الْجَمَال في ديوان العرب

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

من الحقائق التي حملها إلينا التاريخ، وسرتْ مسرى الأمثال قولهم "العرب أمة شاعرة" وكذلك قولهم: "الشعر ديوان العرب". ولا مبالغة في ذلك: فالشعر هو الذي حفظ تاريخهم، وأيامهم، ومسيرة حياتهم.

وحلقتنا هذه عن (الجَمَال). والجمالُ صفة من أحبِّ الصفات إلى النفوس، يحبها الإنسانُ في نفسه، ويحبها الإنسانُ في غيره: فكل منا يحب أن يكون جميلاً في المظهر.. جميلاً في المخبر، كما يحب أن يرى هذه الصفة في أبنائه وبناتيه وأهله.

وفي مقام الحديث عن (الجمال) علينا أن نذكر حقيقتين: الأولى: أن الجمالَ البشريَّ ليس صفة مطلقة، بل هو صفة نسبية، بمعنى أن ما تراه جميلاً رائعَ الجمال قد يراه غيرك جميلاً جمالاً متواضعًا، بل قد يرى بعضهم فيه مظاهر قبح ودمامة، والعكسُ صحيحٌ أيضًا، وهذا ما نسميه نسبية الجمال. وينقل لنا ديوان الشعر العربي أن أحدَ أمراءِ البيتِ الأموي خرجَ إلى الصحراء في رحلةِ صيد، فرأى أعرابيًا وزوجته يرعيان عددًا من الأغنام، وبقدر جمال المرأة وسحرها كانت دمامةُ الرجلِ وقبحه، فهتف الأمير بها متسائلاً في عجب: أأنتِ سعيدةٌ معه؟

قالت: لقد قضيت معه خمس سنوات لم أعرف فيها غير الطمأنينة والسعادة.

قال الأمير: أتحبينه؟

قالت: عجبًا: وهل تكون سعادة على غير حب؟!!

قال الأمير: يا عجبًا.. لكن ما لذي يعجبك في زوجك على دمامته وفقره؟ .. نعم ما الذي يعجبك في هذا؟

فقالت على البديهة وهي تشيرُ إلى زوجها وتتجه نحوه:

هذا ـ وإن كان في فقر وإضْرارِ                         أعزُّ عندي منْ قومي ومنْ جَارِي

وصاحبِ التاجِ، أوْ مَنْ كان صاحِبَهُ               وكلِّ ذي  دِرْهمٍ  عِنْدي،  ودينارِ

**********

 فالحقيقةُ الأولى هي نسبية الجمال، أما الثانية ـ وهي مبنيةٌ على الأولى ـ فهي اختلاف مقاييس الجمال من بيئة إلى بيئة، ومن عصرٍ إلى عصر:

 ففي العصر الجاهلي مثلاً: يرى امرؤ القيس أن الجمال الحقيقي يتمثلُ في المرأة الضخمة الكسول فهي:

نَؤُومُ الضُّحَى لم تَنْتَطِقْ عن تَفَضُّلِ

أما شعرها فيجب أن يكون غزيرًا جدًّا، تتزاحمُ، وتتراكب جدائله:

وفرع يَزينُ المتْنَ أسودَ فاحِمٍ              أثيث  كقِنو  النخلةِ  المُتَعثكِلِ

 غدائرُهُ مُسْتَشْزِرَاتٌ إلى العلا            تضِلُّ العِقاصُ في مثنى وَمُرسَلِ

أما البارودي ـ رائد النهضة الشعرية في العصر الحديث ـ فيرى مثالَ الجمالِ في الرشيقة خفيفة الظل حتى

إنها لو مشت على الغبار الطائر لحملها. يقول البارودي:

خفيفةُ مَسْرَى الروح حتَّى لو أنَّها         مشتْ على سارياتِ الذَّرِّ ما آده الحمْلُ

********

 وفي ديوان العرب ذخيرة ضخمة من شعر الشعراء عن سحر المحبوبة، ومظاهر جمالها، ولا يخلو كثير منه من الغلو والتطرف، والإسراف. فهي تفوق البدر جمالاً وبهاء. يقول أحد الشعراء:

إذا عِبْتُها شبَّهتُها البدرَ طالعًا                       وحسبُكَ من عيبِ لها شَبَهُ البدْرِ

