التحولات الدلالية في شعر محمد بنعمارة

(5)

ذ. محمد دخيسي - وجدة المغرب

[email protected]

3-3- مرحلة القصيدة الإسلامية ودخول التجربة الصوفية

 تشكل هذه النقطة بداية التحول في مسيرة التجربة الشعرية والتحول الدلالي المتميز عند محمد بنعمارة، ذلك أن الانتماء للقصيدة الإسلامية منهجا وسلوكا أضفى على الخصوصية الشعرية بعدا فكريا وفنيا. وقد كان لديوان ( نشيد الغرباء) [1] كبير الأثر في الشعر المغربي المعاصر. ويشكل أيضا :" تغيرا وتحولا كبيرين في الرؤية الشعرية لبنعمارة، بل قطيعة تامة مع نتاجاته الآنفة، على المستويين الجواني والبراني.. فهذا الديوان الفريد من نوعه في المسار الشعري المغربي، صدى للتيار العقيدي، البديل الموضوعي لكافة المعارف والآداب والثقافات الوضعية." [2]

لقد وظف الشاعر في هذه المرحلة كافة أدواته الفنية لتمثيل التجربة الشعرية العقدية، كما نؤكد أن المرحلة ذاتها تنشطر إلى محطتين غير منفصلتين:

أولاهما هي محطة القصيدة الإسلامية المحضة، وفيها خص الشاعر عناصر قصيدته لمستويات متنوعة، وأبعاد عدة، تنهل من العقيدة الإسلامية

رموزها الشخصية، ودلالاتها الإيحائية:" وللطبيعة في هذه المملكة شخوص تعد رموزا لآفاق ومواقف لها تأثيرها في الحياة الإسلامية، وقد جمعت هذه الشخوص عناصر الطبيعة بمستوياتها المتعددة الكونية والنباتية والحيوانية والجامدة." [3]

أما الثانية: فمرحلة الخضوع للرؤية التصوفية، بالتأثر  بأعلامها البارزين، كمحيي الدين بن عربي، والنِّفَّري وغيرهما، والتزود بمعاول النظرة العاشقة للوجود والنهل من النظرة الزاهدة.

إن التحولات الدلالية التي ميزت المرحلة لا تخرج عن إطار التعريف بالقصيدة ومخاطبتها.

 ولقد جلبت المرحلة أيضا الروح الشعرية أبعادا رمزية وأسطورية متنوعة. وجردت اللغة الشعرية من لبوسها العادي إلى الإنتاج الشعري الخلاب. ويلزمنا لقراءة دلالاته العودة دائما للسياق على مستوى التركيب داخل القصيدة نفسها، أو في إطار السياق الشعري العام الذي يطبع التجربة الشعرية.

ولا شك أن دراسة هذا الجانب كما في مبحثنا السالف، لا تخرج عن إطار تأويل المقومات المعجمية في إطارها التركيبي، ورصد التحولات في التجربة التي تميز بين غريب الشعر ومألوفه.

يقول محمد بنعمارة في قصيدة ( يا إحدى المعجزات):

تيجان مملكة النجوم

وهذه الأنثى أسميها بأسمائي

وتبتدئ النهاية

ينتهي فيك الذي لا زلت أكتبه على جدران قلبي

يا أنت يا حرفا ويا وطنا.. [4]

فمملكة النجوم هي القصيدة التي يمارس فيها الشاعر محترفاته الكتابية ويكتبها على جدران الصمت بالأحرف البارزة، ويخطها بدموع عينيه في الآفاق:

والحرف اليانع يذوي اللحظة بين يديك

وهزلت فيه معاني عشقك [5]

فالقرينة السياقية تفي بأن القصد هو النص الشعري ، والدليل الموضوعي للنصوص أو السمات المعنوية تغطي على الغموض الملتبس. والعودة أيضا إلى بعض النصوص تزكي قولنا، وإن كانت تقوم بما لم تقم به الاعترافات السالفة (الحوار). وطبيعة الاختيارات اللغوية تشي إلى كون الشاعر لا يضع اللفظة إلا وهو متيقن أن له مثيلتها هناك لفظا ودلالة. يقول في قصيدة (مملكة الروح):

فأطير بأجنحة القلب، وأنشر هذا الشوق الصاعد في الغيم، ويسترني رمز الماء المتدفق بين ترائبه. معجزتي عشقي: أتوكأ / وأهش به / فيه مآرب أخرى[6]

كما أن الرؤية الإسلامية تحول اللفظ من دلالته العرفية إلى دلالة رمزية، حتى يحافظ الشاعر على خصوصية الحديث عن النص الشعري ومخاطبته بشتى الرموز.

