هل القصة : إسقاط طائرة روسية وحسب ؟؟..
العلاقات الروسية ـ التركية تحمل في أعماقها صراعات قديمة، متعددة.. كان كثيرها متخف تحت غطاءات المصالح المتبادلة.. حتى إذا ما حدث الاحتلال الروسي لبلادنا، بأهدافه وما يقوم به، وإسقاط الطائرة انفجر جزء من ذلك الخزين الذي يشهد تفتيحاً لعديد المسائل، وتصعيداً من قبل الرئيس الروسي.. بما يتجاوز الحادث إلى ما هو أشمل ..
ورغم قوة لغة وفعل المصالح، والمتغيرات السياسية التي عرفتها روسيا الإمبراطورية، فالاتحاد السوفييتي، فالاتحاد الروسي..إلا أن التاريخ يحضر قوياً في المخيال السياسي والثقافي والتراكمي. ينكش في القديم ليحضره كلما" دقّ الكوس بالجرة".. وحدث ما يثيره، فيتجلبب بعديد المبررات، ويظهر بأشكال مختلفة ليس بعيداً عنها الصراع الديني، وإرث الحروب، والنزاعات السابقة .
ـ ورغم أن العلاقات الاقتصادية تتجاوز الثلاثين ملياراً بين البلدين، ووصول ما يزيد عن 3 ـ 4 مليون سائح روسي يختارون تركيا القريبة، والرخيصة نسبياً، والجميلة، والعلاقات الاجتماعية المتداخلة، وما يعرف بالهدنة الطويلة بين البلدين..الأقرب لمفاهيم الصداقة في علاقات الدول..إلا أنه يمكننا رصد عدد من العوامل المتضافرة التي تتفاعل وتبرز هذه الأيام إثر إسقاط الطائرة الروسية.
ـ تاريخ العلاقات بين البلدين اتسم بالصراع العنيف، والحروب المديدة، والتحالفات ضد الآخر على امتداد عمر الإمبراطوريتين.. واتخذ طابعاً دينياً على الأغلب، وقومياً في بعض الأحايين. كانت الامبراطورية الروسية تلحق بها عديد الشعوب والأمم التي تمتّ بالصلة للشعب التركي الأصيل، والتي اعتنق الإسلام أغلبها فاكتسى العامل الديني دوره المتعاظم، المختلط مع حروب الضمّ والنفوذ، وكانت روسيا أحد أهم القوى التي خاضت الحروب ضد الإمبراطورية العثمانية، والتي أسهمت في إلحاق الهزائم بها، ثم في العمل على وراثتها، وحصارها.. وتوقف ذلك بقيام الثورة البلشفية..التي ألحقت البلدان الإسلامية بها، بينما اكتفت تركيا بحدودها الحالية بعد أن نجح أتاتورك في تثبيتها، ومنع التوغل الغربي . دون نسيان أثر انضمام تركيا لحلف الأطلسي، وموقع ذلك الحلف في الوعي الروسي والمصالح الروسية، ومحاولات التمدمد باتجاهات مختلفة، ومنها المناطق المسلمة .
ـ وفي حين عانى الاتحاد السوفييتي الانهيار، ثم مرحلة التغيير.. وصولاً لمرحلة بوتين وما عرفته من نهوض يستدعي القومية الروسية ببعدها القيصري ـ الإمبراطوري، ويحافظ على ذلك الطابع ببقاء الجمهوريات الإسلامية ـ إلى جانب عدد من مناطق المسلمين ـ ضمن الاتحاد الروسي.. كانت تركيا تشهد نهضة عملاقة في عموم الميادين، والتي توفرت لها عديد عوامل النجاح بوصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم بانتخابات ديمقراطية، واستمراره إلى يومنا هذا .
ـ هنا يدخل عامل تنافسي جديد : اقتصادي يلعب دوره القوي في ذلك الصراع الخفي، خاصة وأن كلا البلدين يتجهان نحو أسواق متشابهة : البلدان العربية، والدول الإسلامية، وعديد بلدان أوربة الشرقية، وإن كان الطموح التركي يتجاوز ذلك إلى الدخول ميدان التنافس مع أوربة، وفرض قبول تركيا عضواً في الاتحاد الأوربي.. وهو الذي تقف دونه عوائق كبيرة.. منها الطابع العقيدي، لتركيا المسلمة . وقد نجحت تركيا في الانتقال إلى المرتبة 16 في الاقتصاد العالمي في حين تعاني روسيا من مجموعة أزمات اقتصادية، رغم أهمية الغاز والنفط الروسيين، ودورهما في العلاقات مع تركيا، وأوربة وعديد الدول الآسيوية .
ـ فتحت الثورة السورية ميداناً قويا للصراع من خلال اختلاف المواقف جذريا منها ومن النظام السوري واختلطت المواقف السياسية بالمصالح وغيرها.
تركيا انحازت منذ البداية للثورة السورية وتحملت الكثير من آثارها، واختلطت الحدود بين مواقفها المبدئية وأمنها القومي، بينما تعتبر روسيا أن سوريا هي آخر موقع لها في المنطقة، وأنها ترى في بقاء النظام وتقويته حفاظاً على مصالحها ووجودها، بل وعاملاً مهماً في تطويق وإضعاف تركيا، والغرب عموماً.. وهو ما يمكن تفسيره في أحد أسباب احتلالها لبلادنا، وما تقوم به من قصف تدميري شامل .
ـ إن الاحتلال الروسي لسورية يشكل تهديداً مباشراً لتركيا، ومنعاً لقرارها بفرض منطقة آمنة تحلّ عديد الإشكالات الحيوية، ومنها وجود داعش على حدودها، وإمكانية إقامة كانتون كردي مستقل، وما يمثل فصلاً بين تركيا وسورية عبر هذا الاحتلال الروسي .
ـ وبغض النظر عن خلفيات القرار السيادي بمنع اختراق الأجواء التركية، وغسقاط الطائرة الروسية وهذه الهوشة الروسية المتصاعدة التي يحاول فيها بوتين اصطياد مجموعة أهداف دفعة واحدة..فقد انفتحت جذور العلاقات بين البلدين على مصاريعها، واختلط التاريخي بالحاضر، وهو الأمر الذي لم يخفه بوتين بتدخله الوقح في خيارات الشعب التركي، واتهام حزب العدالة والتنمية بأسلمة تركيا، وبدعم الإرهاب.. وغير ذلك من اتهامات تتهاطل يومياً، تحاول روسيا تجسيدها بعدد من الإجراءات الخطيرة التي تتجاوز الجانب الاقتصادي، والسياحي إلى الأخطر الذي يهدد الأمن القومي التركي، ويحمل معه تلويحات بإثارة المتاعب الداخلية لتركيا عبر تحريك ودعم حزب العمال الكردستاني وبقية التنوعات التركية ذات الأصول، أو المذاهب المختلفة .
ـ وبدورها تركيا لا يمكن أن تبلع تلك التهديدات، أو تسمح لها بالتجسيد، ولديها ما تقوله وما تفعله.. بما يرشح الوضع لمزيد الاحتكاك ما لم تقم أمريكا بفعل شيء مهم..وهو ما يطرح سؤالاً عن جوهر الموقف الأمريكي ..
وسوم: العدد 645