الإسلام في أفريقيا الحلقة (34)

الدولة الأغلبية تتبنى الفكر المعتزلي

تبعية الدولة الأغلبية لبغداد دفع الأغالبة إلى تبني الاعتزال اقتداءً بمذهب سيد بغداد الخليفة المأمون الذي أمر بالقول(بخلق القرآن) (212هـ/827م). وسار على نهجه من بعده الخليفة المعتصم والخليفة الواثق.

لقد حاول أمراء الأغالبة، منذ أن صار الاعتزال مذهباً رسمياً لدولتهم - ولأسباب تخص السياسة الداخلية - المحافظة على توازن معين بين المعتزلة قليلي العدد - إرضاء لبغداد - وبين السنيين الأكثر عدداً تحسباً للشعبية التي كانوا يتمتعون بها في أوساط الجماهير والعامة. وعلى هذا، كانت الوزارة من نصيب المالكية، فكانت لبني حميد في عهد زيادة الله الأول ومن جاء بعده، لأنهم كانوا حماة السنة، في حين تولى القضاء المعتزلي ابن أبي الجواد.

ولكن الأمير محمد أبو العباس نقض هذه القاعدة وتحلل من هذا التوازن بعد أن ذاق ما ذاق من أخيه أحمد عندما استبد بالملك، فكان أول عمل قام به بعد استرجاعه مكانته أن عرض على شيخ السنة في المغرب الإسلامي قاطبة (سحنون بن سعيد) تسلم منصب قاضي الإمارة بعد أن عزل ابن أبي جواد المعتزلي، ولم يكن هذا التحول بالأمر السهل فمنصب القاضي في ذاك العصر لم يكن أقل خطورة من منصب الأمير نفسه.

يقول عياض في مداركه: ولما أراد محمد بن الأغلب أن يولي سحنون، جمع العلماء والفقهاء للمشورة. فأشار سحنون بسليمان بن عمران، وأشار سليمان بسحنون، وأشار غيرهما بسليمان. فأدخلوا فرادى، فقالوا كقولهم الأول. وذلك أن أكثر الفقهاء إذ ذاك كانوا على رأي الكوفيين، وكان سليمان يرى رأيهم. فقال سليمان: ما ظننت أنه يشاور في سحنون. حججت فرأيت أهل مصر يتمنون كونه بين أظهرهم، وما يستحق أحد القضاء وسحنون حي.

لقد كان أتباع أبي حنيفة يُعرفون بالكوفيين أو أهل العراق، خلافاً لأهل المدينة الذين كانوا موالين لمالك. وهكذا انقسمت السنة في دولة الأغالبة إلى فريقين غير متكافئين في العدد. كان الحنفية أكثر عدداً، لكن المالكية يملكون القوة من خلال تبعية معظم الرعية لهم. وفي ختام مجلس المشاورة فاز الشيخ سحنون بأكثرية الأصوات، وتبوأ مركز قاضي إفريقية الخطير.

لقد عزل ابن أبي الجواد سنة (232هـ/846م) ولم يتسلم سحنون المنصب - رغم اختياره من قبل الأمير وفقهاء القيروان - إلا بعد سنتين، وذلك في يوم الاثنين الرابع من رمضان سنة (234هـ/848م)، وروى محمد بن سحنون الأسباب التي دعت والده لأن يقبل آخر الأمر هذا المنصب بعد تمنع فقال:

ولي سحنون القضاء بعد أن أدير عليه حولاً، وأغلظ عليه أشد الغلظة، وحلف عليه محمد بن الأغلب بأشد الأيمان. فولي يوم الاثنين الثالث من رمضان سنة (234هـ/848م). فأقام أياماً ينظر في القضاء، يلتمس أعواناً، ثم قعد للناس من يوم الأحد بعده في المسجد الجامع، بعد أن ركع ودعا بدعاء كثير.

قال سحنون: لم أكن أرى قبول هذا الأمر حتى كان من الأمير معينان، أحدهما: أعطاني كل ما طلبت، وأطلق يدي في كل ما رغبت، حتى أني قلت له: أبدأ بأهل بيتك وقرابتك وأعوانك، فإن قبلهم ظلامات للناس وأموال لهم منذ زمن طويل، إذ لم يجترئ عليهم من كان قبلي، فقال: نعم، لا تبدأ إلا بهم، وأجر الحق على مفرق رأسي، فقلت له: الله ! فقال لي: الله ! ثلاثا. وجاء في من عزمه مع هذا ما يخاف المرء معه على نفسه. وفكرت فلم أجد أحداً يستحق هذا الأمر ولم أجد لنفسي سعة في رده. مدارك عياض-ص (273/1).

يتبع

وسوم: العدد 723