فلسطين مأساة ونضالاً
فلسطين مأساة ونضالاً
في شعر الشباب ... وقفة توجيهية
أ.د/
جابر قميحةعلى مدى خمسة أشهر، وعلى صفحات خمسة أعداد من مجلة "القدس"، كان لنا وقفات نقدية تقييمية مع أربعة من الشعراء الشباب في فلسطينياتهم، وهؤلاء الشعراء هم: أسامة كامل الخريبي، والشربيني محمد شريدة، وياسر أنور، وسمير فراج.
وكان اختيار هؤلاء على أساس المرحلة العمرية من ناحية، أعني مرحلة الشباب. وكذلك الغرض الشعري الذي حظي باهتمامهم ـ وهو "قضية فلسطين" ـ من ناحية أخرى.
وفي نطاق الفلسطينيات رأينا بين هؤلاء الشباب نقاط التقاء، ووجوه شبه، كما رأينا بينهم وجوه اختلاف وفروقًا في التصوير والتعبير، وقدر التوجه الوجداني , فكان لكل منهم بَصمتُه الفنية المتميزة مع وحدة الموضوع. ولا شك أن "ت. س. اليوت" كان على حق حين قال: لو أن ألف شاعر نظموا في الربيع لكنا أمام ألف ربيع لا ربيع واحد.
وفي مقالنا هذا ـ وبعد قراءتنا، بل معايشتنا الشعراء الأربعة ـ نبدي بعض الملاحظ والتوجيهات التي نعتقد أنها مهمة ـ لا للشعراء الأربعة فحسب ـ بل لغيرهم من الشعراء الشباب، وربما لغير الشعراء من الأدباء.
1 ـ كثيرون من شعراء الشباب ـ وهم يخطون خطواتهم الأولى على الطريق ـ رأيتهم ما بين متردد، يأخذه الحياء، فلا يقدم إبداعه للنشر، ولا في الصحف المحلية، ولا يعرضه على من يثق بهم من النقاد، وكأنه يؤمن بالمثل العامي القائل "تروح فين يا صعلوك بين الملوك". وينكفئ على ذاته، فلا يبدع إلا لنفسه، مع أن هذا الإبداع قد يكون فيه من الآسر العظيم ما يفوق إبداع بعض المشاهير.
ولا يعتبر هذا المسلك من قبيل التواضع؛ لأنه يعكس شعورًا حادًا بالضعة، واحتقار الذات. ومتعجل يجعل من نفسه مبدعًا، وناقدًا مقيمًّا في وقت واحد: فيبدع ويحكم على إبداعه بالنضج، والتفوق وقوة التأثير، وكلها سمات متوهمة لا وجود لها.
بل إن بعض هؤلاء يرى في صراحة من ينقده حسدًا منه على "موهبته" المتوهمة التي نفخ فيها وضخمها حتى ابتعد بها كثيرًا جدًّا عن واقعه الفني المتواضع ـ وهذا هو الغرور الذي يقود صاحبه إلى الانتحار الذاتي البطيء. لذلك كانت نصيحتي أسديها دائمًا للأدباء، والشعراء من الشباب: "كن معتزًا بإبداعك دون غرور، وكن متواضعًا بلا ضعة".
2 ـ دراسة قضايا العالم الإسلامي بتوسع ضرورة عقدية وحيوية في وقتنا الحاضر، وخصوصًا قضية فلسطين؛ لأنها قضية عرض قبل أن تكون قضية أرض، وقضية قيم ودين، قبل أن تكون قضية مبان وطين، وقضية وجود لا قضية حدود. ومن ثم كانت هي "القضية الأم" في وقتنا الحاضر .. القضية التي تمس وجود كل شعب عربي، ومصير كل شعب مسلم.
ودراسة هذه القضية دراسة واعية بكل مشتملاتها وتفصيلاتها، تقدم للشاعر المسلم مادته الشعرية من ناحية، وتذكي شحنته النفسية، وطاقته الروحية من ناحية أخرى، فتتكامل في تجربته الشعرية كل العناصر والقيم الفكرية والجمالية، والشعورية، والتعبيرية في صورتها المنشودة.
3 ـ دراسة "العروض" مهمة للشاعر حتى يستطيع أن يتفادى فيما ينظم الإخلال بالوزن، ويكتشف ما قد يكون في شعره من كسور. ويحسن بالشاعر الشاب أن يدرس كتابًا في علم العروض يتسم بالسهولة والبساطة، والإيجاز، وكثرة التطبيقات مثل كتاب "صفوة العروض" لأستاذنا عبد العليم إبراهيم رحمه الله.
ولكن هناك حقيقة مهمة يجب أن نؤمن بها، وهي أن العروض لا يصنع شاعرًا، وإلا ما كان على الساحة العربية شاعر قبل "الخليل بن أحمد الفراهيدي" الذي قدم للعربية علم العروض في العصر العباسي؛ لأن الموهبة هي الأصل، وشعراء العصر الجاهلي مثلاً ـ وهم فحول الشعر ـ ما كانوا يعرفون عروضًا، ولا بحورًا، وإنما كانوا مدفوعين للقول بموهبتهم الشعرية التي مكنتهم كذلك من تمييز الصحيح المستقيم من المسكور المختل.
والخليل بن أحمد نفسه ـ وهو صاحب علم العروض ـ لم يكن شاعرًا. صحيح أن له قصائد ومقطعات، ولكنها لا ترقى إلى مستوى الشعر الفائق.
