مؤامرة فصل الأكراد عن السنة العرب
انتشر الإسلام بين الأكراد قبل الفتوحات الإسلاميّة، واتسع انتشاره بعدها في الأقاليم الكرديّة، حتى أصبح الإسلام أبرز مكوّنات الهويّة الكرديّة.
وكان الكرد سبّاقون في دخول الإسلام واعتناق مبادئه، والزود عن حياضه، واشتهر منهم الصحابي الجليل جابان وابنه ميمون المعروف بعلمه وورعه، وروايته حديث: (من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار).
وكانت قلاع الأكراد مراكز متقدمة لحماية تخوم الدولة الإسلاميّة على مرّ العصور مثل (حصن كيفا) و(قلعة الحصن) المشهورة بحصن الأكراد إحدى أعظم قلاع العالم، وقلعة صلاح الدين قرب اللاذقيّة.
ولا ينكر إلاّ جاهل أو مغرض دور المدارس الكرديّة بشقيها السلفي والصوفي، في نشر العلوم الدينيّة، والدفاع عن الشريعة، والتمسّك بالخلافة، وصد موجات التشيّع، أمثال شيخ الإسلام ابن تيميّة الذي ولد لأبويين كرديين في حرّان، وبديع الزمان سعيد النورسي الذي رفض زعامة الحركة الكرديّة، وقال قولته المشهورة: إن كنتم تريدون إرجاع الدولة العثمانيّة فأنا معكم، وإن كنتم تريدون إقامة دولة كرديّة فلا، وسعى لتوحيد صفوف الأتراك والأكراد معاً، وإحياء الإيمان في نفوسهم، وسعيد بيران النقشبندي الذي قاد الثورات للدفاع عن الخلافة الإسلاميّة العثمانيّة.
وأنجب الأكراد للأمّة العربيّة رجالاً كانوا موضع فخر الأمّة أمثال الشيخ محمد عبدة، وعباس محمود العقّاد، وأحمد شوقي أمير شعراء العربيّة، وأحمد تيمور، ومحمد كرد علي، وجميل صدقي الزهاوي وغيرهم.
واجمع العرب والأكراد على حب واحترام أسد الدين شيركوه، وابن أخته صلاح الدين يوسف بن أيّوب الكرديين، وبطل الحروب الصليبيّة أمير إربيل مظفّر الدين كوكوبوري.
واختلطت دماء السوريين والأكراد بالزواج والمصاهرات، وامتزجت في معارك التضحية والفداء حتى كدنا لا نفرّق بين عربي وكردي.
وغدت العربيّة لغة المثقّفين الأكراد ولغة المتديّنين في الصلاة، في سوريّة والعراق، لأنّ الجميع أدركوا معنى قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ(.
وعاش العرب والأكراد منذ الفتح الإسلامي للجزيرة الفراتيّة وشهرزور في وئام، حتى أصاب دولة بني عثمان الوهن، وصار لبريطانيا الكلمة المسموعة لدى الباب العالي، فأخذت تتطلع لتحويل كردستان إلى ممر آمن للبضائع بين تبريز واسطنبول، وتتدخّل لتحسين وضع الأرمن وتهميش الكرد.
ولم تعط إصلاحات السلطان عبد الحميد الوقت الكافي لعلاج أوضاع الأكراد، فقام الطاغية الطوراني مصطفي كمال بتمزيق نسيج الأمّة، وأشعل الصراع القومي بين الأكراد والعرب والترك، وزرع تلك الجرثومة التي لا تزال تفتك بالشعبين المسلمين.
واستغلّت الأقليّات سقوط الخلافة العثمانيّة فأسّست أحزاباً قوميّة علمانيّة لم تنجح إلاّ في المحافظة على الحدود الاستعماريّة، والتشدّق بالوحدة والحريّة، وإثارة النعرات القوميّة بين عناصر الأمّة عرباً وأكراداً وتركماناً وشيشانا.