 وهي فوق الوصف، وفوق التصور على حد قول جرير:

 ما استوصف الناسُ من شيء يروقهمُ             إلا رأوا أمَّ عمرو فوق ما وَصَفُوا

 كأنها مُزْنَةٌ غَرَّاءُ.. رائحةٌ                         أوْ درةٌ لا يُوارِي ضوءَها الصَّدَف

ولكن ابن الرومي لا يرى رأي جرير في تشبيه الحبيبة بالدرة، فالجميلات يتفوقن في سحرهن على الدر، ويزرين به. يقول ابن الرومي:

 تواضعَ الدرُّ إذْ أُلبسْنَ فاخِرَهُ                      فكنُّ دُرا، وكان الدرُّ أصْدافا

 ويرى الوليد بن محمد الحارثي، وجه صاحبته من وراء برقع وخمار، فيقول:

 وَغَدَتْ مبرقعةً، فلمْ أَرَ قَبْلَها               شمْسًا تُلاثُ بِبرقعٍ وخِمَارِ

**********

 ولكن شعراء العرب لم يكتفوا بهذه المظاهر الجمالية العامة عند المرأة، بل تعدوا ذلك التعميم إلى إبراز جمالياتها في أسنانها وابتسامتها، وريقها وجيدها وخصرها، ومشيتها، وريحها، وحديثها. ونقدم بعض القطوف.

 ففي مشيتها يقول الأعشي:

 كأن مشيتها من بيت جارتــها                  مرُّ السحابة لا ريثٌ ولا عجل..

 غراء فرعاءُ مصقولٌ عوارِضها                 تمشي الهويني كما يمشي الوجي الوحِلُ

**********

 وهي عند ابن الرومي تتمتع بالرائحة الطيبة النابعة من أنفاسها المعطرة وخصوصًا عند استيقاظها من النوم، على عكس الأخريات. يقول ابن الرومي:

 وما تعتريــها آفـــةٌ بشريةٌ                 منَ النومِ، بل تزداد طيبًا وتعطرُ

 وغير عجيب طيبُ أنفاس روضة                        منــورة باتت تراحُ.. وتمطرُ

 كذلك أنفاسُ الرياح بسحــرة                   تطيــب، وأنفاس الأنام تغير

أما حديثها فهو (السحر الحلال) على حد قول البحتري:

 وحديثها السحرُ الحلالُ، لو انــه                لم يجنِ قتلَ المسلمِ المتحرزِ

 إن طال لم يُمْلل، وإن هيَ أوجَزَتْ                ودَّ المحدَّثُ أنها لم تــُوجِزِ

أما جيدها أي عنقها فهو كجيد الغزال، وقد زاده جمالاً ما عليه من حلي وعقود. يقول قيسُ بنُ الخطيم:

 وجيدٍ كجيدِ الريم، صافٍ يزينهُ                    توقدُ ياقوت، وفضل زبرجدِ

 كأن الثريا فوق ثغرة نحرها                       توقد في الظلماء أي توقــدِ

وعن الخدين يقول محمد بن عبد الرحمن العطوي:

 ذاتُ خدين ناعمين ضننينين بما فيهما من التفاح.

 ويرى الراعي النميري أن من مظاهر جمال حبيبته: الكسل، والابتسامة الجميلة، فيقول:

 وبيضاء مكسالِ لعـوبٍ خريدة                  لذيذ لذي ليل التمام الترامــها

 كأن وميض البرق بيني وبينها                   إذا حان من بعض البيوت ابتسائها

وتحظى الأسنان بحظ وافر من ديوان العرب، وكثيرًا ما شبهت بالبرد واللؤلؤ، يقول البحتري:

 كأنما تضحكُ عنْ لؤلؤٍ                   منظمٍ او بََردٍ أو أقاحْ

ويرتبط الريق بالأسنان، وقد شبهوا ريق الحبيبة بالشهد، والخمر، وغير ذلك مما لا يتسع له الوقت، وقد يبالغ بعضهم في وصف عذوبة الريق وحلاوته، كما نرى في قول الشاعر:

 ولو تفلت في البحر ـ والبحر مالحٌ               لاصبح ماء البحر من ريقها عذبَا

إن مظاهر الجمال كثيرة والشعر فيها أكثر، جعل الله حياتنا كلها جمالاً وسلامًا، وطمأنينة، وسعادة .