هل ينصلح العالم بالساسة الأدباء؟
هل ينصلح العالم بالساسة الأدباء؟
"البارودي ومارثن لوثر بين الأدب والسياسة"
د. نعيم محمد عبد الغني
لا زلت أذكر قول نابليون بونابرت "كلمة تصنع ما لا يصنعه ألف مدفع"، فأربط هذه الكلمة بأحداث التاريخ فأجد أن الأدب لعب دورا مؤثرا في حركته سلبا وإيجابا، فالحروب قديما تقوم بين القبائل بسبب قصيدة هجاء، والصلات تمتد وتشتد بسبب تبادل قصيدة مديح، وليس هذا في أدبنا العربي الذي يذخر بهذه الظاهرة وفقط وفقط، وإنما ألاحظه أيضا في الآداب العالمية من خلال ما ترجم إلينا من شعر ونثر.
وهذه الملاحظة تؤكد لي أن السياسي هو أشد الناس قدرة على إصلاح العالم؛ فهو يتمتع بميزات الأديب من حيث رقة العاطفة والقدرة على الكلام المتزن الذي هو نتاج قراءات وثقافات تشبع بها، فكل كلمة عنده بمقدار، ويميل دوما للإبداع والاختراع، ثم هو يتمتع بصفات السياسي التي تتقاطع مع صفات الأديب من حيث الدهاء والفكر والقدرة على حل المشكلات، وإن كان السياسي أقل عاطفة من الأديب فلا يكاد يحس بآلام الناس ويتأثر بها الشاعر الأديب، ومن ثم فعندما تجتمع الصفتان في شخص ما فإن له رؤية فلسفية واضحة المعالم يستطيع من خلالها أن يحقق الإصلاح في دولته.
إن الخراب الذي لحق بالعالم وقع في أغلبه من ساسة لم يعرفوا الأدب والشعر ويقدروا العلم حق قدره، فهولاكو كانت مكتبة بغداد من ضحاياه، وجورج بوش يعلن في بداية رئاسته إثر أحداث الحادي عشر من سبتمبر أنها ستكون حربا صليبية، وكثيرون من العسكر الذين يحكمون الدول يؤمنون بالاستبداد ولا يتفاهمون، وقد خلعت من قلوبهم الرحمة، ورقة القلب فعاثوا في الأرض فسادا، ونسمع تصريحات الزعماء في العالم الآن فنراها تفتقد في كثير منها إلى لغة رشيقة ومراوغة ماكرة، وعندما نسمع سياسيا بلغة رشيقة فإن العامة غالبا ما يفتنون به كالرئيس السادات مثلا الذي كان صاحب لغة رشيقة وإلقاء متميز، وكسعد زغلول الذي كان رشيقا في عبارته محكما لها فلا ريب فهو من تلاميذ الشيخ محمد عبده
ومن ثم فإنني أرى أن هذا العالم لن ينصلح إلا بساسة أدباء، تربوا على الأدب والشعر فكان أداة من أدواتهم فيستطيعوا من خلاله الإمتاع والإقناع، ورسم الخطط والتوجيه والإرشاد إلى غير ذلك من مهام الزعماء.
