هل النفط في باطن الأرض أفضل استثمار للنفط
على المدى الطويل؟
د. أنس بن فيصل الحجي
أكاديمي وخبير في شؤون النفط
هل النفط تحت الأرض أفضل استثمار للنفط على المدى الطويل؟ هذا محل خلاف كبير لأسباب اقتصادية وسياسية واستراتيجية كثيرة، والإجابة معقدة للغاية، وتمت تغطيتها في عدة بحوث أكاديمية من قبل عديد من الأكاديميين. والإجابة السريعة والبسيطة عن هذه السؤال هي: إذا كان صافي القيمة الحالية لعائد إيرادات النفط من الاستثمارات المختلفة أعلى من الارتفاع المتوقع في أسعار النفط فإن إنتاج النفط وتحويل عائداته إلى هذه الاستثمارات أجدى من إبقائه في باطن الأرض. وإذا كان صافي القيمة الحالية لهذه الاستثمارات أقل من الارتفاع المتوقع في أسعار النفط، فإن إبقاء النفط في باطن الأرض أفضل من استخراجه. لكن الأمر ليس بهذه البساطة أيضا لأن زيادة الإنتاج لتحويل النفط إلى ''أصول'' أخرى ستؤدي إلى انخفاض أسعار النفط، وبالتالي انخفاض قيمة هذا ''الأصل''. لهذا فإن زيادة الإنتاج لتسريع عملية تحويل النفط إلى أصول أخرى غير مجدية. في هذه الحالة فإن إبقاء النفط في باطن الأرض أجدى من إنتاجه واستبداله بأصول أخرى. وفي ظل انخفاض الدولار وأسعار الفائدة، والاضطرابات التي تشهدها الأسواق المالية العالمية، واحتمال قيام بعض الدول الصناعية بتجميد أموال بعض الدول النفطية، فإنه من الواضح أن النفط في باطن الأرض أفضل من إنتاجه. طبعا الحديث هنا عن الكميات التي تحقق فائضا ماليا وليس عن الكميات اللازمة لتسيير الأمور الأساسية في البلد.
وبغض النظر عما سبق فإنه، كما ورد في مقال سابق، فإن السعر الأمثل للنفط من وجهة نظر دولة منتجة مثل السعودية هو السعر الذي يعظم منافع الجيل الحالي والأجيال القادمة معا. هذا السعر يحقق:
1- عائدا مجزيا لثروة وطنية ناضبة.
2- إيرادات مالية مستقرة.
3- استمرار الطلب المستقبلي على النفط.
4- الاستقرار السياسي والاجتماعي في الدول المنتجة والمستهلكة.
5- وجود النفط كأحد مصادر الطاقة اللازمة لمقابلة الطلب المتزايد على الطاقة في المستقبل.
إذا تمعنا في الأمور السابقة نجد أنه لا يمكن لهذا السعر أن يكون مرتفعا بشكل كبير، فالأسعار العالية تخفض الطلب على النفط، وتزيد من ذبذبة الإيرادات، وتوجد عديدا من المشاكل في الدول المستهلكة. إضافة إلى ذلك فإن أسعار النفط المرتفعة وارتفاع الإيرادات يسهمان في زيادة التضخم في الدول المنتجة للنفط، ويؤديان بالتالي إلى تخفيض الدخول الحقيقية للأفراد. ونظرا لأن المشتقات النفطية في كثير من الدول النفطية مدعومة من الحكومة، فإن الفرق بين السعر الداخلي للمشتقات والسعر العالمي يزداد بشكل كبير، الأمر الذي يؤدي إلى تهريب هذه المشتقات إلى الدول المجاورة من جهة، ويزيد عبء الإعانات من جهة أخرى. زيادة عبء الإعانات قد تجبر الحكومة على تخفيض الإعانات ورفع أسعار الوقود محليا كما حصل في عديد من الدول في السنوات الخمس الماضية.
وإذا نظرنا إلى الطلب العالمي على النفط خلال 40 سنة الماضية نجد أنه كان، وما زال، مرتبطا ارتباطا وثيقا بأسعار النفط. فقد أدى ارتفاع أسعار النفط في السبعينيات إلى تغيرات جذرية في اقتصادات الدول الصناعية غيرت مسار استهلاك الطاقة في هذه الدول للأبد. كما تم ترشيد الاستهلاك وتحسنت الكفاءة في الاستخدام بشكل كبير. ولنتذكر أنه في بداية السبعينيات كان النفط يستخدم في القطاعات الاقتصادية كافة، بما في ذلك توليد الكهرباء. أما الآن فإن استخدامه، في الغالب، يقتصر على قطاع المواصلات، ولا يستخدم في توليد الكهرباء في الدول الصناعية إلا في الأماكن النائية .. لماذا حصل هذا التغير؟
ولنتذكر أن المنافس المباشر للنفط حاليا هو الوقود الحيوي، وخسر النفط، خاصة في الولايات المتحدة، جزءا من حصته السوقية للإيثانول. هذه ليست تكنولوجيا جديدة أو قادمة أو مشكوكا فيها، هذه الخسائر تحققت في السنوات الماضية. وقامت كبرى الشركات الأمريكية في السنوات الأخيرة بتحويل جزء كبير من سياراتها من البنزين أو الديزل إلى الغاز الطبيعي المضغوط أو الغاز المسال. وهناك خطوات قوية لإقناع الكونجرس الأمريكي بتبني سياسات تحفيزية لاستخدام الغاز الطبيعي بدلا من البنزين والديزل، خاصة بعد زيادة احتياطيات الغاز الطبيعي بشكل هائل في الولايات المتحدة في العامين الأخيرين
في الوقت نفسه, نتجت عن ارتفاع أسعار النفط في السبعينيات زيادة الإنتاج العالمي من دول خارج ''أوبك''. ويكفي أن نذكر هنا أنه لولا ارتفاع أسعار النفط في السبعينيات لما تم إنتاج النفط في ألاسكا وبحر الشمال بالكميات التي رأيناها منذ ذلك الوقت. ونتج عن ذلك كله انخفاض الطلب على النفط السعودي بكمية تساوي تقريبا الإنتاج الحالي للسعودية كله!
الذين يدعون إلى تخفيض الإنتاج والاحتفاظ بالنفط للأجيال القادمة يتجاهلون أثر ذلك في ارتفاع الأسعار، وأثر هذا الارتفاع في الطلب على النفط. والذين يقولون إن الطلب على النفط لن ينخفض مع ارتفاع الأسعار عليهم أن يأتوا بالدليل، هذا الدليل الذي يتناقض مع كل الحقائق التاريخية، وكل أساسيات الاقتصاد كما عرفها الناس منذ آلاف السنين. وعليهم أن يشرحوا لنا سبب انخفاض الطلب على النفط السعودي من عشرة ملايين برميل إلى مليوني برميل في الثمانينيات. وعليهم أن يشرحوا أيضا لماذا توقف نمو الطلب على النفط في دول منظمة التعاون والتنمية؟ ولماذا يجمع الخبراء على أن الطلب على النفط في أوروبا سيستمر في الانخفاض في السنوات المقبلة؟
خلاصة القول إن هناك سعرا أمثل يضمن حقوق الأجيال الحالية والأجيال القادمة، ولا يمكن الوصول إلى السعر الأمثل إذا تم تخفيض الإنتاج، ولا يمكن الوصول إليه إذا تلاشت الطاقة الإنتاجية الفائضة، ولا يمكن الوصول إليه إذا لم تستخدم هذه الطاقة الإنتاجية لمنع أسعار النفط من الارتفاع فوق السعر الأمثل الذي يخدم المصالح الوطنية.