وحتى يطبع الشاعر حاسته على الأوزان الشعرية، ويتمكن ـ إلى حد كبير ـ من التمييز بينها، أنقل إليه تجربتي الشخصية في هذا المجال، وذلك في قراءتي للشعر القديم، فأغلب دواوين الشعر القديم ترتب قصائدها على أساس الحروف الهجائية بالنظر إلى القافية، بدءًا بالقصائد التي قافيتها الهمزة، وانتهاء بالقصائد التي قافيتها الياء.
وكل قصيدة مصدرة باسم البحر مع العنوان، فتجد مثل هذه العبارة "وقال يهجو فلانًا .. وهي من الكامل".
كنت أقرأ الديوان ـ لا بترتيبه المطبوع، ولكن على أساس وحدات البحور، فأقرأ قصائد البحر الكامل كلها (وهي موزعة في الديوان على صفحات متفرقة غير متتالية)، ثم قصائد "البسيط" ثم قصائد الطويل.. وهكذا. ويكون ذلك في جلسات متعددة، فلا أقرأ قصائد بحرين في جلسة واحدة.
وبعد الانتهاء من قصائد البحر الواحد أحاول أن أتعرف على تفعيلاته ومتعلقاتها في كتاب العروض المبسط. وتوالي هذه التجربة ساعدني كثيرًا في استيعاب البحور، وترسيخ الأوزان في حاستي الشعرية. إنها تجربة نجحت معي وأمل أن تحقق مثل هذا النجاح لشعرائنا الشباب.
4 ـ كما أوصي الشباب ـ حرصًا على سلامة اللغة ـ بدراسة كتاب سهل في النحو مثل كتاب "النحو الواضح" للأستاذ علي الجارم. فإذا ما وجد الشاب في نفسه مزيدًا من الوعي، والقدرة فعليه بكتاب "النحو الوافي" للأستاذ عباس حسن، أو متن هذا الكتاب على الأقل.
وفي القواعد البلاغية أنصح أبناءنا الشعراء بدراسة كتاب "البلاغة الواضحة" للأستاذ علي الجارم رحمه الله.
5 ـ ورأيت كثيرين من شعراء الشباب وأدبائهم بينهم وبين كتب النقد حجاب، يستوي في ذلك كتب النقد العملي أو التطبيقي، وكتب النقد التنظيري. والنوع الأول هو الذي يتناول الأعمال الإبداعية بالتشريح والتقييم.
وهي تفيد الشاعر المتلقي في التعرف على العيوب التي تعلق بأشعار الآخرين، أو تثقلها، فيحاول ـ إذا ما اقتنع بهذه الأحكام ـ أن يتفادى في إبداعه العيوب والنقائص، وأن ينتفع بالمحاسن والمآثر. ومن هذه الكتب: "الورد والهالوك" للدكتور حلمي القاعود. و "دير الملاك" للدكتور محسن أطيمش، والدراسات التطبيقية في مجلة الأدب الإسلامي.
أما كتب النقد التنظيري فهي الكتب التي تقدم عناصر العمل الإبداعي، ومصادره، وسماته وأبعاده، والشرائط التي يجب أن تتوافر فيه حتى يحتل مكانته، ويحقق أهدافه. ومن هذه الكتب: النقد الأدبي أصوله مناهجه للشهيد سيد قطب، والمقدمة الرائعة التي كتبها المرزوقي، وصدر بها شرح ديوان الحماسة الذي جمع شعره الشاعر أبو تمام.
***
6 ـ وأوصي الشعراء الشباب باستلهام التراث العربي والإسلامي في أعمال درامية بقدر المستطاع، وكذلك أوصيهم بتوظيف الآليات والحيل المستجدة تأثرًا بعلوم السينما والمسرح، مثل: السيناريو، والمونتاج، والمرايا، واللقطات المقتطعة. وأحيلهم للتعرف على هذه الآليات على كتاب "اتجاه الشعر العربي المعاصر" للدكتور إحسان عباس، وكتاب "التراث الإنساني في شعر أمل دنقل" لجابر قميحة.
7 ـ إذا كان الهدف الأول من الكتابات النثرية هو نقل المحتوى، أي المضمون الفكري إلى المتلقي، فهو هدف يأتي في المرتبة الثانية في "النثر الفني" ويأتي كهدف "تبعي" في الشعر؛ لأن غاية الشعر إثارة الشعور، وهز الوجدان، وتحقيق المتعة النفسية والروحية عند المتلقي، وتوصيل المضمون الفكري من خلال كل أولئك.
أما "المباشرية" فهي أعدى أعداء الشعر، وهي تعني معالجة الموضوع بأفكار متراصة، مقدمة للقارئ بصورة صريحة مباشرة، محرومة من التصوير المحلق، والتعبير الموحي الآسر، والعاطفة المتوهجة، كما نرى في كثير من شعر الفقهاء الذين يهمهم سوق الحكمة، بصرف النظر عن الصياغة الفنية الجمالية.
ومثال المباشرية قول الشاعر:
ثم قالوا تحبها؟ قلت بهْرا عددَ النجم والحصى والترابِ
ولا كذلك قول الشاعر:
أطيْرَ القطا هلْ من يعيرُ جناحه لعليِّ إلى من قد هويتُ أطيرُ؟
ولا أدعي أن مضمون هذا المقال يمثل كل ما يجب أن يقال لشعرائنا الشباب، ولكنه بعض من كل، وقليل من كثير، هدفي منه ـ بدافع الحب ـ أن يواصلوا مسيرتهم في قوة وإيمان، وقد استكملوا آليات الفن الراقي الرفيع. وفقهم الله.