أكذوبة 30 مليون متظاهر
أكذوبة 30 مليون متظاهر
خدعة الأرقام للإطاحة بالرئيس مرسي
ترجمة: سعيد عبيد
مراجعة: ميمون داودي ورضوان بدوي
ميدل إيست مونيتور
رغم الصعوبات المعروفة التي تحول دون تقدير عدد الجماهير الغفيرة، فإنه من الواضح أن المعارضة والجيش المصريين معا قد لعبا لعبة الأرقام من أجل تبرير الانقلاب العسكري ضد الرئيس محمد مرسي. ولسبب أو لآخر، فإن جهات خارجية عديدة وظفت كذلك تلك الأرقام المُدَّعاة لتأكيد دعمها للتدخل العسكري الذي وقع في مصر يوم 3 يوليوز الجاري.
تقدم الجيش المصري لوسائل الإعلام بشريط صورته مروحية عسكرية لمظاهرات في القاهرة لتبرير انقلابه، مؤكدا أن الشعب بأكمله قد ثار ضد الرئيس مرسي، وهكذا فإنه لم يكن لديه من خيار إلا الاصطفاف إلى جانب إرادة الشعب. لا أحد شكك في حقيقة أن بعض لقطات الشريط التي قدمت على أنها ضد مرسي، كانت في الواقع مشاهد مصورة لمظاهرات أنصاره.
بعض الدول الغربية، كما بعض الشخصيات السياسية أيضا، دعمت بشكل مريب هذه الحجة، دون أن تتحقق من صحة الأرقام المذكورة. وهكذا ساندت الانقلاب الذي – في نهاية المطاف – لم يستهدف الرئيس المنتخب وحده، ولكنه استهدف عملية التحول الديمقراطي في مصر برمتها، على أساس أنه كان تلبية لإرادة الأغلبية الساحقة من الشعب.
لإكساب أرقامها مصداقية واحتراما، ادعت الجبهة المعارضة لمرسي بأنها حصلت على إحصائياتها للجماهير التي خرجت يوم 30 يونيو من التغطية التي أنجزها برنامج جوجل أورث Google Earth، مقدمة أرقاما تتراوح بين 14,3 و33 مليون متظاهر، على الرغم من أن عملاق الأقمار الصناعية لم يؤكد هذا البتة، حيث لا يكشف البحث على الشبكة عن أي بيان رسمي من قِبل جوجل أورث لتأكيد هذه المزاعم. وفي الوقت نفسه، تقدمت جريدتنا Middle East Monitor إلى جوجل بطلب تعليق على الأمر، غير أنها لم تتلق أي رد.
الذي جعل الأمور أكثر عرضة للتشكيك تدخل رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، الذي قال: إن الجيش كان عليه أن يختار بين "التدخل أو الفوضى"، مضيفا أنه حين يخرج "17 مليونا" إلى الشوارع فإن هذا ليس انتخابات، "إنه مظهر رائع لسلطة الشعب".
فقبل عشر سنوات، في ال 15 من فبراير (شباط) 2003، أعلن منظمو المظاهرات ووسائل الإعلام أن مليوني مواطن بريطاني قد خرجوا إلى شوارع لندن احتجاجا على الحرب ضد العراق. شرطة العاصمة البريطانية قدرت الحشود ب 750.000 نسمة على الأقل. ورغم ذلك، تجاهل السيد بلير شعبه بازدراء كامل. ضخامة تلك التظاهرة التاريخية وُثقت تسجيلا من لدن مروحية تابعة للمتروبوليتان، وفي الوقت نفسه، لم تكن لندن وحدها في معارضة غزو العراق، وإنما كانت في تلك اللحظة مظاهرات أخرى متزامنة في 800 من مدن العالم الأخرى، حيث شارك ما قُدر مجموعه بحوالي 30 مليون متظاهر، مما اعتبر أكبر تظاهرة في يوم واحد عرفتها البشرية عبر تاريخها على الإطلاق. وهذا معناه أن أي مقارنة بين الأشرطة المسجلة لهذه المظاهرات وأشرطة مظاهرات 30 يونيو 2013 تبين أن احتمال صحة حشد عدد 30 مليون متظاهر في القاهرة، بل مجرد احتمال عُشر هذا العدد، هو احتمال بعيد للغاية.
على الرغم من أن جوجل أورث لم يؤكد إلى حد الآن الأرقام المهولة للمتظاهرين التي ذكرتها "جبهة الإنقاذ" و"حركة تمرد"، فإن باحثين غربيين استخدموا البرنامج نفسه لقياس سعة ميدان التحرير والأماكن المحيطة به المفضية إليه. وهكذا، وباستخدام الآلية نفسها استبعد الدكتور كلارك ماك فيل، الأستاذ الفخري لعلم الاجتماع من جامعة إلنوي، والخبير في علم قياس الحشود، استبعد إمكانية تقدير مليون شخص في ميدان التحرير.
