الحسد والبغض والكراهية والكيد
إن الحسد والبغض والكراهية والكيد للآخر : هي ظواهر مجتمعية ، قديمة قدم الإنسان ، لا يخلو منها عصر من العصور ، ولا عنصر من العناصر البشرية ولا مجتمع من المجتمعات ، إلا من رحم الله ، فهي موجودة في كل زمان ومكان . يدور الصراع بسببها ، على المال والجاه والحكم والسلطة والتفوق العلمي والنجاح المهني ، والظهور السياسي ، وبسببها أيضا يتم الصراع على التمييز العاطفي بين الأبناء والإخوة ، وعلى التمييز بين الجنسين ... والغريب أن هذا الحسد والكراهية والكيد ، لا يكون دائما بسبب عيوب في الإنسان ، أو بسبب سلوكه وتصرفاته المشينة وأخلاقه المنحطة ، بل أيضا ، بسبب ما يتميز به من استقامة ومن كرم ، وبسبب تميزه في وسطه الاجتماعي وتميزه في جميع المجالات عن من يحسدونه ، وهم في الغالب ما يكونون من أقرب الناس إليه ، كالإخوة والأصدقاء وكل المقربين منه . لأن طبيعة الإنسان ، تكره وتحسد وتبغض من يذكرها بنقائص تشعر بها وتعايشها ، ومن ينافسها ويتفوق عليها ، فتعمل على تحريك الحسد المتراكم داخلها ، مدعومة ومؤيدة بالنفس الأمارة بالسوء وبالشيطان العدو المبين ، الذي يزين الحسد ويأمر به ، ليتحول هذا الحسد ، إلى كراهية وبغض وصراع وكيد مرير . وهذا ما وقع ليوسف عليه السلام وعانى منه مع إخوته .
إن يعقوب عليه السلام توقع هذه النتيجة المرة ، بمجرد ما استمع ليوسف ، وهو يقص عليه الرؤيا ، فبادر إلى الوصية " لا تقصص رأياك على إخوتك " لأنه كان يعلم أنه يفضل يوسف على إخوته ، وأنه يحبه اكثر منهم ، وأن ليوسف مكانة خاصة في قلبه ، وهو على وعي تام ، بما يوجد في هذ الحب من خلل ، ولكن القلوب ليست كالعقول ، لا سلطان عليها ، فهي بيد الله . كما كان على دراية ، بأن إخوة يوسف على علم بهذا التفضيل والتمييز العاطفي ، وأنهم غير راضين عن موقف أبيهم هذا . ومن ثم لا محالة ، سيكون التطاحن والحرب ، بين الإخوة ، بسبب التمييز العاطفي ـ والذي غالبا ما يكون مصاحبا ومدعوما بالتمييز المادي والمعاملة ـ إن الصراع والعنف بين الحب والكراهية ، هو ظاهرة تتكرر عبر التاريخ ، والعبرة هنا أن لا نميز بين أبنائنا في الحب أو في المعاملة بصفة عامة ـ كالتمييز في الإرث بين الأبناء الذكور والإناث ، كأن تحرم الإناث من الإرث لصالح الذكور ، مخالفة لشرع الله ، أو تمكين الذكر من التعليم دون الأنثى ، أو تفضيل الذكر على أنثى في الحب والمعاملة وهي أمور تتنافى مع العدل ومع تكريم الإسلام للمرأة ... إن هذا الخلل في التعامل مع الأبناء يكون لا محالة سببا مباشرا في زرع الحسد والحقد والضغينة بين أبنائنا من حيث ندري أو لا ندري ومن حيث لا نشعر وقد يكون ذلك بدون قصد منا ونحن غافلون أو متغافلون .
إن العدل بين الأبناء ، في كل شيء: في الحب ، في التعامل أمر ضروري وواجب إلاهي على الآباء ، وإن لم يفعلوا فسيزرعون الغيض والحسد في قلوب أبنائهم ، ضد بعضهم البعض ، دون وعي بما سيترتب عن ذلك التفضيل والتمييز بين الأبناء من سلوك غير سوي وصراع دئم ، يورث إلى الأحفاد وينتشر في الأسرة ومن بعدها يعم المجتمع ككل ويسري فيه .
