حديث الريح

د.عمر عبد الرحمن الساريسي

حديث الريح

البساطة والاقتدار

شعر : داود معلا

بقلم : د.عمر عبد الرحمن الساريسي

عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية

قصائده في هذه المجموعة (حديث الريح) تجمع بين البساطة والاقتدار، البساطة في الشكل والبنية الداخلية والاقتدار على الإيحاءات بالدلالات والصور، بسطة ترتفع عن مستوى النظم والمباشرة ، إلا في مواضع محدودة جداً ، فهذا حوار يديره الشاعر بين الشهيد وشجرة الزيتون فيقول :

لـبـيك ، وارتعشت iiتقبلني
أهوي إليك فإن وقعت iiعلى
أطوي على تلك الجذور يدي


أوراقـها الخضرا iiوتسقيني
هـذا الـتراب فذاك iiيكفيني
وأشـدهـا نحوي فتطويني

إنها صورة من صور الالتحام بين الفروع والأصول ، بين الشهداء وأرض الفداء إنها سطور معبرة من ملحمة الصمود وتحقيق الذات ، تؤدى إليك بعبارات لا يبدو لك عليها العناء والافتعال .

الحس الموسيقي المتميز :

ومن ملامح شاعرية صاحب هذه المجموعة ، إلى ذلك انه مقتدر على عنصر الموسيقى الداخلية في الوزن الشعري إلى حد كبير .

جمال الديباجة :

فهو يعني أولاً بجمال الديباجة الشعرية عناية تذكرنا بالبحتري الذي قيل فيه أنه أراد أن يشعر فغنى ، إنه في القصيدة الأولى في هذه المجموعة يقول :

مدي يديك فما سواك يراني أعدوا وقد عصبوا يدي ولساني

وفي الثانية يقول :

عيناك مالي أناديها فتعتذر ـ تومي إلي حياءً ثم تستتر

وفي الثالثة يقول :

أقبلت يا ليل قبل أن يصلوا فأينا بالسواد يكتحل

ومثل ذلك تجد في الرابعة والخامسة وغيرها .

إنه ، كما يرى القارئ ، معني في مطالع قصائده بالعناية بالوزن والموسيقى العروضي عناية تتعدى التصريع ، الذي هو تشابه العروض والضرب في البيت الأول ، تتعداه إلى داخل البيت والكلمات والحروف ، فيكون وراء ذلك كله نغم حلو يطرق الآذان والقلوب فيطربها ويبقي أثرها فيها .

بين الموضوع والوزن :

وهو ، ثانياً ، يوائم بين موضوع القصيدة ووزنها العروضي ، وهذا مزيج طبيعي يخرج من تفاعل عناصر التجربة الشعرية تفاعلاً فطرياً أولياً ، فهو في القصيدتين الأولى والثانية يركب البحر الكامل أولاً ثم البسيط ، وفيهما من الغنائية والحركة والانفعال البادي الشيء المعروف ، أما في القصيدة الثالثة فهو يناجي الليل المرخي سدوله وهمومه لذلك يختار البحر المنسرح الذي تومي تفعيلاته بخفض أصوات المناجاة والحديث المهموس .

الصورة الشعرية :

ومع الحس الموسيقي البين ، في هذه القصائد نجد أنها تمور بالصور الشعرية النابضة بالحياة والحركة والتعبير .

ففي قصيدة الشجر المأسور يقول :

عـيـناك يا قدس شيء ثم iiيجذبني
هات أعطني ساعة أنسل من ظمئي
أغـوص فـيها إلى الدنيا فأجمعها


فـيـهـا فـتغرقني أهدابها iiالسمر
فـي غـورها فتلاقيني بها iiالدرر
وأصـعـد الـقمة الكبرى iiوأنحدر

ثم يقول في القصيدة نفسها عن القدس :

فأنت فينا وفي أطفالنا أبدا وهل يخالف قلب الغيمة المطر

أنظر كيف ينسل من ظمئه (وهي صورة شعرية معبرة) ليجد في أرضها (أرض القدس) الري الكافي ، وتأمل كيف يعقد العلاقة بيننا وبين الأرض !!!

وفي قصيدة الشهيد والفأس يقول :

أواه يـا بـلـدي وحبك iiغيمة
ظمئت شفاه بنيك فاعتصرت دماً

حـمراء تنثر في ثراك iiالأنجما
من ساعد يحمي الشفاه من iiالظما

وانظر هنا ، كيف يرى الشهداء في الوطن نجوماً تخر من غيمة حمراء !!

ثم انظر كيف يشرب أبناء الوطن حينما تحزبهم ظروف الظمأ والحاجة !!

إنهم يقضون حاجاتهم على أيدي صغارهم من شهداء الحجارة ، إنهم يسعى بذمتهم أدناهم وفي القصيدة نفسها يقول :

أطـفالنا يا قدس ، صار iiسلاحهم
زرعوا سواعدهم جذوراً في الثرى

دمـهم .. فحق لأرضهم إن تسلما
وسـقوا أصابعهم فصارت موسما

وكذلك نجد الصورة بارزة في كثير من مواضيع الديوان من مثل قصيدة أم الشهيد وقصيدة تباريح بوجه خاص .

