حداثة التحيز وتحيز الحداثة
حداثة التحيز وتحيز الحداثة
د.محمد سالم سعد الله
تفرض الطبيعة الوظيفية للنص نفسها على مسيرة أنساقه وبنيته ، لأن الناص يشحن اللفظ بكم معرفي يحدد منطلقاته ، ويرسم سلوكاً إنتاجياً لدلالته ، ولذلك غدا النص ميداناً لتغليف الإيديولوجيات ، وساحة لعرض القيم والأفكار، فظهر الخطاب المتعدد المبطن باستقطاب المتلقي ، والمعلن بشرعية الطرح والأخذ والتناول.
ذلك العلن الذي هُيء للتكيف والتحول والتلاعب بمرجعية الاستشهاد ،
وتجليات
الوعي
، ليصل إلى مبدأ التنوع في الأنظمة النصية الموحية بالفكر المهيمن.
ولا شك أن النص الحداثوي ـ الذي يملك مشروعية الديمومة وأفق البقاء ـ يكون تابعاً من جهتين :
الأولى : من جهة المبدع.
الثانية : من جهة النسق الحضاري.
أما الأولى : فالنص ميدان تحميل أفكار المبدع وتصوراته ، والثانية : النص متحيز في جوهره للنسق الحضاري الذي نشأ فيه واستمر بظلاله ، ومن النص إلى الخطاب ، ومن الخطاب إلى المنهج يكمن الطابع التفاعلي للأفكار.
ومعنى ذلك التحيز " انسجام مجمل آليات التفكير والاستنباط المعرفي مع الأنساق الكبرى للثقافة أو الحضارة التي تصدر عنها تلك الآليات "(1) وهذا لا يعني الاطلاق بل المسالة نسبية ـ نوعاً ما ـ إذ القول بتحيز النص أو المنهج أو بالخصوصية الحضارية لكليهما لا يلغي إمكانية الاستفادة ، أو وجود أشياء مشتركة ، فالقول بإلغاء التداول مع هذا النص أو ذلك المنهج ، قول ساذج ومنافٍ لحقائق الفكر والتاريخ ، وما تأتى ذلك من منطق النفي والضدية للآخر ، بل من منطلق التمحيص والتساؤل الذي يدرك معنى الاختلاف والخصوصية ومن الحرص على تماسك الشخصية الحضارية ، ومن الجدير بالذكر أن القول باستقلال النص أو المنهج عن الإطار الفلسفي والغاية النفعية هو إدعاء بانفصال شكل العمل عن مضمونه(2) ، أي انفصال السطح عن الجوهر ، وهذا الفصل قد لا يخدم الجماليات المرجوة من إبداع النص ، بل قد لا يكون هذا الفصل سِناداً في إدراك قيمه.
إذن يشكل فعل النص المُنتج منظومة من العلاقات الإيديولوجية المتكونة بفعل حركة المعنى الخفية التي تربط بين مدلولات النص ، ليأتي دور المتلقي في كشف تلك المنظومة وتحليل عناصرها الأولية للوصول إلى القصد المعرفي الكامن وراءها.
وقد اكتسبت الحداثة نوعاً من
(
الكَوْنَنَة
)
المفتعلة التي تحيل إلى عقلانيتها وتكيفها ضمن إطار
الشمولية التي تقدم للآخر الحلول المرجوة لتسهيل مهمات آليات اشتغالها
المنهجية ، وبهذا قدمت
المناهج النقدية التي اصطبغت بالحداثة وحملت ألوية
:
الحداثوية ، الحداثانية ،
الحداثة ، الحديث ،
…
قدمت طرائق للتحليل ، وآليات للتعامل مع
(
المنظور
/
النص
)
، و
(
غير المنظور
/
ما وراء النص
)
، واختلفت باختلاف
نقادها ،
وتشعبت بتشعب منطلقاتها ، وقد قدمت تلك المناهج ـ ثانية ـ مركزيتها من خلال
مجموع
الوظائف المقدمة لاستكناه جماليات النص ودلالات الخطاب.
ومع ذلك فلا يمكن حمل تلك المنطلقات على البراءة المطلقة في توخي
المعرفة ، بل يمكن مظهرتها من خلال الإخفاء الطاغي على العلن ، والإضمار
الطاغي على
الإظهار
فيها
، وانعكاس الانسيابية الإنتاجية لكل منها.