يقرر القرآن الكريم ، أن قصة يوسف مع إخوته ، فيها آيات وعبر كثيرة ، وهي في نفس الوقت تذكير للسائلين والذين يريدون تدبر سنن الحياة والاقتداء بأحسنها ، رغبة منهم في إصلاح مجتمعاتهم ولاهتداء إلى سواء السبيل وتجنبا ، لكل ما من شأنه ، أن يسيئ العلاقات بين الإخوة والأحبة ويفسد المجتمعات ويثير بين افراده الصراع والنعرات والعصبيات ، و يشعل الحروب ، التي يذهب ضحيتها الكثير من الأبرياء . [ لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين ] " يوسف آية 7 " من بين الآفات التي تنخر المجتمع وتهدم أركانه ، ظاهرة الحسد . والقرآن الكريم يخبرنا ، أنه بسبب الحسد والحقد ، خطط إخوة يوسف لقتله ، أو طرحه أرضا ، لإبعاده عن أبيهم ، المنشغل عنهم بحبه وتفضيله عليهم ، ظنا منهم ، إن هم فعلوا ذلك ، حتما سينصرف إليهم أبوهم ويقبل عليهم ، وينسى يوسف عليه السلام ، لأن قلبه عليه السلام سيصبح شاغرا فارغا من حب يوسف . " وهذا ما يتوهمه كل حاسد حاقد ، عندما يهم بالمكر والحرب على من يحسده ، فهو يبني تصورا ويتخل نتيجة وهمية ، يعتقد أنها ستكون في صالحه وتخلصه وتريحه ، من عقدة ما يسبب له الحرقة والضيق والحرج في صدره . " ولحسن حظ يوسف ، أن الإخوة ، لم يكونوا على درجة واحدة من الحقد والحسد والكراهية والبغضاء ، ولم يكونوا يحملون نفس درجة الضغينة والبغضاء ليوسف عليه السلام ، فقد كان منهم ، من هو أقل شرا وكراهية ليوسف عليه السلام ، إذ اعترض على القتل ، واقترح خطة توقع ، أن يكون فيها خلاص ونجاة يوسف من القتل ، وهي أهون الشر . [ لا تقتلوا يوسف والقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين ] " يوسف آية 7 " من خلال هذه الآية الكريمة ، يتبين لنا أن الناس متفاوتون في درجة الشر والحسد ، الذي يحملونه في صدورهم ، كما هم متفاوتون في الصلاح والاستقامة والإيمان ، وإننا قد نؤتى أحيانا من حيث لا نحتسب ومن أقرب الناس لنا وإلينا وأوثقنا بهم . توقع يعقوب عليه السلام ، الشر من الذئب ، فخاف على ابنه منه ، ولم يتوقعه من أبنائه . الإخوة ليوسف ، وإلا لما كان ليرسله معهم . فإذا الذي توقعه يأتي معاكسا لما اعتقد وتوقع . فقد أنجى الله يوسف من الذئب ، ولم ينجه من إخوته المؤتمن جانبهم ، والذين اعتقد فيهم أبوهم يعقوب عليه السلام ، الخير ، وأنهم سيكونون حماة ليوسف من شر الذئب ، وما كانت ثقته بأبنائه لتكون لولا أنهم لبسوا ثوب الصالح الناصح الأمين . وكذلك نؤتى من هذه الفئة ، ومن طرف هذا النوع من البشر في كل وقت وحين ، هذا الصنف من الناس ، الذي يخطط دائما في الخفاء ، ويظهر غير الذي يخفي ويستر ، ليصل إلى مآربه بدون خسارة ، أو بقليل من الخسائر . وهذا هو النفاق ، الذي ذمه الله في أكثر من آية وتوعد صاحبه بأشد العقوبات . [ إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا ] " النساء آية 145 " والذي حذرنا منه سبحانه وتعالى ، ولهوله ، خصص له الحق سبحانه وتعالى سورة كاملة : هي سورة المنافقون وذلك لخطورة وعظمة مكر المنافق ودهائه وشيطنته . فالمنافق كما يقال " يأكل مع الذئب ويبكي مع الراعي " . وما كان يعقوب عليه السلام ، أن يصدق أبنائه ، لولا نفاقهم ، الذي انطوى عليه ، ووعودهم الكاذبة ، التي صدقها والتي مفادها ، أنهم سيحفظون أخاهم ، وأنه سيسعد معهم بقضاء وقته في اللعب والمرح [ أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون ] " يوسف آية 12 " ولولا قوة الإقناع هذه ، التي يمتلكها المنافق بالفطرة ، ولولا التظاهر بالقوة والشجاعة وشدة البأس ، وادعائهم بكونهم عصبة ، لا تقهر ، ذات شوكة شديدة ، يخشى جانبها ولا يمكن أن يقدر عليها الذئب ، ومن هو في حكم الذئب . فهي قادرة على الدفاع عن الأسرة والذود عن الأب والابن ...لولا هذه الأراجيف والأكاذيب والنفاق. لما كان يعقوب عليه السلام ، أن يسلمهم قرة عينه وحبيب قلبه . ولكنها مشيئة الله وإرادته ، فوق كل تقدير واعتبار . [ قل لن يصيبنا إلا ما كتبه الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المومنون ] " التوبة 51 " يتبع
وسوم: العدد 780