رغم أن القاهرة ليست بأي شكل من الأشكال اختزالا لمصر كلها، فإنها – على غرار أغلب العواصم – احتضنت مركز الاحتجاجات الوطنية الكبرى في ميدان التحرير. منطقة ميدان التحرير ذات مساحة تقدر ب 53.000 متر مربع، بينما تقدر المساحة الممتدة من محيط الميدان إلى الجانب الآخر من نهر النيل، عبر جسر (كوبري) قصر النيل، ب 13.000 م م. أما المساحة الممتدة من الميدان إلى غاية جسر 6 أكتوبر فهي 20.000 م م. وفقا لهذا، فإن مجموع المساحة الحاوية لحشود المتظاهرين قد بلغت 86.000 مترا مربعا. وعلى افتراض أن أكبر عدد من الناس يمكن أن يحتويه المتر المربع الواحد هو أربعة، فهذا معناه أن السعة القصوى لميدان التحرير والمناطق المحيطة به يوم 30 يونيو كان هو 344.000 ألف متظاهر.
أما بالنسبة لمنطقة القصر الرئاسي ونواحيها، فإن الشريط المصور الذي نشرته المعارضة كشف عن أن طول المظاهرة كان 1400 مترا (أي أنقص بقليل من كيلومتر ونصف)، مع عرض 45 مترا، وهو ما يعني أن المساحة الإجمالية هنا بلغت 63.000 مترا مربعا. يضاف إلى ذلك مظاهرة شمال القصر على مساحة 9.000 م م. وهكذا بلغ مجموع المساحة التي شغلها المتظاهرون في محيط القصر الرئاسي ككل 72.000 مترا مربعا.
وفقا لما تم ذكره أعلاه، فإن العدد الإجمالي للمتظاهرين من حوالي القصر الرئاسي، باعتبار أربعة أشخاص للمتر المربع الواحد كذلك، كان هو 288.000 متظاهر. وهكذا، فإن المجموع الكلّي لمتظاهري ميدان التحرير ومحيط القصر الرئاسي يقدر بحوالي 632.000 متظاهر في اليوم. وهذه الحسابات منسجمة مع ما وصل إليه كثير من الباحثين والمدوّنين من نتائج.
حتى في حالة امتداد هذه الأرقام، فإن عدد متظاهري 30 يونيو لا يمكن أن يكون قد تجاوز بضعة ملايين في البلد كله. وفي الحقيقة، لم تستخدم وسائل الإعلام ذات المصداقية، بما فيها تلك التي ضخمت أعداد المتظاهرين، وبالغت فيها، إلا هذا المصطلح الفضفاض الغامض: "ملايين المتظاهرين"، مع أن وسائل الإعلام المصرية لم تكن مقيدة البتة. محمد حسنين هيكل، الكاتب المصري المخضرم، ووزير الإعلام في عهد الرئيس السابق جمال عبد الناصر، وصف مظاهرات ال 30 يونيو بأنها "غير مسبوقة في السياسة البشرية الحديثة، أكبر حتى مما شهدته إنجلترا وفرنسا".
ومع ذلك، لم يكن ثمة مؤشر ما في سلوك وسائل الإعلام المصرية قبل 30 يونيو يوحي بأنها يمكن أن تقدّم تقديرا محايدا لأعداد الحشود في ذلك اليوم؛ فحملتها الدعائية المعادية للإخوان المسلمين ومرسي استمرت طيلة العام الماضي، وحتى بعد الإطاحة به، علاوة على تأييدها لحركة "تمرد"، والدعاية لها، منذ بدايتها إلى غاية تحقيق هدفها؛ كل هذا يمنعنا من النظر إلى وسائل الإعلام المصرية على أنها مصادر محايدة أو موثوق بها بخصوص احتجاجات ال 30 من يونيو.
لا يعقل ألا يواجَه استناد مدبري الانقلاب في مصر إلى برنامج جوجل أورث بنظرة نقدية، سواء في مصر، أم في الشرق الأوسط، أم حتى في الغرب. فقد قبِل ذوو النفوذ والسلطة الأرقام من دون أدنى تحليل نقدي أو تثبُّت، ولا يستطيع المرء أن يخمن إن كان هذا بسبب حالة كسل خاصة بهم، أم بسبب تواطؤ مع معارضي مرسي.
ما هو مؤكد بلا شك هو أن مصر اليوم تقف بشكل خطير على حافة كارثة وطنية، حيث لا دستور، ولا برلمان، وحيث رئيس مدني منتقى بعناية من لدن الجيش. لقد أصبحت البلاد مشلولة سياسيا، ومستقطبة. وعلى الرغم من أن عملية التحول الديمقراطي التي بدأت في ال 25 يناير 2011 عانت بوضوح من انتكاسة، فإنها لم يتم إجهاضها. فالثوار المصريون الذين أطاحوا بنظام مبارك في 18 يوما، يستطيعون في الزمان والمكان المناسبين استعادة زمام المبادرة، والحفاظ على الشرعية الديمقراطية، من أجل الصالح العام. أما تقديرات جوجل أورث غير ذات الأساس من الصحة فلا يمكن أن تحل محل صندوق الاقتراع في التحقق من الإرادة الديمقراطية الحقيقية للشعب.