مراحل الدعوة في فكر الإمام البنا
الواقع العملي في حياة الإمام الشهيد
الأستاذ جابر رزق – رحمه الله –
يحدد الإمام الشهيد في نفس الرسائل ، الوسائل العامة للجماعة فيقول تحت عنوان : " وسائلنا العامة " : كيف نصل إلى هذه الأهداف ، إن الخطب والأقوال والمكاتبات والدروس والمحاضرات ، وتشخيص الداء ووصف الدواء ، كل ذلك وحده لا يجدي نفعا، ولا يحقق غاية ولا يصل بالداعين إلى هدف من الأهداف ، ولكن للدعوات وسائل لابد من الأخذ بها والعمل لها، والوسائل العامة للدعوات لا تتغير ولا تتبدل ولا تعدو هذه الأمور الثلاثة :
1 - الأيمان العميق 2 - التكوين الدقيق
3 - العمل المتواصل
وتلك هي وسائلكم العامة أيها الإخوان ، فآمنوا بفكرتكم ، وتجمعوا حولها ، واعملوا لها، واثبتوا عليها.
وببصيرة نافذة يحذر الإمام الشهيد أبناء الدعوة من أي تثبيط فيقول :" سيقول كثير من الناس : وماذا تعني هذه الوسائل ، وما عساها أن تنفع في علاج المفاسد المتعددة ، وكيف تعالجون الاقتصاد على غير أساس الربا ، وكيف تصنعون في قضية المرأة ، وكيف تنالون حقكم بغير قوة ؟ فاعلموا أيها الإخوان أن وساوس الشيطان يلقيها في أمنية كل مصلح ، فينسخ الله ما يلقى الشيطان ، ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم . واذكروا لهؤلاء جميعا إن التاريخ يقص علينا من نبأ الامم الماضية والحاضرة ما فيه عظة وعبرة ، والأمة التي تصمم على الحياة لا يمكن أن تموت.
وبنفس البصيرة النافذة وبإدراك ووعي بسنة الله في الدعوات يصارح الإمام الشهيد أنصار الدعوة ورجالها، ويبصرهم بتبعات الطريق وتكاليفه ، وما ينتظرهم ، وما سيلاقونه من عقبات، فيقول تحت عنوان " العقبات في طريقنا" :" احب أن أصارحكم أن دعوتكم مازالت مجهولة عند كثير من الناس ، ويوم يعرفونها أو يدركون مراميها وأهدافها ستلقى منهم خصومة شديدة وعداوة قاسية وستجدون أمامكم كثيرا من المشقات ، وستعترضكم كثير من العقبات ، وفي هذا الوقت وحده تكونون قد بدأتم تسلكون سبيل أصحاب الدعوات ، أما الآن فمازلتم مجهولين، ومازلتم تمهدون للدعوة وتستعدون لما تتطلبه من كفاح وجهاد ...سيقف جهل الشعب بحقيقة الإسلام عقبة في طريقكم ، وستجدون من أهل التدين ومن العلماء الرسميين من يستغرب فهمكم للإسلام ، وينكر عليكم جهادكم في سبيله ، وسيحقد عليكم الرؤساء والزعماء وذوو الجاه والسلطان ، وستقف في وجهكم كل الحكومات على السواء ، وستحاول كل حكومة أن تحد من نشاطكم وأن تضع العراقيل في طريقكم .وسيتذرع الغاصبون بكل طريق لمناهضتكم ، وإطفاء نور دعوتكم ، وسيستعينون في ذلك بالحكومات الضعيفة والأخلاق الضعيفة والأيدي الممتدة إليهم بالسؤال واليكم بالإساءة والعدوان ، وسيثير الجميع حول دعوتكم غبار الشبهات وظلم الاتهامات ، وسيحاولون أن يلصقوا بها كل نقيصة ، وان يظهروها للناس في ابشع صورة ، معتمدين على قوتهم وسلطانهم ، معتدين بأموالهم ونفوذهم ( يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا ان يتم نوره ولو كره الكافرون ) التوبة ... وستدخلون بذلك ولاشك في دور التجربة والامتحان ، فتسجنون وتعتقلون ، وتنقلون وتشردون ، وتصادر مصالحكم وتعطل أعمالكم ، وتفتش بيوتكم ، وقد يطول بكم مدى هذا الامتحان .. (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ) العنكبوت . ولكن الله وعدكم من بعد ذلك كله نصرة المجاهدين ومثوبة العاملين المحسنين : (يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب اليم ، تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم أن كنتم تعلمون ".. " ... فأيدنا الذين أمنوا على عدوهم فاصبحوا ظاهرين ) الصف .. فهل أنتم مصرون على أن تكونوا أنصار الله! ".