وأذكر في هذا المقام شاعرين الأول عربي والآخر ألماني، كل منهما كان سياسيا بارعا، وأديبا رائعا، الأول هو محمود سامي البارودي (1863 -1904)والآخر هو الشاعر مارثن لوثر (1483-1546)الألماني المعروف وليس السياسي الأميركي المولود 1929 والذي ناهض ضد التفرقة العنصرية واغتيل عام 1969، أما البارودي فإنه شاعر لقب برب السيف والقلم، حيث اتخذ العلم شعارا له فبلغ منزلة عليا، وتولى مناصب أبرزها وزيرا للحربية ثم رئيسا للوزراء في عهد الخديوي إسماعيل، ولم يطغه شيطان السياسة لاعتصامه بحبل العلم الذي جعله يناضل من أجل أمته فكان من قواد ثورة عرابي التي نفي على اثرها إلى سرنديب؛ ليغرد قصائد رقراقة كتبت له الخلود في الأدب والسياسة، وكانت له وجهة نظر في رقي الأمم عبر عنها بقوله:
بقـوة العلـمِ تـقـوى شوكـةُ الأمـمِ
فَالْحُكْمُ في الدَّهْرِ مَنْسُـوبٌ إِلَـى الْقَلَـمِ
كمْ بينَ ما تلفظُ الأسيـافُ مـنْ علـقٍ
وَبَيْنَ مَـا تَنْفُـثُ الأَقْـلامُ مِـنْ حِكَـمِ
لَوْ أَنْصَفَ النَّاسُ كَانَ الْفَضْـلُ بَيْنَهُـمُ
بِقَطْـرَة ٍ مِـنْ مِـدَادٍ، لاَ بِسَـفْـكِ دَمِ
فاعكفْ على العلمِ تبلـغْ شـأوَ منزلـة
في الفضلِ محفوفـة ٍ بالعـزَّ وَ الكـرمِ
أما مارثن لوثر فإنه كان أديبا بارعا ترجم الإنجيل بلغة رشيقة، واتخذ لهجة تختلف عن اللهجات الألمانية وأصبحت هذه اللهجة لغة قومية للبلاد، ولقد أعجب به كاتبو قصة الأدب في العالم الدكتور زكي نجيب محمود وأحمد أمين، فقالا عنه: "ولعلك لا تجد في التاريخ كله رجلا اجتمع في شخصه ما اجتمع في شخص لوثر من قوة في توجيه أمته في السياسة والأدب والدين في آن معا، ولسنا ندري هل استطاع لوثر أن يكون قوة دافعة في الدين والسياسة بسبب براعته الأدبية أم كان في مقدوره أن يبلغ ما بلغ من الزعامة بغيرها، وكذلك لا ندري إن كانت اللهجة الألمانية في مقاطعة سكسونيا قد بسطت سيادتها وأصبحت لغة أدبية قومية بسبب زعامة لوثر الوطنية أم تلك نهاية كان لا بد منها ولم يكن لو ثر إلا معجلا لها؟"
وما فعله لوثر الذي وحد ألمانيا المفككة في القرن السادس عشر على لغة قومية واحدة يذكرنا بما فعله صاحب الكوميديا الإلهية دانتي حين كتب باللهجة "التسكانية" ففرضها بذلك على سائر اللهجات، وأصبحت بفضله لغة إيطاليا الأدبية، ويذكرنا أيضا بما تم على يد شوسر في إنجلترا حين أنشد شعره باللغة الشائعة في جنوبي إنجلترا بالقرب من لندن، وسرعان ما طغت على سائر اللهجات في البلاد واعترف بها الجميع لسانا قوميا.
إن لوثر استحق مكانته المرموقة سياسيا وأدبيا ودينيا بفضل ترجمته للإنجيل؛ إذ كان يهدف من وراء ذلك أن يربط الناس بكتابهم المقدس؛ حتى تتزعزع مكانة رجال الدين الذين تفردوا بقراءة الإنجيل باللغة العبرية، كي يلجأ إليهم الناس دائما ليشرحوا لهم هذا الإنجيل وليأكلوا أموالهم باسم الدين، ولينشروا تعاليمهم باسم الكتاب المقدس، وهي فترة أوربا في العصور الوسطى عصور الظلام.
ولقد أراد لوثر أن يتغنى الناس بآيات الإنجيل، سواء كانوا يعرفون القراءة أم يسمعون هذه الآيات حفظا وتلقينا، من نثر لوثر الذي اتسم بالسلاسة والسهولة مخالفا ما شاع عن النثر الألماني في هذه الفترة وما بعدها بالغموض والتعقيد. وسوف يذكر الفن للوثر إلى الآن ما تميز به من براعة للعزف على العود، والإلمام بقواعد الموسيقى؛ ليلحن أشهر هذه الترانيم التي ما زالت تردد في صلوات البروتستانت إلى اليوم، تلك الترنيمة التي هي بعنوان: (إلهنا الحصن المنيع)، وهي مستوحاة من المزمار السادس والأربعين من مزامير داود، ومنها:
(إلهنا حصن منيع، درع متين، سيف ماض، إنه سينقذنا من كافة الآلام التي تطوقنا، إن شيطان الشر العتيق يتربص بنا الدوائر اليوم، فتحيك قوته العاتية، ومكره الشديد دروعه المخيفة. إن العالم لم يشهد له مثيلا).
ومهما يكن من أمر فإنني من الذين يؤمنون بقول الشاعر: (بالعلم والمال يبني الناس ملكهم...لم يبن ملك على جهل وإقلال)، وأن السياسي ينبغي أن يكون أديبا أريبا عاقلا حكيما، أو محبا للأدب والعلم مقربا أهله وجاعلهم من أهل المشوة.