هو الفريج.. (على سياق الحبكة واستخلاص المضمون)
الأغلب منا يُسْتر ويفرح حين يستحضر أدق تفاصيل طفولته بالسرد والقصص من مكانٍ، ومكينٍ ،وشخوصٍ، ورائحةٍ، وملامح!
والبعض الآخر منا لا يصحو من سُباته إلا بعد رحيل من عاشره، ببكاء ما ندره، وتلاشى ما ستره، وما خلفه العباب لتنصل الاقتراب بالمعاني التأملية.. ولأن جمال التذكر لا بالكتابة فحسب حيال قيمتها الأقوى، وكي لا يضعف فحواها، ويُناجى مُنتهاها بالدموع، والآهات المُكبلة بين أضالع الأنين.. فمن عرف ذاته لملم شتاته بين شذى الحاضر وعبق الماضي الحزين!
والنزر اليسير منا يستكثر التماهي بحقيقة الحارة التي لم يعرف ماهيتها، ولم يعش طقوسها، ولم يدرك قيمتها الإنسانية، والحميمية في دواخل أهلها وأُناسها وجيرانها إلا بالظواهر الصوتية؛ بادعاء القرابة، واجترار الربابة!
لذا، من زار الحارة عرف المنارة، وإن لم نستنطق طين المكان وعقرب الزمان، فما قيمة ردهات العطاء وسؤدد الوفاء للأصول والجذور والفروع منا؟!
وما حال من يمشي بين أزقة، (وساباطات)، ودهاليز، رفعته الشمالية بهفوف الأحساء لتتبع السيرة وكتابة المسيرة؟
أجل، كانت يدي تُمسك عباءة جدتي أم علي القرين، وحنين عمي موسى يلهب خبز التنور، ومجامر روحي تُشعل ألوان السرور، فتطيبْ يا أنا مع من دار وسوف يدور بالعطور والبخور..
فمررنا على بقالة راضي البن صالح (بالفوتق)، وفهد البدر يشتري خبز الأبيض من مخبز عبد الله الرشيد (دكان المسجد)، وابتسامة الحاج الوصيفر تتناغم مع حكم الحاج أحمد السلطان، الذي أجاد بتفاصيل خياطة المشلح الأحسائي (والكرمك) للحاج عبد الله الزاير على الرصيف، وعبد الله العبد العظيم (أبو سلمان) يترنم على (كورجة القحافي المشخلة، والزنجفرة، وغترة العطار، وثياب البحر السوقية، ووارد أبو غزالين)!
كان الحاج علي بو عليو يرش التراب بالماء بيده أمام دكانه، وعبد الوهاب العلوي يُضاحك غُلمانه، وأُنشودة (تحميدة) ختم القرآن الكريم على ألسن الصبايا بمنزل المطوعة أم عبد الرسول العلوي..
"الحمد لله الذي هدانا آمين
للدين والإسلام اجتبانا آمين
حطوا على اللوح دراهم من ذهب آمين
حتى الصغيّر تعلم وكتب آمين"
ساعتها مالت خطوات جدتي أم علي بالقرب من (البارقة) إلى أطراف ديوانية الأهل (بن قرين)، حيث دكاكين الحياكة هناك، وصُبغ النسيج (بالطوي، وسرعة المزراق، وتماوج خيوط السدوة)!
كان عمي علي كفيف البصر، وبجواره جمعة الشرجي، وحجّي حمزة الفهيد، وعبد اللطيف الشوارب يعد النقود الفضية (الفرانسي) ومسبحته البرتقالية، وعمي أحمد (يبچر النارجيلة) على تمتمات الملا عبد الوهاب الحمد، والملا أحمد البن صالح، وجاسم الجاسم (يدولب الخيوط بالبلول)، وأبي حبيب، ويوسف الدخلان، وعبد الله الخليفة، وخضر القريني، وإبراهيم العمران، وحسن الدهنين، وعبد الله السماعيل، وعبد الوهاب البراهيم، ومحمد الدخلان، وخضر بو طبلة، وحسين أبو شهاب، وعلي المسلم (أبو صالح) يُجهزون (الودمة الحساوية، والفجل، والترنج، والتمر المنقوش بالجصة الجبلية من تمر نخلنا بقرية الشعبة)، وكذلك الاستعداد لطبخ مأدبة عرس محمد الشوارب بالحطب، (والكرب والجدوع والسعف)، وأيضاً تنسيق (دزة المعاريس بالفريج) لحسن اليحيى، وحسن غدير، وعاشور العاشور، وأحمد المصرندة، وعبد الله القرين، وسلمان الناصر، وتزيين (الغدنة بالمصليات)..