يقول في قصيدة ( بداية النشيد):

وأبعث فيك كتابا يقينا

لنركب في المستحيل البعيد

يقربنا منه وهج النبيئين والشهداء

وما بيننا سورة الصف [7]

فهنا الجمع بين الرؤية الإسلامية والتحول الدلالي المنبثق عن التجربة الشعرية المرتبطة بالنظرة للنص الشعري. كونه كتابا يُركَب فيه للوصول للمعاني البعيدة. ويسائل الحبيبة بقوله في قصيدة ( أغنيات في حدائق شيراز):

هل تقبلين حبيبتي شعرا توهج بالدماء

هل تقبلين ممالكي

شيراز والقرآن يبتدئان [8]

إن الانزياح عن المألوف هو المسوغ وراء هذا التشظي بالكلمات والألفاظ، ويسعى الشاعر من خلاله التنبؤ بمصير الغرباء / الشهداء. يقول في قصيدة (بداية النشيد):

وردة أينع الله فيها دماء الجهاد

وأورق فيها نشيد التجلي

وأورق منها عناد الفصول

وأورق فيها الذي كنت منه بعيدا

فطوبى لك الآن يا موعد الغرباء [9]

فقد أسند الشاعر هنا فعل (أورق) إلى كينونات غير التي وضعت لها:

كيف تورق الوردة بنشيد التجلي؟

كيف يورق منها عناد الفصول؟…

كلها استعارات لمصير الغرباء / المجاهدين، وصور بليغة للتحول عن الصورة المألوفة. كما أن الوردة نفسها رمز للحب تنشد جلب الشهداء إلى حضيرتها، وتزهر من براعيمها حياة ثانية للشهداء.

وينهل الشاعر محمد بنعمارة من شتى الدروب ليكون مملكة روحه التي هي القصيدة الشعرية، ويحول تجربته الشعرية من الواضح إلى المرموز. كما أنه يبرز دور التطور الزمني في تكون تجربة شعرية رائدة ، وينتج الدلالات التي كان يصعب التعامل معها في بداية قول الشعر. لذلك فالنص الشعري - هنا - هو مصدر الحقيقة التي يحملها الشاعر، التي بدونها لا يستطيع اختراق اللغة والإتيان بالجديد.

عبر أحد المختصين في مجال اللسانيات عن هذا التحول وهو يصدر عن تجربة في مجال التحول الدلالي الذي يعتبره السمة الأساسية في ظاهرة الكلام، وإعطاء المحور الزمني دوره في تشكيل التفاعل بين الأصل اللغوي والفرع المتجدد، ويوضح قائلا:" القضية دائرة على محور الحركة الذاتية إذ يمد المجاز أمام ألفاظ اللغة جسورا وقتية تتحول عليها من دائرة الوضع الأول إلى دلالة الوضع الطارئ." [10]

لقد عبر محمد بنعمارة عن أشكال اللغة الشعرية في حواره، وأوضح العلاقات التي تعقد بين اللغة والتعابير الحرة، ذلك أن الشاعر حين يكون أمام موضوع معين فإنه يستغل كل المجالات التي تساهم في بناء العملية الإبداعية، فتخرج القصيدة بأزياء متعددة مستغلا كافة الأجواء التي تبني النص الشعري. وهذا الأمر دائر حتى المجال غير المكتوب أو قراءة ما بين السطور كما تأكد ذلك مع أنصار نظرية التلقي. وساهم في بناء النص أيضا نوع الخط وطريقة الكتابة.يقول إن:" المعادلات الفنية (فهي) تتجدد وفق شروط غير متناقضة مع فلسفة الكتابة. فالكاليغرافية الإسلامية التي هي علم الخط وزعت الكلمات على السطور وظهرت فيها لعبة البياض والسواد.. " [11]

 يبدو أن اتجاه الشعر صوب التحدي القائم على التجاوز، لم يكن وراءه فقط الرغبة الجامحة لتغيير مسير الشعر، بل ساهمت فيه أيضا رغبات الشاعر الداخلية، وتوجهاته الفكرية. وإنْ خلص في أغلب إنجازاته إلى الرمز والمجاز والاستعارة، فذلك لتأكيد التمييز بين الشعر العادي وغيره الجذاب. وإيمان الشاعر بمبادئ لا تقل أهمية عن الاتجاهات الفنية الكبرى التي عرفها تاريخ الشعر العربي.

