(وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ)
هكذا أقرأ التفسير :
أتتبع تفسير الآية الواحدة عند جملة من المفسرين في وقت واحد، أتمثل قول الله تعالى : ( وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ ) ، وأنعم بلطائف البدائه ، وثمار العقول، ومن أجمل ما قرأت اليوم في تفسير قوله تعالى ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ) الآية الأولى من سورة الأنعام ...
لماذا ...؟؟؟
لماذا قال في السموات والأرض خلق ، وفي الظلمات والنور جعل ؟؟
ولماذا قدم الظلمات على النور ..؟؟
ولماذا وحّد النور وجمع الظلمة على ظلمات .؟؟؟.
وأفاد الذين أجابوا : بالفرق بين الخلق والجعل فالأول إيجاد من عدم ، والجعل تكييف وتوظيف، فالنور والظلمة مخلوقان ومجعولان على نحو أكثر ملاءمة لحال الإنسان ، فلا النهار المنير سرمد، ولا الليل المظلم سرمد . خلق النور.. وخلق الظلمة ، وجعلهما متعاقبين على نحو متكامل، مصباح النور الأول يدور على أهل الأرض فيجعل لهم من بعض وقتهم معاشا ومن بعضه لباسا .. والجعل أي التكييف في طبيعة الظلمات والنور ، ملحوظ أكثر لحواس الإنسان كما لعقله في شتى العصور .. ومن لطائف هذا الجعل ..
أنه جعل النور الأسرع انتشارا على مستوى الكون ، وأوجد البشر من ثم السنوات الضوئية معيارا لقياس سرعته ، أو مداه ..نور الشمس على جناح النور السريع لا يحتاج إلى أكثر من ثمانية دقائق ليصل إلينا !! يقولون للدلالة على سعة عالم الفلك أن بعض الكواكب اندثرت وأن نورها ما زال على الطريق السريع إلينا .
ومعجزة الجعل في طبيعة النور ، هي التي بشرتنا منذ ألف وأربع مائة عام بيوم كألف سنة ، وبيوم كخمسين ألف سنة، وما ذكر المثل إلا للتمثيل وليس للتحديد ، فقد تكون بعض الأيام عند ربنا أكثر أو أقل.. ( وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ )
ومن لطائف هذا الجعل أيضا أنه جعل القليل من النور يبدد الكثيف من الظلمة، أو الظلمات المتراكبة ( بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ ) نعلم في عالم الفيزياء أنك لترفع ثقلا قدره عشرة أرطال تحتاج إلى جهد " عم " يوازيه أو يفوقه .. ولكن في طبيعة الجعل الرباني للظلمات والنور ، فإن عود ثقاب أو شمعة أو سراجا صغيرا ، يكفي ليبدد مثل هذه الظلمات ( أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ ..) وحتى ضوء الكهرباء لا يفيد ..
وهذه الآية الأخيرة من سورة النور ، وفي هذه السورة العظيمة ضرب الله المثل الأوفى لنوره بالمشكاة والمصباح والزيتونة لا شرقية ولا غربية، يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار . وقوله تعالى يكاد يضيء تقريب وتمثيل ، ولا يعني أنه يضيء بنفسه كما زعم بعض الزاعمين. في السورة نفسها - سورة النور - التي ضرب الله فيها المثل لأجلى ما يكون النار ضرب بعد آيات المثل المقارب لأحلك وأشد ما تكون الظلمة ..
وكان مالك بن نبي رحمه الله تعالى في كتابه " الظاهرة القرآنية " قد أصر على تفسير " المشكاة والمصباح " بالمصباح الكهربائي " وأي عبد لك ما ألما"
ومن لطائف الجعل أن جعلنا ندرك حسيا وعمليا أننا إذا كنا في حقيقتنا أصحاب رسالة نورانية فإننا لا نحتاج إلى تكافؤ القوة لنبدد حالك الظلم كما يقول حبيبنا الشاعر : يا موكب النور بدد حالك الظلم ... بل يكفي أن نبذل من القوة ما استطعنا ، فإذا بخلنا اختلت معادلتنا ، ما استطعنا من عقل ورأي وعلم وتدبير وتضحية ...
ثم تساءلوا : لماذا وحّد الله لفظ النور وقابله بجمع لفظ الظلمة على ظلمات؟؟
وأجابوا فأفادوا ..
ووحد النور دلالة على التوحيد، فالنور طبيعته واحدة ، ومصدره الأولي واحد.
وأراد الله سبحانه أ ن يوحد النور بكل تجلياته الحسية والمعنوية تحت لفظ واحد دال معبر ، فنور النار أو الشمس الذي ينشر الضوء والحرارة، ونور العقل ، ونور العلم ، ونور الحكمة كلها عناوين لحقيقة واحدة ..وأن الظلمات في مظهرها متعددة متضاربة بين ظلمة كونية وأخرى نفسية وثالثة ظلمة جهل ورابعة ظلمة هوى ..وقد يكون صاحب الهوى ممن يعلمون وتغلبهم ظلمة هواهم وأولئك هم المغضوب ، ومن ظلمة الأهواء نشأت الانحرافات في الملل والنحل والمذاهب ..
النور يمثل دين الله الحق ( إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ ) وهو واحد ، وحال أصحابه ( وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ) وعنوانه - الدين الحق - ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الدين.
النور واحد، والحق واحد، والدين واحد، والحكمة واحدة والظلمات أطباق وأسداف وأهواء واضطرابات وملل ونحل ودعاوى وادعاءات ..وهي كذلك في جبلتها المظلمة، وإن تعددت واحدة ..
( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ )
ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ !!!!
وسوم: العدد 917