كان المؤتمر الخامس نهاية مرحلة وبداية مرحلة ثانية .. وقد كتب الإمام الشهيد في افتتاحية العدد الأول من مجلة " النذير " التي صدر العدد الأول منها في مايو 1938 الموافق ربيع الأول 1357 هـ ، يحدد ملامح المرحلة الثانية للدعوة وتحت عنوان : " خطوتنا الثانية " قال :" منذ عشر سنوات بدأت دعوة الإخوان المسلمين خالصة لوجه الله، مقتفية أثر الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم سيد الزعماء، وأهدى الأئمة وأكرم خلق الله، متخذة القرآن منهاجا، تتلوه وتتدبره وتقرأه وتتفحصه وتنادي به، وتعمل له، وتقولعلى حكمه ، وتوجه إليه أنظار الغافلين عنه من المسلمين وغير المسلمين ، وكذلك كانت ، وستظل دعوة إسلامية محمدية قرآنية ، لا تعرف لونا غير الإسلام ولا تصطبغ بصبغة غير صبغة الله العزيز الحكيم ولا تنتسب إلى قيادة غير رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا تعلم منهاجا غير كتاب الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .والإسلام عبادة وقيادة ، ودين ودولة، وروحانية وعمل، وصلاة وجهاد، وطاعة وحكم، ومصحف وسيف، ولا ينفك واحد من هذين عن الآخر، وإن الله ليزع بالسلطان مالا يزع بالقرآن ..
ويتساءل الناس : ما خطوتكم الثانية ؟... سننتقل من خير دعوة العامة إلى خير دعوة الخاصة ، ومن دعوة الكلام وحده إلى دعوة الكلام المصحوب بالنضال والأعمال ، وسنتوجه بدعوتنا إلى المسؤولين من قادة البلد وزعمائه ووزرائه ، وحكامه وشيوخه ونوابه وأحزابه ، وسندعوهم إلى مناهجنا ، ونضع بين أيديهم برنامجنا ، وسنطالبهم بان يسيروا بهذا البلد المسلم بل زعيم الأقطار الإسلامية في طريق الإسلام ، في جرأة لا تردد معها، وفي وضوح لا لبس فيه ومن غير مواربة أو مداراة فان الوقت لا يتسع للمداورات ، فان أجابوا الدعوة وسلكوا السبيل إلى الغاية آزرناهم ، وإن لجأوا إلى المواربة والروغان ، وتستروا بالأعذار الواهية والحجج المردودة ، فنحن حرب على كل زعيم أو رئيس حزب ، أو هيئة لا تعمل على نصرة الإسلام ، ولا تسير في الطريق لاستعادة حكم الإسلام ومجد الإسلام ، سنعلنها خصومة لا سلم فيها ولا هوادة معها ، حتى يفتح الله بيننا وبين قومنا بالحق وهو خير الفاتحين !!.
وعن موقف الإخوان من الحكام والزعماء والأحزاب والهيئات يقول الإمام الشهيد في نفس الافتتاحية مخاطبا الإخوان :" في هذه الخطوة .. ستخاصمون هؤلاء جميعا في الحكم وخارجه، خصومة شديدة لديدة إن لم يستجيبوا لكم، ويتخذوا تعاليم الإسلام منهاجا يسيرون عليه، ويعملون له، وسيكون هؤلاء جميعا منضمين لكم في وحدة قوية، وكتلة متراصة متساندة، إن أجابوا داعي الله وعملوا معكم، وحينئذ يجتمعون ولا يتفرقون، ويتحدثون ولا ينتقدون، فهو موقف إيجابي واضح لا يعرف التردد، ولا يتوسط بين الحب والبغض، فإما ولاء وإما عداء، ولسنا في ذلك نخالف خطتنا، أو ننحرف عن طريقنا، أو نغير مسلكنا، بالتدخل في السياسة كما يقول الذين لا يعلمون، ولكنا بذلك ننتقل خطوة ثانية في طريقتنا الإسلامية، وخطتنا المحمدية، ومنهاجنا القرآني ولا ذنب لنا أن تكون السياسة جزءا من الدين، وأن يشمل الإسلام الحاكمين والمحكومين، ليس في تعاليم الإسلام إعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله ، ولكن في تعاليم الإسلام: قيصر وما لقيصر لله الواحد القهار.
أيها الإخوان: أعلن لكم هذه الخطوة على صفحات جريدتكم هذه لأول عدد منها، وأدعوكم إلى الجهاد العملي بعد الدعوة القولية، والجهاد بثمن وفيه تضحيات، وسيكون من نتائج جهادكم هذا في سبيل الله والإسلام أن يتعرض الموظفون منكم للاضطهاد وما فوق الاضطهاد، وأن يتعرض الأحرار منكم للمعاكسة وأكثر من المعاكسة، وأن يدعى المترفون منكم إلى السجون وما هو أشق من السجون، ولتبلون في أموالكم وأنفسكم، فمن كان معنا في هذه الخطوة فليتجهز ويستعد لها، ومن قعدت به ظروفه أو صعبت عليه تكاليف الجهاد سواء كان شعبة من شعب الإخوان أو فردا من أعضاء الجماعة فليبتعد عن الصف قليلا، وليدع كتيبة الله تسير، ثم فليلقنا بعد ذلك كل في ميدان النصر إن شاء الله " ولينصرن الله من ينصره " .. ولا أقول لكم إلا كما قال إبراهيم عليه السلام من قبل (من تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم ).