الثقافي الفاشي ، الذي يعيدك فوراً إلى ضجيج عصور تَصرَّمت ، بعد أن ألقت رواسي من خصام نكد بين ناسين ؛ ناسٍ في عالم سمي شرقاً ، وناسٍ في عالم سمي غرباً ، حاز قوة ، يحاول من خلالها في عصرنا الحاضر " شيطنة موسعة للمنتسبين لحضارة الإسلام . لا نبالغ إذا قلنا إنها تفوق في حدّتها وخبثها وشراستها ما كان عليه الأمر أثناء التجييش ضد المحمديين خلال الحروب الصليبية " ( على حد تعبير د. عز الدين عناية في القدس العربي 18/5/ 2004 )

   والألم الممض ، والوحشة الكؤود ، أنك ترى وتسمع ، وتقرأ عن جحافل من بني قومك ، يمتطون ظهر وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمشاهدة ، مفتوحة لهم أبوابها من دون الناس ، يبشرون بهذا الذي تؤتى منه الأوطان والأديان والأخلاق والثقافات ، ويسومون وجه التاريخ بأنواع المفتريات ، ويغزون بحراكهم الفاشي روح الحقيقة ، محاولين بذلك كله _ تحت شعار الإنقاذ _ ممارسة طقوس الموت في ساحة الأمة ، محترفين صناعة تزييف الحقائق ، وتزيين الاندثار ، أو كما يقولون بالأمثال ( يرشُّون على الموت سكراً ) ، و الأدهى والأمرُّ من ذلك ، أن هؤلاء يجدون التكريم من الجهات الثقافية الرسمية وغير الرسمية أينما حلُّوا ، وتُرفع قاماتهم بشتى الألقاب والمناصب ، وتُبارك كلماتهم ، لتضج الآفاق بها ، فتبلغ السبع الطباق ، ظناً من أصحاب البهلوانات الثقافية الفاشية أن هذا الذي يفعلونه سوف يؤتي أكله ، وتغرق الساحات بثماره النتنة ، وما علموا أن السنة الربانية الماضية تقول : (( ... ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار .. )) . ويبقى الحق ينثر أنواره من مصباح مشكاة مبارك ، مبتكراً فضاءات الشهادة الكلمة ، التي تهدهد أجفان الرقاد ، فتبعث البصيرة النافذة ، وتلملم الجراح ، لتنبلج الصحوة ندية عطية نافذة شاهدة فعل

    وبيان ، ولا أنقى ولا أفصح ولا أنكى بالزمان والمكان اللذين يحاولان طمس الخفايا الكامنة في الصدور المتقدة بجمر الحقد على الإسلام ، حيث يموت الوعي في القلب والعقل الغربي ، ويقف ببلاهة عند مفهومه القاصر للدين ، بعيداً عن مفهومه الذي تلخصه الآية الكريمة في قرآننا العظيم إذ تقول : (( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين )) ففي ثقافتنا الحقة البانية لأمتنا السارية في جيناتنا : أن الدين هو الحياة بضفتيها " الدنيا والآخرة " . وما ينكأ قروح الحقد في نفوس أصحاب الثقافة الهيمنية الفاشية ، وأتباعها الذين يقبعون بين ظهرانينا طابوراً خامساً _ هو هذا المدّ العارم من جماهير أمتنا الذي يؤم المساجد كل وقت ويملأ بطاح مكة والمدينة بالملايين كل عام ، ويدفع بجيل الفعل والقول من الشباب إلى الانتماء حتى الالتصاق بهذا الدين ، ومن ثم الاندفاع به إلى ساحات التبليغ ، وساحات الفداء في فلسطين وكل الأرض الإسلامية المحتاجة إلى الإنقاذ ...

أما في ثقافتهم الغربية الفاشية ، التي غيبت الدين في طيات علمانية وحداثة لا أخلاق فيهما ولا قيم ، فالدين لا يكاد يحرك إنساناً إلى كنيسة إلا بمناسبة مهرجانية استعراضية ، لا يخرج منها بأكثر من تأكيد آخر على الحياة الراكضة خلف عولمة تريد أن تفرض قواعدها القاتلة على جميع من في الأرض ، لا من أجل خُلق تريد توكيده ، ولا من أجل قيمة إنسانية تريد تعميمها .. لا .. أبداً بل من أجل أن تكون : " البديل الإلكتروني القهري للاستعمار القديم ، وهي بذلك تختار موقع العدو الأول المناوئ للأحلام الوطنية ، وهو وسيلة تحقيق للمخططات التي تصب في صالح الأهداف الاستراتيجية للقوى الملياردية الخفية " .. استعارة من قول د.حمزة إبراهيم عامر أستاذ الجيولوجيا التطبيقية في مصر .

نعم ، إنها ثقافة فاشية بكل ما تحمله من معنى وظلال ... فهي اليوم ( بشقها الأمريكي ) ، وثقافة الرسالة المقدسة التي يدعي كهنتها حملها ، تريد فرض معانيها وقيمها وأدبها ، وطريقة حياتها ونهبها وسلبها على الجميع،  غير عابئة برأي الآخر ولا بصوته ولا بخصوصيته وكرامته ، مستغلة القوة الغاشمة لعرض وجوه المحافظين الجدد الأمريكيين ( تلامذة "ليوشتراوس" الألماني أحد أركان نظرية التفوق العرقي ) على مسطحات الأرض ، كي ينعم الناس بمخملية الثقافة المحملة على الأباتشي والمندفعة بفعل قنابل اليورانيوم المنضد ، حيث لا تجد لها مكاناً ملائماً تنفجر فيه إلا بين جماهير المسلمين في العراق وفلسطين وأفغانستان ، وحتى بين المواطنين المسلمين في أمريكا وبعض ديار الغرب ، نعم إنه حراك ثقافي فاشي ، ممتلئ بمعلبات تاريخية ، ومتخم بأحلام هيمنة مصدور بأطماع إمبراطورية ، موشى بتقنيات إلكترونية السوق المفتوحة على مزيد من التخمة في طرفه ، ومزيد من الفقر والفاقة في الطرف الآخر ، مدعم بتصفيق أبله أحمق من بعض المارقين في ديارنا .. فلا نامت جراح الشامتين ..!