وبعد حين أوصتني ابنة عمي "بدرية" بشراء سمك الكنعد والشعري من مهدي الغريري، وحجي الهودار، أو من ابن العم جاسم القرين من (براحة سوق السمك بداية شارع المدير)، وفي طريقي أوصتني بأن أحمل طبخة محاشي (مصير اللبن) للخالة أم سامي البن صالح..
فنادت جدتي صديقاتها أم خليل بو زيد، وأم ياسين بن صالح، وأم باقر السعود، وأم علي الغريري، وأم سلمان العبد اللطيف، وأم صالح الشمس: (ما راح تروحون بيت أم حسين الهودار للتخلف بسيارة إبراهيم ولد حجّي حسين الجاسم، وتجسيم الممروس في حوي منزل عبد الله بن نصر، قبل لا تصير القايلة، وشبة الزيزي)، وصوت تعليم البنات يتصاعد من بيت المطوعة أم عباس القرين..
ألف لا شيّله
باء نقطة من تحت
تاء نقطتين من فوق
ثاء ثلاث نقط من فوق.."
وكعادة أصحاب الطفولة حسن وفاضل وعلي وطاهر وعبد المنعم، وصالح، وحسين (اللحاق بالدنبرة)، وصراخ الحاج حسين السنيني علينا، وكذلك (فلاتة المبيدات) للحاج ناصر الشوارب، ولعبة (الشط بط، والحجل، والتيل، والطنب، والسكونة، واعجيل الملح عند الدحدرانة)، وسباق (قواري الفريج) لأبو عادل القوطي، وأبو حسين العبيد، وعبد الوهاب الخليفة، ومحمد البخيتان، وصاحب (القاز والكيروسين العماني)!
فترفق بنا يا ملا عباس العبيد لتسجيل الحدث بشريط المسجل الكاسيت أبو ستين دقيقة (الميتسوبيشي الأزرق)..
حينها همست إحداهن للأخرى: (تره فضة بنت فلانة مات رجلها، وهي محادد، ووصيناها بأن لا تلمس الملح لأنه رجال، ولا تطالع القمر لأنه رجال، وتقعد طول فترة الحداد على مصلى، ولا تتكلم مع أي رجال، وإذا طلعت من العدة توزع خبز أحمر، وبيض مسلوق على اللي ما جابوا أعيال)!
أزعم أن الذكريات تسكنني مذ أن كان عمري ثلاث سنوات، حيث كان الوالد (رحمه الله) يصحبنا معه حيثما كان برفقة أخي الأكبر توفيق، فبعض الذكريات كتبتها بالإسهاب، والبعض منها غردته ولمحت إليه بالومضات، والجُل منها جمالها بالتذكر.. حتى أن أمي أشتد نقاشها مع بعضهن بسببي، لأنني "أحوس واجد" بحسب تواتر الأخبار وتدوين الأمصار.. فقالت لأمي: "إذا بتجين لنه لا تجيبين هذا وياك"!
(أفا يا ذا العلم)، ومن تلك اللحظة لم تزرها أمي في مجلسها العامر (كفوووو والله يا أم توفيق)؛ لأن (محسوبكم) كل شيء يريد أن يعرفه تفصيلاً، ولو عرفت هي ما يُخبئ الزمن لها من مكنون التعريف لقالت: (خلوووه)، وترفق بنا يا ولدي بالتوثيق..
فسلام الله على الذين ذكرتهم، وعلى الذين لم أذكرهم كالحاجة والمطوعة شيخة (أم محمد الهودار) وطريقة تعليمها للقاعدة البغدادية (خَ، خِ، خُ)، والحاج محمد العثمان، والمطوعة مريم (أم راضي الهودار)، ومحمد الحويجي، والحاجة المطوعة مكيّة (أم سيد إبراهيم الغافلي)، وأبو فلاح حسن بو سعيد، وعلى المؤمنة دخيلة بنت حسن، وحجّي الخير الله، وعلى الذين أحببتهم فنقشوني على أروقة الوجدان من (براحة) زكي إلى (ساباط) السماعيل، ودلو بئر بيت آل طه، وآل ياسين (بالخر وصكة غويدري)..
وسوم: العدد 783