وأتقنت الأنظمة القوميّة المتغطرسة في سوريّة والعراق البعثيّتين استهداف الأكراد والتركمان بالازدراء والتمييز والتهجير والتطهير، فكان من البديهي أن يبحث الأكراد عن جذورهم تحت حكم حزب البعث ليواجهوا مجتمعين التعصّب القومي العربي.
وحوّل البعث السوري البلاد إلى سجن كبير منذ اليوم الأوّل لاستيلائه على السلطة، وعاش السوريون عرباً وأكراداً نصف قرن من الكبت والخوف والرعب كالأرانب المذعورة.
ولم تكن ثورة الكرامة في سوريّة إلاّ رداً طبيعيّاً على ممارسات نظام البعث الطائفي الذي أرهق شعبه بأجهزته القمعيّة وفساده العريض الذي طال السوريين عرباً وأكرادا.
وواجه السوريون عربا وأكراداً الرصاص بصدورهم العارية وهم يحملون رايات الحريّة ويحلمون بها.
وتقاسم جيران العمر الرغيف وحبّات الزيتون وكأس الماء في ظل الحصار الجائر على المدن والبلدات السوريّة والأرياف الثائرة.
ولم تفرّق راجمات الصواريخ وقاذفات الحمم والبراميل المتفجّرة والغازات السامّة بين عربي وكردي، فاستشهدا معاً، ودفنا معاً في قبر جماعي واحد يشكون إلى رب واحد ظلم الإنسان، ويتطلّعون إلى عدل السماء.
ولم يميّز البعث العلوي الحقود بين علماء سوريّة العرب والأكراد والتركمان، عندما أقدم على اغتيال الشيخ مروان حديد ابن حماه العربي، والشيخ معشوق الخزنوي ابن الجزيرة الكردي، والشيخ ممدوح جولحة ابن اللاذقيّة التركماني.
ولم تفرّق موجات البحر العاتية بين زوارق المهاجرين الباحثين عن عالم جديد يوفّر لهم ولأطفالهم الأمن والأمان، فأكلتهم حيتان البحر، وقذفتهم إلى الشاطئ، فلا ندري هل الطفل (آلان) ابن الثالثة عربي أم كردي.
وخاض العرب والأكراد جنباً إلى جنب معارك تحررهم مع الاستعمار الفرنسي متّحدين، وكان تاريخ نضالهم منذ انضواء الجميع تحت الراية المحمّديّة مشتركاً، وهذه ساحات الوغى في بلاد الشام شاهدة على بأس الأكراد وقوّة شكيمتهم وإخلاصهم لقضايا أمتهم.
واليوم يواجه أهل السنّة في العراق والشام عرباً وأكراداً وتركماناً فصلاً خطيراً من فصول التآمر على الإسلام يتجلّى في مؤامرة التقسيم والتهجير.
وتقضي مؤامرة التغيير الديموغرافي إعادة خلط الأوراق ورسم خريطة جديدة للمنطقة، تستهدف فصل الأكراد عن إخوانهم السنّة العرب في العراق وسوريّة، ليس حباً بالأكراد وتحقيق أمانيهم بالاستقلال، ولكن لتخفيض نسبة أهل السنّة في العراق وتحويلهم من أكثريّة إلى أقليّة، بحيث تكون الدولة العراقيّة خالصة للشيعة، وتحويل أهل السنّة والجماعة في سوريّة من أكثريّة ساحقة إلى أقليّة كبرى، وخاصّة بعد عمليات التهجير الجماعي للسوريين، ومنحهم جنسيات الدول التي هاجروا إليها مضطرّين.
يعتقد صانعو مؤامرة فصل الأكراد عن السنة العرب أنّهم قادرون على فعل المستحيل لتقطيع الجسد الواحد، وكأنّ مؤامرة تقسيم العالم العربي غير كافية!!
وأن السحر لا ينقلب على الساحر، ولكن هيهات.
وطوبى للغرباء
رئيس التحرير
محمد علي شاهين
وسوم: العدد 741