الإستراتوقراطية
د. خالد أحمد الشنتوت
*تتكون كلمة استراتوقراطية من مقطعين (Strato) بمعنى جيش ، و(Cratie) بمعنى حكم ، وتعني الكلمة الحكم العسكري على ما ورد في معجم أكسفورد .
وقد ظهر المصطلح في المصادر الإنجليزية سنة 1652 على أنه يعني نمطاً من أنماط الحكومات التي تتحول فيها الحكومة إلى حكومة عسكرية ، وفي سنة 1656 أشار ( بلاونت غلوسوجر) إلى أن الاستراتوقراطية كلمة يونانية تعني الحكومة العسكرية التي تحكم دولة أو مجموعة من الدول في شكل كومنولث بوساطة الجيش أو العسكريين .
وفي سنة 1815 نظر البعض إلى الحكومة الفرنسية باعتبارها حكومة حرب أو استراتوقراطية ، وفي أواخر القرن التاسع عشر رأى البعض أن "الخطر الأعظم على التقدم الدائم في أوروبا يكمن في احتمال ظهور فترة من الاستراتوقراطية".
ويبدو مما جاء في معجم اكسفورد أن الاستراتوقراطية كانت نتاجاً للأوليغاركية الرومانية ، وإن كان إدوارد جيبون (1737-1794) قد أشار في كتابه "اضمحلال الإمبراطورية الرومانية" إلى أن الحكومات العسكرية إنما هي امتداد طبيعي لحكم الطاغية،أو أنها تظهر كنتيجة حتمية للتسلط والاستبداد ،وقد ذكر أن ظهور العصابات في عهد "أوغسطس" الذي أدرك أن القوانين قد تضفي على ملكه المغتصب لوناً ما، ولكن قوة السلاح وحدها هي التي تستطيع المحافظة عليه ، فأقام تدريجياً جهازاً قوياً من الحراس على استعداد دائم لحماية شخصه ، ولمنع أو لسحق أية بادرة للعصيان .
وهكذا أدرك الحرس قوته ووقف على ضعف الحكومة المدنية وبدأت تظهر لديهم ولدى أنصارهم تبريرات لتلك القوة التي تجعل بالإمكان إخضاع كل شيء لتصرفهم .
وقد ظهر نمط من الاستراتوقراطية في تاريخ الدولة الإسلامية في ظل حكم المماليك في مصر والشام والذي بدأ عام 648ه بعد انهيار الدولة الأيوبية.
حكومة طوارئ
وينظر البعض إلى الحكومة العسكرية في العصر الحديث باعتبارها "حكومة طوارئ" أو حكومة انتقالية تفرضها القوات المسلحة لإدارة الدولة بدلاً من الحكومة المدنية التي عجزت عن ممارسة وظائفها ، وتشكل الحكومة العسكرية عادة في حالات الاضطرابات الداخلية بسبب ضغوط عسكرية أو سياسية خارجية أو بسبب تناقضات اجتماعية داخلية تأتي إلى السلطة عادة عن طريق انقلاب عسكري أو ثورة عسكرية تأخذ طابعاً استبدادياً في أغلب الأحيان لا سيما إذا ما كان وصولها إلى السلطة بسبب التناقضات الاجتماعية ، وعلى هذا الأساس يمكن أن نصف الحكومات العسكرية التي ظهرت في العالم الثالث في العقود الأخيرة بأنها استراتوقراطية .
وإذا كان (كليمانصو) – كما يذكر (دالدر) في بحثه عن دور العسكرية في الدول الناشئة – قد قال كلمته المشهورة : بأن الحرب عمل من الخطورة بمكان أن نتركه في أيدي الجنرالات ، فإن القيادات العسكرية في الدول الناشئة لم تجد صعوبة تذكر في أن تعكس هذا القول ، حيث أنها – كما قال الجنرال ديغول – وصلت إلى نتيجة مؤداها أن "السياسة أمر خطير لا يجب أن يُترك للسياسيين" .
وعلى هذا نسبة الاستراتوقراطية عندنا حكم العسكر بالانقلابات التي تستولي على الحكم بالقوة ، وتسير بالناس بالقوانين الاستثنائية والطوارئ ولها عندنا في الإسلام حكم .
إمامة الغلبة والاستيلاء بالقوة وحكمها الشرعي
لقد ثبت بالدليل الشرعي أن نصب الخليفة والإمام لا يتم إلا ببيعة المسلمين بشروط معينة تتحقق في الخليفة ، وشروط أخرى تتحقق في حكمه وسيره .
ولكن ما الحكم إذا مات الخليفة أو خلا منصب رئيس الدولة ، أو قام أحد من الناس بانقلاب وتولى الحكم غاصب متسلط عن طريق العسكر أو الرعاع والسوقة من غير بيعة المسلمين ولا اختيار منهم ، فهل يصبح المتسلط خليفة للمسلمين باستيلائه على السلطة ، أم يجب تنحيته وإقامة الإمارة أو الخلافة على قواعدها الصحيحة برأي الأمة واختيارها لتكون دستورية سليمة .
اختلف الفقهاء في هذا الأمر على ثلاث فرق ، وإن كانت كلها تجمع على أن هذا العمل غير شرعي أو غير دستوري ، ولكنها تختلف في كيفية التعامل معه ، خوف الفتنة وخوف الشقاق وضياع الشوكة وإراقة الدماء ، أو خوف إهدار مصالح المسلمين وجلب الحرج والمشقة عليهم .
