دعوة إلى مبادرة .. للتعاون على رعاية أسر المهجّرين في الغرب وأطفالهم
( ما أكثر الحصاد وأقل العاملين ؟!)
تثبت أزمة اللجوء السورية حضورها على الأجندة العالمية . ورغم أن عمر هذه الأزمة قد تجاوز الأربع سنوات ، إلا أنها لم تصبح الشغل الشاغل للأجندة الدولية إلا بعد أن دقت أبواب العالم المتحضر ، وأصبحت تشكل تهديدا مباشرا لما يعتبره أمنه واستقراره وخارطته الديمغرافية وهويته الثقافية ورفاهيته أيضا ...
وكان المدخل الإنساني الذي فرض نفسه على الرأي العام هو صورة الطفل السوري الغريق ( إيلان عبد الله) الذي ألقى به اليم في الشاطئ ، كانت هذه الصورة على أنه مر قبلها الكثير مما هو أفظع منها؛ المدخل الذي جعل من الأزمة مادة للتجاذب على مستوى الحكومات والشعوب .
لا يمكن أن يكون محل جدل أن يتفهم البشر الأسوياء دواعي الهجرة ، ودوافعها ، ومعاناة المهاجرين والمهجّرين متعددة الأبعاد ، سواء لحظة الاقتلاع من الجذور والتردد على المعابر والحواجز ، وانتهاء بمعاناة الانغراس في بلدان المصب ، مع ما يحمله هذا الانغراس من عوائق وصعوبات وما يتبعه من مخاطر وتهديدات . فمعاناة البشر ، ولكل إنسان قدراته وتوجهاته ، ليست محل مزاودة من إنسان على إنسان . ودائما يجب على الإنسان أن يحترم خيارات الآخرين وتطلعاتهم ، وأن يقدر احتياجاتهم ومشاعرهم ...
" البعد الإنساني " في عملية الهجرة أو التهجير أو النزوح أو اللجوء ، تسمه كيف شئت ، فرديا كان أو جماعيا ، يجب أن يفهم وأن يُتعامل معه مجردا من الأبعاد السياسية ، رغم أنه فعل ذو تداعيات سياسية واجتماعية بامتياز .
" أزمة التهجير السوري " رغم بعدها الإنساني إلا أنها في الوقت نفسه أزمة ذات بعد أمني وسياسي واجتماعي واقتصادي في الوقت نفسه .
وإذا جردنا البعد الإنساني من ملابساته ، ونزهناه عن التشكيك والجدل والتوظيف المسبق ؛ فإن عملية التهجير تبقى في حقيقتها فعلا سياسيا يحتاج إلى تحليل وفهم كما يحتاج إلى توجيه وترشيد . وتبقى أيضا فعلا اجتماعيا وثقافيا له تبعاته التي لا تنتهي بوصول المهاجر إلى أرض المهجر وحصوله على شرف اللقب ( لاجئ ).
إن نظام الاستبداد والفساد قد جعل من هذا اللقب الذي هو في الأصل محل الإشفاق والتعاطف إلى وصف شرفي يغامر الناس بحياتهم وحياة أطفالهم للوصول إليه . فأكبر جائزة يحصل عليها المهاجر اليوم أن يحظى بلقب لاجئ في بلد يحلم بالوصول إليه .
إن تدفق المهجّرين السوريين على دول الغرب ، على نية اللجوء والنزوح بعد أن طالت إقامتهم المؤقتة في دول الجوار ، يُلقي على كاهل المعنيين من الذين استرعاهم الله الأمانة ، وحملهم إخوانهم وذووهم المسئولية واجبا جديدا في وقت يستحضر فيه المرء قول السيد المسيح : ( ما أكثر الحصاد وما أقل العاملين ..)
وإن أول ما يمكن أن نكرره ونؤكد عليه في هذه القراءة أن اللجوء بحد ذاته ليس فعلا إيجابيا في سياق ثورة تنشد التغيير الإيجابي في وطن عانى جيل من أبنائه الكثير . وأنه منذ الأشهر الأولى للثورة غاب التوجيه المركزي لقوى المعارضة . وغابت الاستراتيجيات والجهود التي تساعد المواطن السوري على التمسك بأرضه وبيته . ومع غياب دور القوى الوطنية الموجه والمرشد والمساند ؛ فقد غاب كذلك الدور الدولي المقدر للعواقب . وهذا ما أشرنا إليه في أكثر من مقام.
ولقد كان لإطلاق يد بشار الأسد في التفنن في قتل السوريين ، وتدمير ديارهم ، ولاسيما في المناطق التي خرجت من تحت سيطرته دورها في دفع الناس إلى الهجرة ، وإلجائهم إليها . واليوم وحين يحوّل المجتمع الدولي قضية الثورة السورية إلى قضية لاجئين ولجوء تهدد أمن الأوربيين فهو يختصر قضية شعب ومشروع وجود وحضارة في أحد تداعياتها ، التي كانت براميل بشار الأسد وصمت المجتمع الدولي نفسه سبب وجودها وانتشارها . ..
إن الذي نحتاج إلى التأكيد عليه مع كل ما سبق في هذا المقام هو أن رحلة الهجرة لا تنتهي بوصول المهجّر إلى بلد المهجر . بل يبقى المهجّر السوري أمانة غالية في عنق القيادات الدينية والفكرية والمجتمعية . هذا الإنسان السوري المهّجر هو في مهجره محتاج أكثر إلى المظلة التي تحميه ، ومحتاج أكثر إلى الرعاية ، هو محتاج إلى المساعدة على الاندماج والتكيف المبصر في بلد الصيرورة ، وهو بحاجة إلى المساعدة للتمسك بالهوية والجذور في بلد الكينونة ...
إن مهجّري الشعب السوري . رجالهم ونساءهم ، وأطفالهم بشكل أخص هم أمانة في أعناق كل القيادات الواعية والمسؤولة . هم أمانة يجب أن تُرعى لمصلحة الإنسان أولا في نفسه ، ولمصلحة البلد المضيف في تقديم جرعات من التأهيل للتعايش والتفهم وحسن التعامل مع المجتمع والقوانين ، ولمصلحة الهوية والجذور والوطن الذي لا يزال بحاجة إلى أبنائه وجهودهم أينما كانوا ...
ومهما قلّبت عينيك ، أو أظهرت تعاطفك مع صورة الطفل ( إيلان ) وإخوانه على الأرض السورية ؛ فلا تستطيع أن تنسى مسئوليتك عن جيل من الأطفال السوريين تلقي بهم هذه الهجرة في لهوات المجهول . إن التعويل على وعي الأسرة والوالدين وإن كان ركنا ركينا إلا أنه لا يكفي ولن يكفي وعلى كل من استرعاه الله أمانة أن يؤدي حقها (( فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ )) .
دعوة إلى مبادرة عملية صعبة ، ولا يصعب مطلب على مجتهد ، مبادرة تحتاج إلى استراتيجيات ، وبرامج ، ومشرفين وعاملين . مهمة يمكن أن يشارك فيها المهاجرون والمهجّرون السابقون ، كما تشارك بها القوى ذات الطابع الدعوي والفكري والإنساني ...
ورحم الله البدوية يوم قالت لعمر : يتولى أمرنا ثم يغفل عنا ..
وسوم: العدد 633