المسنة الحيية
في كل خميس أدخل المسجد بسعادة .. ففيه عبادة وسعادة .. وفيه درس وروح الحياة .. وفيه وجوه طاهرة مشرقة لم تمنعها بعد المسافة ولا مشقة الجو البارد أو الحار ولا تعب الأقدام والتقدم في العمر من الحضور إلى تلك الرحاب الزكية تسمع كلمة خير وتنهل العلم نهلاً من منبع الإيمان الصافي ..
وفي كل مرة بعد أن أنهي تحية المسجد تبدأ عيناي بالبحث عنها .. تلك المسنة ذات الوجه المتعب الذي تفوح منه رائحة السنين الست الأخيرة .. فهي وزوجها بعد أن كانا من علية القوم ومن أصحاب البيوت والعقارات رماهما الزمن في حجرة صغيرة هي البيت وهي المرافق .. لها سقف لا يحمي ساكنيه مطر الشتاء ولا يمنع عنهم حر الصيف .. هي الخالة التي خلفت بلادها بعد تلك الثورة التي فضحت النظام السوري الخبيث الذي شرد العباد وهدّم البلاد ..
تلك التجاعيد تحكي قصص الكفاح وقصص البكاء على الولد الذي ركب عرض البحر وهاجر إلى ألمانيا مخلفاً أولاده وأمهم .. وقصة ابنتها التي فقدت عقلها وصارت تحقن بأبر المهدئات بعد أن عرفت أن زوجها المخلص قد مات تحت التعذيب في السجون الأسدية الرهيبة .. قصة امرأة سبعينية باتت تعمل في تكسير الزيتون تارة وصناعة المخللات تارة أخرى لتجمع إيجار تلك الغرفة السقيمة المنزوية في منطقة مهجورة في هذا العالم القاسي ..
لما أرى ذلك المبسم وهي تمد يدها تصافحني وتدعو لي ولوالديّ كنت أشعر بالأمل .. تلك المسنة تستحي أن تسألني عن حال الوالد .. هي تسأل عن الوالدة وتدعو لها بالشفاء العاجل .. تلك المسنة تشعرني على الرغم من زوال الشباب وانهيار آيات الأنوثة والجمال فيها .. تشعرني كأنها امرأة عشرينية تستحي من ذكر أسماء الرجال وتتحرج من السؤال عنهم ..
وقفت مع نفسي وقفة ألم وأنا أرى نساءنا يتكلمن مع الصغير والكبير بطلاقة وبلا حرج ولا حياء ولا خجل .. بل وتجد منهن من تطلب منك الكلام مع زوجك في موضوع هو أعلم به منك في أمور عمله .. بل وتبكي جوارحي وأنا أرى العلاقات المشبوهة من ضحك وإفشاء أسرار البيوت بين الرجل وزميلته في العمل بحجة الأخوة وتقارب الأفكار فزوجته لا تقدر مماشاته ولا التفاهم معه ..
ولا أنسى تلك المرأة التي رويت قصتها لي أنها لما كانت في عدة موت زوجها لم تكن تخرج في الليل إلى الحديقة لأن القمر مذكر وتخرج نهاراً لأن الشمس مؤنث .. يا عجبي ..
وسوم: العدد 705