وقد أكد العديد من النقاد الغربيين أنفسهم على أهمية تضمين
الأبعاد الإيديولوجية بحدودها المتسعة ، لا بل ذهب تيري ايكلتن ـ على سبيل
المثال ـ
إلى أن القول بنقاوة أي نظرية أدبية أو اتجاه أدبي أو منهج نقدي ضرب من
الأساطير
الأكاديمية التي تحاول إيهام دارسيها بذلك ، ويؤكد أن للنظرية الأدبية
ومظاهرها ـ
من نص ومنهج ومبدع
وقارئ ـ علاقة وثيقة بهذا النظام السياسي أو ذلك ، وانتقد ـ في معرض حديثه
عن النظرية الأدبية ـ أقسام الأدب في الدراسات الجامعية الأمريكية لأنها
تشكل جزءاً
من الجهاز الإيديولوجي للدولة الرأسمالية التي تغذي معطيات الحداثة!(3).
ولا ننسى أن المؤسسات العلمية والثقافية والأدبية والفكرية والاقتصادية وحتى السياسية منها ، قد وجدت في أوربا وأمريكا بتوجيه مباشر ـ أو غير مباشر ـ من الرؤية التي صدرت عن العقل الغربي ، ذلك العقل الذي محوّر طروحاته واكتسب مشروعيته عبر مراحله الزمنية الممتدة والتي نسج من خلالها جوهر معطياته محاولاً تضمينها في مختلف نواحي الحياة(4).
وقد كانت فكرة التأكيد على أن الأبنية والأنظمة تتأسس بوصفها
مراكز حضور كامنة في اللاوعي ، كانت مُنطلقاً لتوطيد العلاقة بين النص
والإيديولوجيات المتعددة ، وقد صرح جاك دريدا في قوله
: "
يحدد الوجود كحضور ، حضور
لذاته تحت لواء الموضوع ، أو حضور لذاته تحت غطاء الوعي
"(5)
ومن الجدير بالذكر أن
الحضور عند دريدا يشكل خاصية منطقية استقت واستمدت وجودها من هيمنة الكلام
، ذلك أن
الفلسفة قد أعطت حضوراً متميزاً للكلمة من خلال جعلها محوراً لتموضع
الأفكار ،
وبهذا غدا الخطاب الأدبي نُظماً فلسفية
مغلّقة ، ووثيقة لإدانة العلاقة العلمانية بين النص
والفلسفة ، أو بين النص واللاهوت ، لأن الحاصل هو الرفض العقلاني على صعيد
الوعي ،
ويداخله حضور لا واعي بأهمية
المعتقد الديني وتضمينه في نسيج مدلولات النصوص ،
وقد أطلق فوكو على ذلك
:
رموز
الثقافة
(6).
ويمكن أن نرتسم ما قدمناه من خلال الحديث عن السلوك الإنتاجي
للبنية
والأنساق ، الذي يكتنف الآلية الاشتغالية للبنيوية ، إذ لا يمكن الحديث عن
ذلك ما لم يتم الرجوع إلى الأصول المعرفية التي نشأت في ظلها ، تلك الأصول
التي
مثلت نقطة
انطلاقها ، والبذرة الفلسفية التي اعتمدت عليها في مسيرة تطورها ، ويمكن
إرجاع البنيوية أولاً إلى فلسفة البنية بوصفها كياناً مستقلاً يحدد بتنظيمه
كيانات
اجتماعية واقتصادية
وسياسية ، فضلاً عن كيانات تتحدد بذاتية المكون الإبداعي للنص والخطاب
والقول والأنظمة
اللغوية.
ولابد من التمويه إلى أن الحديث عن ذلك ليس للعرض العقلاني المقرف ، إنما هو تمحيص للمعرفة التي وضعت نفسها في شجرة النقد الشمولي الذي رفع ـ لسنوات ـ شعارات العالمية ، والنقد التجريدي صاحب الصبغة الموضوعية المفتعلة ، وليس ذلك ـ أيضاً ـ مدعاة لمصادرة الجهود والآراء ، إنما بصيصة نص منجب يبحث عن تناصاته بين تراكم العصور والخبرات.
لا تكاد البنية مستقرة على حال ـ في مسيرتها ـ فهي تتسم بخصوصية التحول والحركة المستمرين على طول فعاليته في المحيط الذي تعمل فيه ، وهذا ما جعلها تحمل ـ بامتياز ـ صفة الإشعار الفلسفي ، والتضمين الإيديولوجي ، وهذا ما يفسر لنا ـ أيضاً ـ احتفاء النقاد والفلاسفة بها وعنايتهم بتنظيم حركتها والحد من جموحها ، وخروجها عن المقصد ، وقد بنت البنيوية حلمها على مجموع بياناتها في " السيطرة على المقولات المتناهية للإنسان "(7) ، وعلى سد تلك الثغرات العلمية التي مُنيت بها المعارف المختلفة بتأثير بُناها.
