من أساليب التربية النبوية 9

من أساليب التربية النبوية

التطبيق الفعلي للأمر( 9 )

د.عثمان قدري مكانسي

[email protected]

حين يأمر الأب أولاده ، والمدرس تلاميذه بحسن الخلق ، من صدق ، واستقامة ، وتسامح ، ويكونان مثالاً لما يأمران به ، يجدان تجاوباً من الأولاد سريعاً . فالأمر النظري حين يساوقه عمل يناسبه ، يدل على صدق الآمر فيما أمر به واقتناعه بما يقول ، فهو عندما يطبق على نفسه ، يكون قدوةً يتأسّى خطاه الآخرون فيتبعونه ، والعكس صحيح كذلك . . هذا أولاً .

أما ثانياً : فتأمل معي قول الشاعر :

وتتابع القطرات ينزل بعده     غيث يليه تدفق الطوفان

فالقدوة يأمر ، ثم يبدأ بنفسه ويتبعه أكثرهم حباً وأشدهم التزاماً ، ثم الأمثل فالأمثل .

وهذا ما رأينا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يفعله في صلح الحديبية ، كان قد أمر المسلمين أن يحلقوا أو يقصروا فتمهلوا . . فأشارت عليه أم سلمة أن يحلق خارج خيمته ، فإن رآه المسلمون فعلوا مثله . . وهكذا كان . . حلق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ونحر ، فتواثب المسلمون ينحرون ويحلقون(1) .

فقد كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يفعل الشيء ، فيكون عمله تربية وعظة عملية . وقد جاء في ( الإصابة ) أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يداعب الحسن والحسين ـ رضي الله عنهما ـ فيمشي على يديه وركبتيه ويتعلقان به من الجانبين ، وكان يقول : (( نعم الجمل جملكما ، ونعم العدلان أنتما ))(2) .

وقد سن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ للمسلمين أن يداعبوا أولادهم ، فيدخلوا إلى قلوبهم ، ويأنسوا بهم ، وليس صحيحاً ما يدعيه بعضهم أن هذا اللعب قد يُذهب من هيبة الآباء أمام الأبناء .

وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يكرم الكبار والصغار على حد سواء ، ولم يكن يتعالى على خدمه ، إنما عاملهم معاملة الأبناء ، وحفظ لهم كرامتهم ، فذكروه بكل محبة وإجلال . هذا خادمه أنس ـ رضي الله عنه ـ يحدثنا عن سيد البشرية قائلاً :

 (( فخدمته في السفر والحضر ، مقدمَه المدينة ، حتى توفي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ما قال لي عن شيء صنعته : لِمَ صنعت هذا وهكذا(3) . وكان يأمر الناس باللطف وهو ألطفهم ، فلا يرى منه مَنْ حوله سوى الأبوّة والسماحة . . فكان قدوة لمن بعده بمسلكه التطبيقي الرائع .

وانظر معي إلى جميل فطنته مع أصحابه إذ يعلمهم من الحياة اليومية ، يمارسها أحدهم فيقرها ـ صلى الله عليه وسلم ـ وينبه أصحابه إلى فضلها ، ويحثهم ـ بطريقة غير مباشرة ـ عليها.

فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال :

 (( قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : من أصبح اليوم منكم صائماً ؟

قال أبو بكر : أنا .

قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : من عاد منكم اليوم مريضاً ؟

قال أبو بكر : أنا .

     قال : من شهد منكم اليوم جنازة ؟

قال أبو بكر : أنا .

قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ما اجتمعت هذه الخصال في رجل في يوم إلا دخل    الجنة ))(4) .

درسٌ عملي فيه من الفضائل :

     ـ صوم نافلة .             ـ وعيادة مريض .

     ـ وشهادة جنازة .         ـ وإطعام مسكين .

     في يوم واحد يفعل المسلم هذا كله !!. فلذلك فليعمل العاملون . . إنه والله الطريق إلى الجنة والفوز بمرضاة الله سبحانه وتعالى .

وكان أنس ـ رضي الله عنه ـ مر على صبيان ، فسلم عليهم وقال : كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يفعله(5) .

فما فعل أنس ذلك إلا حين انطبع في قلبه ، وارتسم في عقله ، وثبت في وجدانه واختلط بعاداته ، ما رآه من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فالتطبيق العملي أدعى إلى التنبيه والإقبال على العمل .

ولم يكن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يكتفي بالكلام موعظة فقط ، ولا بالعمل موعظة  فقط ، إنما كان يشرك حواس الناس في الانتباه والفهم ، فقد روى علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ قال :

 (( أخذ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حريراً بشماله ، وذهباً بيمينه ، ثم رفع بهما يديه فقال : إن هذا حرام على ذكور أمتي ، حل لإناثهم ))(6) .

إنها عظة اشترك فيها الصوت والحركة ، فكانت العظة حين تنبض بها العروق ، ملونة تشترك فيها الحواس .

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال :

 (( قال لي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ غداة العقبة ( يوم النحر ، بعد النزول من مزدلفة ) : هات ، القط لي . ( أي اجمع لي حصيات لرمي الجمار في العقبة ) ، فلقطْتُ حُصيـّات من حصى الحذف ( حصيات صغار ) ، فلما وضعتهن في يده قال :

بأمثال هؤلاء ، ( أي ارموا بحصيات صغيرة كهذه الحصيات ) وإياكم والغلو في الدين ( خوفاً من أن يرمي الناس بحجارة كبيرة ظانين أنهم يحسنون صنعاً ، وليس بشيء ) ، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلوّ في الدين ))(7) .

1ـ أمر عبد الله بن عباس فجمع له حصيات ، وأمره أن تكون صغيرة ففعل ، فكان هذا درساً يعلمه عبدَ الله خاصة ، والناس عامة .

2ـ يمسكها ـ صلى الله عليه وسلم ـ بيده الشريفة ، ويشير بها إلى الناس ( باستخدام اسم الإشارة : هؤلاء ) ليرَوْها .

3ـ يردف الفعل بالكلام لتشترك حاستا السمع والبصر في تمثل الفكرة التي أمر رسول الله     ـ صلى الله عليه وسلم ـ بها .

وإنها ـ والله ـ الطريقة القديمة الجديدة في تربية النشء الإسلامي ، والوسيلة الناجعة في تعليم الكبار والصغار على حد سواء .

              

(1)    السيرة النبوية لابن هشام ، مطبعة الرياض الحديثة ج /3/ ، ص /204/ .

(2)    عن تربية الأولاد في الإسلام ، ج /2/ ، ص/684/ .

(3)    رواه الشيخان ، وكرره البخاري في الأدب المفرد ، الحديث /164/ .

(4)    الأدب المفرد الحديث /602/ .

(5)    رياض الصالحين الحديث /602/ ، متفق عليه .

(6)    رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه في سننهم .

(7)    أخرجه النسائي في باب التقاط الحصى ، وإسناده صحيح .