الانسيابية :

أما الانسيابية في نظم التراكيب في المجموعة ، فهي أيضاً مما أرى متميزاً في شاعرية هذا الشاعر ، إنه يسحرك ويأخذك من نفسك ويسبيك وأنت تذهب معه في القراءة ، والاستماع وتكون ملتذاً وأنت مأخوذ بما تسمع وتقرأ ، إذا لا يحد من استمتاعك تعقيد لفظي أو معنوي أو التواء .

أستمع إليه يخاطب القدس :

يا قدس كان سوار السور iiملعبنا
فـأين يا قدس أهلونا iiوساحتنا

وكان فيه يموت الخوف والحذر
غاب اللقاء فلا ركب ولا iiسفر

وفي تكرار كلمة القدس في الأبيات دلالة نفسية كبيرة على ما يعتمل نفس الشاعر من علاقة تبدو عضوية جلدية بينه وبين هذه المدينة المقدسة التي فتح عيونه فيها وتفتحت فيها براعم فؤاده وحبه ، أو ليس هذا ما ذكره شاعر كبير من شعراء العصر العباسي الأول :

إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهمو عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا

وإني لأحسب أن شاعر القدس هذا سيظل يصدع بحبه للمدينة السليبة حتى يأذن الله بالقرب والفرج .

والمواضع التي ينسيك الشاعر فيها نفسك ويطير بك على بساط الريح في مجموعة حديث الريح هذه كثيرة ، لا داعي لذكرها ، حفاظاً على جو الاستمتاع الرخي فيها .

الوحدة الموضوعية :

ومن غير المستبعد أن تقود الإنسانية ، أحياناً إلى شيء من قرب الغور والتسطح في التركيب الشعري والتفكير لكنهما عند هذا الشاعر شيء مغاير لذلك تماماً ، حتى ولو عند قراءة بعض قصائده أنها كذلك .

فمن يقرأ قصيدته إلى حفيده بشار قبل أن يصل إلى حمص يحسب الشاعر قد شتت جهوده في الحديث عن التاريخ وعن نهر الأردن وعن الأغوار وعن القدس ، كلا !!! إنها تبدو لي معالم متنوعة في ظاهرها متلاقية في جوهرها حول موضوع واحد هو الجهاد في سبيل الله لتحرير القدس ، عن طريق تلاحم التاريخ بالجغرافيا .

وهذا يقود إلى التعرف على البعد الغوري لمعاني الشعر في قصائده إنه يحافظ على الوحدة الموضوعية في نصوصه جميعها ، فيخرج القارئ بأثر واحد مكتنز من كل نص على حدة ، وهذه قصيدة الجناحان مثال صريح في ذلك وإن كان يبدو أنه يسافر إلى الرمز ، كما يحدث أيضاً في قصيدة الجدار وقصيدة الشموع .

الأدب الإسلامي :

أما ما يصدر عنه من فكر أساس في النظر إلى الموضوع ، في هذه النصوص فهو التصور الإسلامي الذي يسلكه في عداد حملة الأدب الإسلامي وأهله في هذا العصر .

ونحن كنا حماة الأرض ما رفعت يد علينا العصا إلا وننتصر

وهو ادعاء من التاريخ بالنصر الدائم على الأعداء ، لكن الشاعر يتبع هذا البيت بالسبب الذي يكمن وراء هذا النصر الدائم إنه :

عقيدة هي ماضينا وحاضرنا وساعد هو فينا الصارم الذكر

ثم يستلهم ما جاء في حديث الرسول عليه السلام ، متى وعد بالنصر على يهود :

(أنتم شرقي النهر وهم عربيه) ومعنى الحجر والشجر ، فيقول :

ستلتقي حول نار النهر iiأذرعنا
حتى نرى راية الإسلام تجمعنا

وسـوف يقفز من أقدارنا iiالقدر
وينطق الشجر المأسور والحجر

وفي مكان آخر من المجموعة يقول :

لن تزول الدنيا بغير لقاء قادم بيننا فأين البديل ؟

وهذا البيت ترجمة أخرى لبعض أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام .

* * *

شاعر القدس :

والمجموعة الشعرية التي بين أيدينا ويسميها الشاعر حديث الريح باسم إحدى قصائدها ، وفي الاسم ما فيه من الشفافية عن روح المعاناة المستمرة من البعد عن الأرض المقدسة ، أقول هذه المجموعة مزاج من الشعر التقليدي وشعر التفعيلة ، والشاعر يبدو في الشكلين محلقاً مقتدراً ، وإن كانت بحور الخليل أكثر مناسبة لموضوعاته وأفكاره وتراكيبه الشعرية لما فيها من هدير الخطابة والطلب وتوقيع الأداء الحماسي المناسب لمعاني القوة في الصمود والرد والتحدي .

وأختتم هذه الكلمة بهذين البيتين لشاعرنا شاعر القدس :

يا قدس ضميني إليك ففي يدي
يـا قدس ضميني فإني iiخائف

جـرح قـديم لا يزال iiجديداً
ألا أكـون عـلى ثراك iiشهيداً