الفرقة الأولى :
ذهب بعض فقهاء العراق إلى ثبوت ولاية المتغلب ، إن لم يعقدها أهل الاختيار وهو رواية عن الإمام أحمد ، واحتج بأن ابن عمر صلى بأهل المدينة في زمن الحرة ، وقال : "نحن مع من غلب" ولأن عبد الملك بن مروان خرج على ابن الزبير واستولى على البلاد وأهلها حتى بايعوه طوعاً وكرهاً ، فصار إماماً يحرم الخروج عليه لما في الخروج عليه من شق عصا المسلمين ، وإراقة دمائهم ، وذهاب أموالهم ([1][24]).
وهذا الفريق يرى أن غلبة المستولي على الحكم بالسلاح أو بالقوة أو بالطريق غير الدستوري كتزوير الانتخابات مثلاً ، لا تصح وغير دستورية ولكنهم يخشون الخروج عليه لخوفهم على أنفسهم وعلى المسلمين وعلى شق الصفوف ، يعبر عن هذا الإمام أبو حامد الغزالي فيقول : " والذي نراه ونقطع به : أنه يجب خلعه إن قدر على أن يستبدل عنه من هو موصوف بجميع الشروط ، من غير إثارة فتنة وتهييج قتال ، وإن لم يكن ذلك إلا بتحريك قتل وجبت طاعته وحكمنا بإمامته "([2][25])، أي للضرورة حتى يمكن إزالته عن منصبه .
الفرقة الثانية :
اشترطت للاعتراف بإمامتهم شروط معينة من هؤلاء جمهور الفقهاء والمتكلمين الذين ذهبوا إلى أن إمامة المتغلبة لا تنعقد إلا بالرضى والاختيار إذا وجدت فيهم شروط الإمامة ، يلزم أهل الاختيار عقد الإمامة لهم ، لمصلحة المسلمين فإن توقفوا أثموا لأن الإمامة عقد لا يتم إلا بعاقد([3][26]).
وقال أبو يعلى الفراء : " الإمامة تنعقد من وجهين ، أحدهما : باختيار أهل الحل والعقد فلا تنعقد إلا بجمهور أهل الحل والعقد ، قال أحمد في رواية إسحاق بن إبراهيم : الإمام الذي يجتمع عليه ، كلهم يقول : هذا إمام .
وقد اشترط الماوردي في إمارة الاستيلاء شروطاً سبعة حتى يصح تقليد المستولي إماماً ، كلها تحتم أن يكون صالحاً لتسيير أمور المسلمين .
الفرقة الثالثة :
جمهور المعتزلة ورأي الشافعية ، منع جمهور المعتزلة أن يستعين الناس بالبغاة ، ولم يجيزوا إمضاء الأحكام والترافع إليهم ، بل لقد قال المعتزلة بالعصيان المدني ، ومنع أكثر المعتزلة الصلاة خلف الإمام الجائر جمعة كانت الصلاة أو غير جمعة وأوجبوا على من صلى خلفه إعادة الصلاة ، إذ الموقف منه هو وجوب خلعه وإزالته والثورة عليه .
وذكر الشافعية قولاً : يشترط لصحة إمامة المتغلب استجماع شروط الإمامة .
كما يشترط الشافعية أيضاً :
أن يستولي على الأمر بعد موت الإمام المبايع له ، وقبل نصب إمام جديد بالبيعة.
أو أن يستولي على حي متغلب مثله ، إما إذا استولى على الأمر وقهر إماماً مولى بالبيعة أو بالعهد ، فلا تثبت إمامته ، ويبقى الإمام مقهور على إمامته شرعاً .
إمامة المتغلب غير شرعية وغير دستورية :
الصحيح أن الخلافة لا تنعقد بالقهر والغلبة والاستيلاء ، لأنها عقد رضا واختيار فلا تصح بالإكراه ، لا بإكراه من يبايع ولا بإكراه الذين يبايعون .
والإسلام يعلمنا في كل تشريعاته أن الرضا قاعدة كلية حتى في قبول الدين نفسه (لا إكراه في الدين) وقاعدة معتبرة في العقود ، في النكاح والتجارة، والشهادة والإقرار والبيعة ، وقد طبقت قاعدة الرضا في البيعة للخلفاء الراشدين ، وتبعاً لهذه القاعدة الكلية لم تصح شرعاً رئاسة طلاب الملك الذين غلبوا على شعوبهم بقوة السلاح واحتلوا منصب القيادة العليا في المجتمع وحملوا الناس بالإكراه على طاعتهم وقد عارض كبار الصحابة تخطي إرادة الأمة في تولية الإمامة وماتوا دون هذا الرأي.
*دكتوراه في التربية
([1][24]) الأحكام السلطانية للماوردي (ص/8) ، الأحكام السلطانية أبي يعلى (ص/7 ، 8) ، المغني (8/107) ، وحاشية ابن عابدين (1/369) ، ومغني المحتاج (4/130) ، وأسنى المطالب (4/110 ، 111) .
([2][25]) الاقتصاد في الاعتقاد (ص/137 ، 138) .
([3][26]) الأحكام السلطانية للماوردي (ص/8) .