قصصُ العُروج(105)
قُطوفُ النَّوعية
*النّوعُ قبل العدد:*
في كلام إخوة يوسف إشارة إلى أن النوع أهم من العدد، فقد نقل القرآن قولهم: *{لَيُوسفُ وأخوه أحبُّ إلى أبينا منّا ونحن عصبةٌ إن أبانا لفي ضلال مبين}* [يوسف: 8]، فهم يشيرون هنا إلى أن أباهم قدّم عليهم حُبّ يوسف وهو فرد وهم جماعة "عُصبة"، وفي نظرهم فإن أباهم بهذا التفضيل صار في ضلال مبين؛ لأنهم ينظرون إلى الكم دون الكيف!
ولا شك أن يعقوب كان يحب يوسف أكثر منهم بالفعل، لكن ذلك لم يكن لجماله الذي أدهش الناظرين، وإنما لجماله الداخلي وعبقريته الفذّة وأخلاقه الرفيعة، وهي الصفات التي افتقروا إليها وظهرت في حياته العملية، حيث نجح في عفّته وإخلاصه لسيده العزيز في أصعب امتحان يمكن أن يتعرض له رجل، واتضح نصحه الخالص لمن في السجن وحرصه على المصريين رغم أنهم مشركون، وتفتّقت ملَكاته الروحية عبر التفسير الدقيق للرؤيا، وبرزت عبقريته المالية والإدارية في تدابير عديدة جنّبت الشعب المصري الموت المُحقَّق نتيجة السنوات العجاف.
وهكذا فإن فراسة يعقوب جعلته يرى في يوسف ما ليس في إخوته، فأحبّه أكثر منهم، وهذا برهان على تقديم النوع على العدد.
*الكَيف قبل الكَمّ:*
يُعلِّمنا فتية الكهف درساً بالغ الأهمية في تقديم الكيف على الكم، إذ بعد نوم ثلاثمائة وتسع سنوات لم ينسوا هذه القيمة؛ حيث قالوا: *{قالوا ربُّكم أعلم بما لَبثتم... فلينْظُرْ أيها أزكَى طعاماً فلْيأْتِكم برِزْقٍ منه}* [الكهف: 19]، حيث اشترطوا طهارة الطعام ونظافته أولاً: *{فلْيَنظُرْ أيها أزكى طعاماً}*، ونلاحظ استخدام فعل التفضيل: "أزكى"، أي أنظف وأطهر وأنقى، ثم تَحدّثوا بعد ذلك عن الكم ولو كان قليلاً: *{فلْيَأتِكم برزقٍ منه}*، أي بنصيب يوازي القيمة الموجودة معهم.
*الفاعلية قبل الكثرة:*
لا شكّ أن للكثرة ثمارها وفوائدها، لكن العبرة تظل بالفاعلية والتأثير، فكم من فرد فاقَ في فاعليته مئات وآلافاً من الناس، ولقد أخبر الله عن خليله إبراهيم فقال: *{إنّ إبراهيم كان أُمَّةً}*، وذلك بفضل ما تجمعت فيه من ملَكات وفضائل، وما حاز في شخصيته من مزايا وأخلاق، وما اجترح في مسيرته من مآثر وجلائل !
واليوم نجد شعوباً صغيرة كسنغافورة تَفوقُ فاعليتُها بأضعاف المرات شعوباً كبيرة لكنها غير منتجة فصارت أقرب إلى الغثاء، معتقدةً أن الصلاح الأخروي سينفعها في معتركات البناء والتقدم الحضاري!
وسوم: العدد 800