وتوحي فكرة الاعتماد على البنية بإهمال النص ـ مكون البنية ـ والاقتصار على النص بوصفه التظاهرة التكوينية للبنى ، وقد تأتت تلك الفكرة من طروحات نيتشه حول ( موت الإله ) ، وقد ذكر ( روجيه جارودي ) أن إعلان نيتشة عن موت ( الله ) هو كشف عن وحدة الإنسان ، ووحدته في العالم ، وهذا الإعلان هدفه تغيير القيم أولاً ، ففي جميع القيم المسماة بـ ( العليا ) ، وتأكيد ازدواج العالم ثانياً ، ونرع الغلاف الأسطوري والخلقي والميتافيزيقي عن صورة الإنسان ثالثاً ، وتجريد الواقع من حيويته ومعناه عن طريق اصطناع عالم مثالي مشيد بالأكاذيب يبنيه الإنسان لأخيه الإنسان بوساطة تلك البنية التي تغطي الكلية المعرفية للنشاط الإنساني المولد لها(8).
ومن نافل الحديث القول : أن مفهوم البنية يحمل فلسفة تمثل في طبيعتها الفلسفة الدوغمائية التي تعد نقطة الوصول لفلسفة موت الإنسان ، للفلسفة التي بلا ذات ، ولهذا فإن المقولة الأساس التي يعتمدها المنظار البنيوي هي مقولة الأطروحة المركزية ـ مقولة العلاقة ـ لا مقولة الكينونة ، وذلك بسبب أولية الكل على الجزء ـ كما يقول جارودي ـ وأهمية عقدة العلاقات التي تحيل إلى مدلولاتها من دون إحالة العنصر المفرد عليها ، فلا سبيل لتحديد الوحدات ذات العناصر النصية إلا بعلاقاتها ، فهي أشكال لا جواهر ، ومن هنا ثبت توكيد أسبقية العلاقة على الكينونة(9).
وما فعلته البنيوية فعلته السيميائية عن طريق ترويض العلامة ودهاء الدال ، والوصول إلى معرفة الدليل وأهميته ، وكذا فعلت التفكيكية في استلهام الفلسفة القبلانية اليهودية ، ونقدها للعقل المطلق ، وتفتيت كل مركز وبنية ، وإحلال مفهوم ( الاختلاف ) والبحث عن هوية الشيء ومعرفة أقليته وتحديد وظيفة.
هذا وتبقى حداثة المناهج النقدية ، أو بعبارة أخرى تبقى المناهج النقدية الحداثوية ولا زالت تعتمد في أسسها على العمود الفلسفي المتحيز لجوهر نشأته والذي يمدها بالحيوية ويمنحها ( السِناد ) الذي ترتكز عليه ، فلكل منهج فكر وفلسفة تبنيه وتحدد آلياته ، وعلى من يتصدى لدراسة ذلك أن يضع عينيه الإرث المعرفي الذي نشأت فيه تلك المناهج.
المصادر والمراجع :
(1)
ما وراء المنهج
، عبد الرحمن البازعي ، ضمن
كتاب
: (
إشكالية التحيز ، تحرير
:
عبد الوهاب المسيري ، المعهد العالي للفكر
الإسلامي ، ماليزيا.
نيويورك ،
1997 ) : 1 / 273.
(2) ينظر : م.ن : 275-281.
(3) ينظر : مقدمة في النظرية الأدبية ، ترجمة : إبراهيم جاسم العلي ، دار الشؤون الثقافية العامة ، بغداد ، 1992 : 213-217.
(4) المركزية الغربية ، عبد الله إبراهيم ، مجلة آفاق عربية ، العدد 5 لسنة 1992 : 84.
(5) نفوذ الصورة أو نفاذ اللوغوس ، د. رشيدة التربكي ، ترجمة : خليل قوبعة ، مجلة الحياة الثقافية ، العدد 62 لسنة 1991 : 84.
(6) ما وراء المنهج : 1 / 283.
(7) م.ن : 1 / 293.
(8) ينظر : البنيوية فلسفة موت الإنسان ، روجيه جارودي ، ترجمة : جورج طرابيشي ، دار الطليعة ، بيروت ، 1985 : 5-12.
(9) م.ن : 13.