نهر التماسيح

د. محمد أبو زيد الفقي

في ليل أسوان الجميل ، كنت أحمل سلاحي علي شاطئ النيل ، والقمر يرسل ضوءه علي الماء صانعا بحيرة بهية من اللُّجَيْنِ [ الفضة المذابة ] ، بقيتُ ست سنوات هناك ، تنقلت في أعمال كثيرة ، ولكني دائما كنت قريبا من النيل ، كنت أحسده أحيانا  حين كنت أراه يجري بين أحضان صحراء وجبال مصر الشرقية والغربية ، وهو ينساب إلي الشمال لنقل الخير والخصوبة لأرض مصر الطيبة  [الوادي والدلتا ] .

    بعد الانتهاء من بناء السد العالي ، تم حجز كميات كبيرة من المياه أمامه ، لمسافة 300 كيلو متر فيما يعرف الآن ببحيرة ناصر ، التي تنتج أسماكاً لا نظير لجودتها لأنها تُربَّى علي ماء النيل النقي ، وقد أكلت منها ست سنوات ، وكان إنتاج البحيرة وقتها وفيرا ، وكنا نصطاد سمكها أو يهدى إلينا بدون مقابل ، وكان سعر الكيلو للناس وقتها  من 6:3 قروش، وفي المطاعم 10 قروش ، وكانت الأسماك تزيد عن استهلاك  أهل أسوان ، والمحافظات المجاورة ، وترسل في المبردات للوجه البحري ، حتى الإسكندرية  وتباع بسعر 22 قرش للكيلو ( نظيف وجاهز للاستعمال ) ، وتم إنشاء مصنعين لتجميد  الأسماك وتصدير جزء منها للدول العربية ، ووصل إنتاج البحيرة عام 1974م إلي ( 125000 ألف طن )  ، وقد فكر بعض أعداء الوطن من الخارج ، وأقنعوا بعض الأغبياء في الداخل بتربية التماسيح في بحيرة ناصر ، وتم لهم  ما أرادوا ، ولقوا ترحيبا عجيبا من المسئولين الأغبياء الذين فتحت لهم مقابل ذلك حسابات في بلاد كل شيء فيها مباح.

جاء هؤلاء من رحلات استجمام الخارج وشرحوا لنا استراتيجيتهم في فوائد تربية التماسيح  وقالوا إننا نتعاون مع منظمات عالمية للحفاظ علي التماسيح من الانقراض.

تم توقيع اتفاقية مع محافظة أسوان لجعل بحيرة ناصر محمية طبيعة للتماسيح، وبالفعل قاموا بتربية آلاف التماسيح في أوغندا، ونقلوها إلي بحيرة ناصر في احتفال مهيب .

   دخل إلي البحيرة 3000 تمساح عام 1975م  وتناسلوا حتى أصبحوا في عام 2000م حوالي  ( 300000 ) ثلاثمائة آلف تمساح ، وفي عام 2011م قدرت الثروة السمكية في أسوان عدد التماسيح بنصف مليون تمساح ، و لأول مرة بدأت تظهر التماسيح الأفريقية في مصر.

 طول التمساح الواحد من 30:15 متر ويأكل في اليوم الواحد 100 كيلو جرام من الأسماك ، أما التماسيح العادية فتأكل من 25 : 50 كيلو .

   من الجنيهات مع تشغيل عشرة آلاف عامل وفتح عشرة آلاف بيت.

          قمت أنا وبعض المثقفين بعمل حملة لتطهير البحيرة من التماسيح ، وطالبنا القوات المسلحة بالتدخل ، لأنها هي التي تملك الأسلحة المناسبة للقضاء علي التماسيح العملاقة ، فقال محافظ أسوان وقتها وكان رجلا يتمتع بجرأة في الحديث، وقدرة علي التلبيس: لن نقضي علي التماسيح لأن البحيرة محمية طبيعية للتماسيح، وإذا جادل إنسان في ذلك فليطلع علي الاتفاقية والسياح يحبون رؤية التماسيح!

اتضح لنا أن فلسفة هذا الرجل ومن وراءه تُسبِّب الفقر لقارة بأكملها ، وليست لبلد ضعيف مثل مصر ابتليت بأمثاله.

قمت بإرسال خطاب إلي ذلك المحافظ الهمام وقلت له : إذا أردت عمل محمية للتماسيح لكي يتمتع بها السياح فانظر إلى تجربة حدثت في الغرب الأمريكي  وهي أنهم اكتشفوا وجود تماسيح

في النهر الكبير فقاموا على الفور بتخصيص مساحة في الصحراء 500 فدان نقلوا إليها التماسيح وغذوها علي الحيوانات النافقة في المزارع ، وتركوا السياح يتفرجون وفي الوقت ذاته قاموا بحماية الثروة السمكية في بلادهم.

        طبعاً السيد المحافظ وقتها لم يقتنع بهذا الكلام كأي مسئول في مصر يجلس علي  الكرسي معتقداً أنه أبو العرِّيف  وصمَّم علي ما في رأسه التي لا يوجد فيها شيء أصلا.

 تفرع عن مشكلة التماسيح في بحيرة ناصر ، مشكلة أخرى مدمرة ، فقد زاد تكاثر التماسيح حتى أصبح الصيادون في أسوان يجدون التماسيح الصغيرة في شباكهم فاصطحبوها إلي المدينة  وعرضوها في أنصاف براميل ليتفرج عليها الناس ، أو يأخذونها للتسلية ، ولما علم السياح اليهود في أسوان بذلك وجدوها فرصة ، وقالوا إذا كنا أدخلنا التماسيح إلي بحيرة ناصر لتخريب 300 كيلو متر ، فلماذا لا نأخذ هذه التماسيح ونلقها خلف الخزان عند فندق كتاركت ، ونيو كتاركت ، وتذهب التماسيح وتأكل  الأسماك من أسوان وحتى الإسكندرية في مسافة ألف كيلو متر  ونكون بذلك قد قضينا علي الثروة السمكية في النيل من أسوان  وحتى البحر المتوسط  ( تفرعات النيل خمسة آلاف كيلو متر خلف الخزان )..

 الأخطر أن هذه التماسيح لن يقف خطرها علي الأسماك ، بل سيأتي يوم تأكل فيه البشر ، وبالدراسة البسيطة لمن عنده ذرة وفاء وحب لبلده يوقن أن تنمية النيل سمكياً من وادي حلفا عند أسوان إلى البحر المتوسط توفر للدولة مليون فرصة عمل وأربعمائة مليار جنيه مصري ، وإذا أضفنا ما يعود علي الصحة من الغذاء الجيد ، وقوة عمل من يتغذى جيدا ، فعليك إضافة مئتين مليار أخرى.

 لقد قلت : إن التماسيح ستظهر في كل مكان في مصر وستأكل أطفالنا وحيواناتنا، وستبث

 الخوف والذعر في نفوسنا ، ولم يصدق ذلك أحد من مقاولي الخراب وجالبي الدمار ، إلي أن ظهر تمساح طوله متر ونصف في أحد الآبار بقرية دنديل التابعة لمركز ناصر محافظة بني سويف.

ومع ظهور التمساح ، تمكنت قوات الأمن من اصطياده وتوثيقه بالحبال وإصطحابة إلي حديقة الحيوان.

ختاماً أقول: بذنوبنا أعطانا الله جهلا يغنينا عن كل علم .

وسوم: العدد 645