هَواجِسُ الجَبّارين

 *ضعفُ القوة:*

إن تصاعد طغيان الفراعنة يحمل في طيّاته برهان ضعفهم وآية خوفهم، وكلما اسْتَعر الطغيان انفضح للجمهور ضعف الطغاة، فقد رأينا أن فرعون اختار أمهر سحرته وهم من (الملأ) الذين كانوا (يَملؤون) قلوب المصريين بحب فرعون ويُدهقونها بالرهبة منه، وذلك عبر سحرهم الفاتن وأكاذيبهم المزخرفة، لكنهم أدركوا يوم الزينة أن ما فعله موسى كان معجزة خارقة تدل على أنه مرسل من السماء، فسارَعوا لاعتلاء ناصية الإيمان، ولخوف فرعون من تأثر الجمهور بهذا الانتقال المُدوّي فقد هدّد وتوعّد، واستخدم بالفعل أقسى أدوات القمع والقتل، ولم يَزده ذلك رهبةً كما اعتقد وإنما دفع السحرة للمجاهرة بكل قوة بأنه على باطل وأن موسى على حق، قال تعالى: *{قال آمنتم له قبل أن آذَنَ لكم إنه لكبيركم الذي علّمكم السحر فلأُقَطِّعنَّ أيديَكم وأرجلَكم من خلاف ولأُصلِّبنَّكم في جذوع النَّخل ولتَعلَمُنّ أيُّنا أشدُّ عذاباً وأبقى. قالوا لن نُؤْثرك على ما جاءنا من البيِّنات والذي فطرنا فاقْضِ ما أنت قاضٍ إنما تقضي هذه الحياةَ الدنيا. إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خيرٌ وأبقى}* [طه: 71-73]، وهذا يعني أن الطغاة كلما شعروا بقوة الضَّعف لجؤوا إلى مضاعفة القوة، لكنها لا تزيدهم إلا وبالاً وخساراً.

وقد رأينا كيف بدأت هذه المُبارزة والسحرة يُقْسمون: *{بعزِّة فرعون}*، بينما انتهت وهم يقولون: *{والذي فطَرَنا}* [طه: 72].

 *خوفُ الجَبّارين:*

مهما كان جبروت الطغاة فإن قلوبهم تمتلئ بالمخاوف ونفوسهم تكتظّ بالهواجس، ولا تزال حياتهم تزخر بأسباب الحذر ومظاهر التوجّس، وعلى رأس هؤلاء أطغى طغاة الأرض فرعون وملئه، فقد أشار القرآن إلى هذا الخوف في قوله تعالى: *{ونُريد أن نَمُنّ على الذين استُضْعفوا في الأرض ونَجعَلهم أئمةً ونجعلهم الوارثين. ونُمكِّن لهم في الأرض ونُري فرعونَ وهامانَ وجنودَهما منهم ما كانوا يَحذرون}* [القصص: 5-6]، وترسم لنا الفاصلة القرآنية : *"ما كانوا يحذرون"*، ذلك التوجس الجماعي الذي لم يكن عابراً وإنما كان مستقراً في قلوبهم ساكناً في أفئدتهم، حيث يتنقل معهم أينما ذهبوا، حتى أصبح كل واحد منهم يجاهر بخوفه وترقبه، فيتبادلون المخاوف، ويرسمون الخطط لتجفيف منابع الخوف، وعلى رأسها خطة: *{سُنُقَتِّل أبناءَهم ونَسْتَحْيي نساءَهم}* !

 *سُجونُ الفراعنة:*

إن وضع أهل الحق وأصحاب الآراء الحرة في السجون، طبيعةٌ فرعونية قديمة، وقد وُلدت في مصر وترعرعت حتى أصبحت سجية بارزة من سجايا معظم حكام مصر، فلقد وضع هؤلاء يوسف عليه السلام في السجن بضع سنين، مع علمهم ببراءته بالبرهان الخارق، وعندما جاء موسى إلى فرعون يطالبه بإطلاق بني إسرائيل ويخبره عن الله الواحد الأحد، قال له: *{لئِنْ اتّخذْتَ إلهاً غيري لأَجْعلَنَّك من المَسجونين}* [الشعراء: 29].

وقد ورد لفظ السجن ومشتقاته عشر مرات في القرآن، كلها مختصة بسجون مصر، بل وبقصتي يوسف وموسى !

ولقد ظلت السجون المصرية عبر حقب التأريخ تعُجُّ بالمظلومين وتَزخر بالأحرار، ولو نظرنا إلى هذه الحقيقة في عصرنا هذا من زاوية الأدب المصري لوجدنا لأدب السجون حضورا لا يُضاهَى!

وسوم: العدد 771