من هنا كان التصوف - عامة- المصدر الأساس في التوجه الجديد الذي ميز سير التجربة الشعرية عند محمد بنعمارة. وقد آثرنا الجمع بين اتجاه القصيدة الإسلامية والقصيدة المتأثرة بالتصوف.

 كما أن القصيدة الصوفية [12] وهي تنهج هذا الوضع، تتمم من عملية التحول ، وتزكي فرضية نمو التجربة الشعرية المبنية على مرتكز المبدإ والتأثر بالعوامل الثقافية والفكرية.

وبناء على ذلك تحول مفهوم القصيدة عند الشاعر ، وانتبه إلى ضرورة النهل من نبع القرآن أولا ( وبذلك تتأكد ضرورة الجمع في نفس المرحلة) ، والحديث بلغة المتصوفة. يقول في قصيدة ( شيخوخة هذا البحر):

وأسأل ربي

أن ألقاكِ الآنَ

وأخطف منكِ الزمن الحجري

لأنحته تمثالا منحنيا

ثم أصلي من أجلك لتعود إليك الروح

فنصنع لغة الإبصار / الإبحارْ [13]

فالشاعر يبتهل إلى الله كي يوحي إليه بكلمات ومعان تنوِّر طريق القصيدة، وتفتح عليه أبواب الإلهام الشعري ليدخل عالم الإبحار في النص الشعري.  فقد سبق التطرق في تجربة سالفة عن الإبحار وما كان يدل من خلاله على الغوص في الأفكار المشنقة.. فالإبحار يعني دائما عنده الخوض في مضمار النص الشعري، لكن المصدر الملهم تحول من حالة عادية إلى منهل صوفي رحب. يقول في قصيدة ( هذا البدء: أريجك وهران):

الآن ترتل نورسة البحر نشيد الإبحارْ

الآن ترى وهران مدى هذا الموج

وتزرع في الشاطئ حرفا صوفيا

الآن ترش العطر

وتنقش فوق رخام الشعر شذاها [14]

فالقصيدة عند الشاعر دائمة التحول والانتقال من حالة لأخرى، ويعطي محمد بنعمارة الشرعية لتحولات الدلالة عنده، فيستلهم أهم مقومات التصوف ويبثها في قصائده. نذكر في هذا المجال أهمها ولنا عودة للحديث عنها في فصل موال.

              

[1] - محمد بنعمارة: نشيد الغرباء، مطبعة النور، تطوان،ط- 1، 1981.

[2] - العربي بنجلون: أبعاد النص (م- س)، ص- 65.

 [3] - صابر عبد الدايم: الأدب الإسلامي بين النظرية والتطبيق، دار الأرقم للطباعة والنشر والتوزيع، الزقازيق، ط- 1، 1990، ص- 117.

[4] - محمد بنعمارة: نشيد الغرباء، ص- 26.

[5] - نفسه: قصيدة غنائيات النوارس الحزينة، ص- 32.

[6] - محمد بنعمارة: مملكة الروح،منشورات المشكاة، المطبعة المركزية، وجدة، 1987، ص- 36.

[7] - محمد بنعمارة، نشيد الغرباء، ص- 7.

 [8] - محمد بنعمارة: (م- س)، ص- 24.

[9] - محمد بنعمارة: (م- س)، ص- 8.

[10] - عبد السلام المسدي: قاموس اللسانيات، مع مقدمة في علم المصطلح، الدار العربية للكتاب، 1984، ص- 45.

[11] - محمد بنعمارة: حوار سابق، ص- 64.

[12]span> - سميت القصيدة الصوفية تمييزا عن القصيدة المتأثرة بالاتجاه الصوفي لتأكيد أمر بالغ الأهمية، ذلك أن محمد بنعمارة في هذه المرحلة نجد بعض قصائده عبارة عن ابتهالات صوفية ، وسمى بعضها أناشيد، وأكد القول ذاته د- محمد السرغيني في مقدمة ديوان السنبلة.

[13] - محمد بنعمارة: ديوان السنبلة، دار الأمان للنشر والتوزيع، الرباط،ط-1، 1990، ص- 16.

[14] - محمد بنعمارة: ( م-س)، ص- 53.